- تصنيف المقال : شؤون فلسطينية
- تاريخ المقال : 2017-09-10
جريك كارلستروم*: يعانى ما يقرب من مليونى شخص فى قطاع غزة من مشقة شديدة بعد 3 حروب، وتعرضهم للحصار العسكرى المستمر منذ عقد من الزمان، فأزمة الطاقة هذا الصيف ليست سوى الأحدث فى قائمة طويلة من النقص فى كل شىء من مياه الشرب، وغاز الطهى، إلى الأسمنت، والسيارات، ولكن هذه المرة شىء واحد مختلف: المشكلة قد خلقها فلسطينيون آخرون.
وحتى وقت قريب، كانت إسرائيل توفر لغزة نحو نصف الطاقة الكهربائية التى تستهلكها، والسلطة الفلسطينية هى التى كانت تدفع المقابل المادى، لكن فى إبريل الماضى، قرر الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، تقليل هذه المدفوعات بنسبة 40%، وبالفعل وافق مجلس الوزراء، يوم 11 يونيو، بناء على طلب من السلطة الفلسطينية والأمن الإسرائيلى، على خفض كبير فى كمية الطاقة المقدمة للقطاع، حيث بات يحصل معظم سكان غزة على 4 ساعات فقط من الكهرباء فى اليوم، تليها انقطاعات تصل لمدة 12 ساعة متواصلة، والآن، باتوا يحصلون على حوالى ساعتين ونصف فقط.
ويعد هذا التخفيض، فى جزء منه، بمثابة محاولة للفوز بعلاقات جيدة مع (الرئيس الأمريكى) دونالد ترامب، الذى قال مرارًا إنه يريد عقد «الصفقة الكبرى» بين إسرائيل والفلسطينيين، وقد كلف ترامب محاميه، جيسون جرينبلات، وصهره، جاريد كوشنر، بإحياء عملية السلام المحتضرة بين الطرفين، وأعرب عباس عن أمله فى أن يؤدى فرض عقوبات على غزة، التى تسيطر عليها حركة (حماس)، إلى تعزيز موقفه.
ولكن جهود ترامب اصطدمت بالفعل بالحقائق على الأرض، فالحكومة الإسرائيلية منقسمة، كما أن نظيرتها الفلسطينية لا تحظى بشعبية، وقد قام كوشنر برحلة سريعة للمنطقة، فى منتصف يونيو، للاجتماع مع قادة الطرفين، وفى الأيام التى سبقت زيارته وبعدها، أعلنت إسرائيل عن خطط لبناء 7 آلاف منزل جديد فى القدس الشرقية المحتلة.
وبحلول منتصف الصيف، أعرب الفلسطينيون عن شعورهم بالإحباط بشكل علنى لما اعتبروه موقفًا مؤيدًا لإسرائيل من كبار مساعدى ترامب، لكن عباس لم يتخل عن قراراته بخفض الكهرباء، ووقف شحنات الدواء إلى غزة، وخفض رواتب عشرات الآلاف من موظفى الخدمة المدنية هناك، فهذه القرارات لا تعد مجرد قرارات سياسية، بل هى أيضًا جزء من معركة فلسطينية داخلية طويلة الأمد، تستحوذ الآن على اهتمام أكبر من المعركة ضد إسرائيل.
وطالما كان الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال هم الطرف الأضعف فى الصراع مع إسرائيل، فقد خاضوا، على مدى عقود، معركة مكلفة للغاية، ففى السنوات التى تلت حرب عام 1967، قاموا باحتجاجات جماهيرية من المنفى فى بيروت، وعمان، وتونس، وجاءت ذروة هذه الاحتجاجات فى أواخر الثمانينيات، مع بداية الانتفاضة الأولى، والتى استجابت لها إسرائيل بقوة قاسية، ما أسفر عن مقتل وإصابة الآلاف من المتظاهرين، وهو ما وصفه وزير الدفاع إسحق رابين بعد ذلك بسياسة «كسر العظام»، الأمر الذى لاقى انتقادات حادة من الخارج، وساعد على تحفيز عملية دبلوماسية توجت فى أواسط التسعينيات باتفاقية أوسلو التى منحت الفلسطينيين قدرًا من الحكم الذاتى.
