لافتات ملونة كتب عليها «نعم» ما زالت معلقة في برشلونة على الشرفات، وهي الشاهد على دراما الاستفتاء الشعبي الذي جعل كتالونيا في حالة اضطراب كبيرة. «أهلا وسهلا بك في اسبانيا!»، هكذا رحب بالضيف بابتسامة ذات مغزى. لقد ولد وعاش في كتالونيا، ولكنه يتحدث الاسبانية في الاساس، ويتعاطف مع طلب الاستقلال، لكنه يخشى من انهيار الاقتصاد. وهو يجسد عقدة التناقضات التي تجثم فوق كتالونيا. هي غنية جدا لكنها تعاني من التمييز، وسكانها هم مواطنون اسبان، واسبانيا الآن هي ديمقراطية حيوية، لكن هناك من يتحدثون عن «الاحتلال»، وتوجد لها صلاحيات وميزانيات لتطوير الثقافة واللغة الكتالونية، رغم أنها لغة الأم لأقل من نصف السكان.
يمكن التعاطف مع المشاعر القومية للكتالونيين الذين عانوا في فترة الحكم الفاشي وقبله، وسيكون من الجيد اذا تمكنت كتالونيا من الاحتفاظ بمداخيلها لنفسها بدل تقاسمها مع مناطق اسبانية فقيرة. ولكن بالاجمال، ما هو السيء اليوم؟ كتالونيا هي مكان مرغوب فيه، وهي مكان يجذب الثقافة والعلم والرياضة. كل شيء يوجد هناك. والتذمر الاساسي هو