وكان من المفترض أن تستمر أوسلو لمدة ٥ سنوات، وهى خطوة مؤقتة نحو التوصل إلى اتفاق سلام نهائى، لكن سرعان ما اصطدم الشعور بالتفاؤل بالانتفاضة الثانية، ومن هنا تباينت الاستراتيجية الفلسطينية، فقد خاضت حماس 3 حروب، ونفذ الفلسطينيون الشباب مئات من هجمات الذئاب المنفردة فى الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وإسرائيل، وفى الوقت نفسه، شنت السلطة الفلسطينية معركة دبلوماسية ضد تل أبيب، وانضمت إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحصلت على اعتراف من الأمم المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية.
لكن أياً من هذه التحركات أجبر إسرائيل على تقديم تنازلات، وعلى مدى العقد الماضى، قتل الفلسطينيون نحو200 إسرائيلى، أى أقل من نصف العدد الذى قتله الإسرائيليون فى عام 2002 فقط، وهو العام الذى شهد ذروة الانتفاضة الثانية، ويتعامل المشرعون مع العنف على أنه أمر لا مفر منه، فحتى فى ذروة حرب غزة الأخيرة، جذب أكبر تجمع مؤيد للسلام فى تل أبيب نحو 5 آلاف متظاهر فقط، وعلى النقيض من ذلك، فقد تظاهر ما يقرب من نصف مليون إسرائيلى، فى صيف عام 2011، احتجاجًا على ارتفاع تكلفة المعيشة، وفى الوقت نفسه، لم تكن الجهود الدبلوماسية التى بذلها عباس تصل إلى حد كبير يستطيع أن يضغط على إسرائيل.
وبدلًا من ذلك، فقد أمضى الفلسطينيون السنوات الـ10 الماضية فى القتال فيما بينهم، فكل من حماس، ومنافستها العلمانية، فتح، تدير أراضيها مثل الدول البوليسية، حيث يعملون على مضايقة وسجن الصحفيين، والناشطين، وحتى المواطنين العاديين الذين ينشرون رسائل تنتقدهم فى مواقع التواصل الاجتماعى، وبعد مرور عقد من الزمن على تولى كل منهما الحكم، لا يريد أى منهما إجراء انتخابات، وبعيدًا عن تحقيق حل الدولتين، فقد خلقوا واقعًا من 3 دول: دولتان متهالكتان تهيمن عليهما إسرائيل قوية ومزدهرة.
وعلى الرغم من أن وضع إسرائيل بعد 5 عقود من بدء الاحتلال، كدولة يهودية وديمقراطية، لايزال معرضًا للخطر على المدى الطويل، فإنها استطاعت هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى حد كبير، حيث لم يتم تحقيق أى من أهداف فلسطين الوطنية، فقد فشلت القيادات فى تحقيق أى شىء.
وفى إبريل، بدأ آلاف السجناء الفلسطينيين، فى السجون الإسرائيلية، إضرابًا عن الطعام، وهى أكبر مظاهرة جماهيرية منذ سنوات، وقد نظمها مروان البرغوثى، وهو زعيم بارز فى حركة فتح، للمطالبة بشروط أفضل، ولكن حتى هذا الانتصار كان هزيمة للسلطة الفلسطينية.
وقد تولى عباس، البالغ من العمر 82عامًا، منصبه فى عام 2005، لما كان من المفترض أن يكون مدة 4 سنوات، ولكنه لايزال فى السلطة، ولا يوجد أى خطط للاستقالة، وهو مدخن شره، وقد خضع لجراحات فى القلب مرتين، ولكنه لم يفعل شيئًا للتخطيط لخلفه، كما أنه ليس لديه العديد من الخيارات الجيدة، فنائبه، محمود العالول، قد تم اختياره بسبب ولائه لعباس، وهناك منافس آخر هو جبريل الرجوب، وهو رئيس سابق للشرطة السرية، وهو المحبوب لدى الجنرالات الإسرائيليين، وذلك لاعتقاله الإسلاميين، كما يخضع المرشح الأكثر شعبية، البرغوثى، لـ5 أحكام بالسجن مدى الحياة لتنظيمه هجمات مميتة خلال الانتفاضة الثانية.
ويشعر أكثر من ثلاثة أرباع الفلسطينيين بأن حكومتهم فاسدة، وردًا على سؤال عن أكبر مشكلة فى مجتمعهم، اختار غالبية المستطلعين الفقر، والبطالة، والفساد، والانقسام السياسى بين حماس وفتح، فيما قال 27% من الفلسطينيين إن الاحتلال يشكل أكبر مصدر قلق له، وفقًا لما ذكره المركز الفلسطينى لبحوث السياسات.
وقد وصلت حماس للسلطة فى غزة فى عام 2007، بعد فترة طويلة من الاقتتال الداخلى الذى أعقب فوزها فى الانتخابات التشريعية، ومنذ ذلك الحين، خاضت 3 حروب ضد إسرائيل، وآخرها، فى صيف عام 2014، استمرت لمدة 51 يومًا، وهى فترة أطول بكثير مما توقع أى شخص، وكان ذلك مدمرًا بالنسبة للفلسطينيين، فقد قتلت القنابل الإسرائيلية أكثر من 2200 شخص، وأدت إلى تشريد 100 ألف شخص، وتدمير البنية التحتية للقطاع.
لكن حماس واصلت إطلاق الصواريخ حتى لحظات قبل وقف إطلاق النار فى 26 أغسطس، وهى تعتبر أنها انتصرت فى هذه الحرب، وذلك ليس لأنها حققت أيا من أهدافها الاستراتيجية، بل لأنها ببساطة نجت منها، وتتحدث الحركة بنفس المنطق عن الوضع الأوسع فى غزة، فعلى الرغم من كل المصاعب، فإن حماس تدعى أنها حررت غزة من المشاكل اليومية للاحتلال، كما ترفض التخلى عن الحكم، غير أن عددًا متزايدًا من سكان غزة لا يشعرون بهذه الحرية على الإطلاق.
وقد كانت حماس دائمًا مقسمة بين جناحها العسكرى المتشدد، وفرعها السياسى المعتدل نسبيًا، وفى أوائل عام 2015، كتب غازى حمد، وهو عضو برجماتى فى المكتب السياسى للحركة، افتتاحية، غير عادية، بعنوان «كيف ولماذا فقد العرب فلسطين»، فقد كان مقالًا نادرًا من النقد الذاتى، حيث أكد فيه أن أعضاء حماس وفتح، ركزوا على مصالحهم الضيقة الخاصة، وعلى الحفاظ على الاستمرار فى الحكم بدلاً من تحرير الفلسطينيين.
وقد أظهر الزعيم الجديد فى غزة، يحيى سنوار، وهو فى الواقع الرجل الثانى فى حماس، ورئيسه إسماعيل هنية، مؤخرًا، درجة غير عادية من الرغبة فى التوصل إلى حل توفيقى مع إسرائيل، وفى مايو، كشفت حماس عن وثيقة سياسية جديدة تهدف إلى تعديل ميثاق تأسيسها فى عام 1988، فقد تخلت فيها عن اللغة المعادية للسامية، والتى كانت تتكلم عن حرب ضد اليهود، ولعل الأهم من ذلك أنها قبلت فكرة قيام دولة فلسطينية على طول حدود ما قبل عام 1967، ووصفتها بأنها صيغة يقبلها توافق الآراء العام، ولكن ذلك لا يعد تغييرًا كاملًا، فالحركة لاتزال لا تعترف بإسرائيل، ومع ذلك فإن بعض قادتها القدامى يدركون أن الحرب الرابعة مع إسرائيل من المرجح أن تنتهى بكارثة.
ولذلك فإن هناك رغبة فى تجنب ذلك الهجوم المقبل، وهناك حديث جاد عن التوقيع على وقف مطول لإطلاق النار مع إسرائيل مقابل ميناء بحرى، وهى خطوة من شأنها أن تضع حدًا فعليًا للحصار، فمن شأن وجود ميناء بحرى، أو أى خطوات أخرى ذات صلة، أن يربط غزة بالعالم الخارجى، وأن يعزز حلًا واقعيًا لوجود 3 دول.
وفى ديسمبر الماضى، كان للفلسطينيين فترة قصيرة للاحتفال: أصدر مجلس الأمن الدولى قرارًا قال فيه إن المستوطنات الإسرائيلية «ليس لها شرعية قانونية»، وبعد 8 سنوات من الإحباط من رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، قرر (الرئيس الأمريكى السابق) باراك أوباما الامتناع عن التصويت بدلًا من استخدام حق النقض، وقال نبيل شعث، وهو دبلوماسى فلسطينى مخضرم: «إنها خطوة لم تجرؤ عليها الإدارة الأمريكية منذ عقود».
وبعد مرور 6 أشهر على هذه الواقعة، وافقت إسرائيل على خطط لبناء 5 آلاف منزل جديد للمستوطنين فى الأسابيع القليلة الأولى بعد تنصيب ترامب، ثم دفعة كبيرة أخرى، فى يونيو، بعد أسابيع من زيارة الرئيس للمنطقة، واعترف كبير مبعوثى الأمم المتحدة إلى المنطقة، نيكولاى ملادينوف، فى يونيو، بأن إسرائيل تجاهلت القرار.
ومن غير المرجح أن يكرر البيت الأبيض هذه الخطوة فى السنوات القليلة المقبلة، وقد عملت الولايات المتحدة على قيادة «عملية السلام» منذ أكثر من عقدين من الزمان، وذلك منذ تلك اللحظة الرمزية عندما تصافح 4 قادة إسرائيليين وفلسطينيين، ووقعوا على اتفاقية أوسلو فى حديقة البيت الأبيض، عقد (الرئيس الأمريكى السابق) جورج دبليو بوش مؤتمرًا لمناقشة «خارطة الطريق من أجل السلام»، وكان لدى أوباما أيضًا مبادراته التى لم يكشف عن اسمها، والتى انتهت أيضًا بالفشل، ولكن من السابق لأوانه أن نقول إلى أى مدى سيبقى ترامب على نفس الطريق، وما إذا كان سيعقد قمة للسلام، أو سيتخلى عن العملية.
غير أنه من المثير أنه خلال المؤتمرات الـ6 التى عقدها، خلال زيارته التى استمرت 25 ساعة، لإسرائيل والضفة الغربية، فى الربيع الماضى، لم يستخدم ترامب عبارة «حل الدولتين» ولو لمرة واحدة، ورأى العديد من الفلسطينيين أن ذلك يعد بمثابة اعتراف ضمنى بأن عملية السلام قد فشلت.
وبالنسبة للفلسطينيين الأكبر سنًا، فإن هدفهم لايزال هو إقامة دولة فلسطينية على طول حدود ما قبل عام ١٩٦٧، فيما يرى جيل الشباب أن هذه الفكرة عفا عليها الزمن، فالعقود من النضال، فى ساحة المعركة، وحول طاولة المفاوضات، فشلت فى تقديم دولة، وفى العام الماضى، انخفض دعم حل الدولتين إلى ما دون 50%.
وليس لدى إسرائيل بديل عن «تحالفها غير القابل للكسر» مع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن حلفاءها الجدد فى أفريقيا وآسيا هم شركاء تجاريون مفيدون، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقدموا حق النقض فى مجلس الأمن، ولا المليارات من المساعدات العسكرية السنوية التى حافظت على التفوق العسكرى لإسرائيل على جيرانها.
وطالما حذر السياسيون الإسرائيليون البارزون من التهديد الخطير الذى تشكله مقاطعة إسرائيل كعقاب على احتلالها لفلسطين منذ نصف قرن، وحتى لو كانت استراتيجيتها ستأتى بنتائج عكسية فى نهاية المطاف، فإن يوم الحساب يبدو بعيًدا، فقد تضاعفت الاستثمارات الأجنبية فى إسرائيل أكثر من 3أضعاف منذ بدء حركة المقاطعة، وازدادت الصادرات إلى الاتحاد الأوروبى، أكبر شريك تجارى لها، بنسبة أكثر من 30%.
ولا يملك الفلسطينيون سوى القليل لتقديمه لحلفائهم، فبعد 50 عامًا من الاحتلال لا ينتج اقتصادهم، المعتمد على المعونة، شيئًا ذا قيمة، وقد كان صناع القرار الغربيون يشجعون نظرية «الربط»، وهى أن حل الصراع الإسرائيلى- الفلسطينى سيحقق السلام فى الشرق الأوسط، إلا أن هذه الفكرة لا تجد من يؤيدها الآن، فكافة الدول العربية، من مصر إلى الخليج، باتت حريصة على إقامة علاقات أوثق مع إسرائيل، التى يعتبرونها شريكًا مفيدًا فى مكافحة الإرهاب وإيران، فلم يعد الفلسطينيون هم القضية الأساسية الآن، فهم ليسوا فى وضع جيد، كما أنه ليس لديهم بطاقات جيدة للعب بها ضد إسرائيل، فلا يملكون سوى أن يأملوا فى أن يجلب الجيل القادم بعض الأفكار الجديدة.
المصري اليوم نقلًا عن مجلة "نيوزويك" الأمريكية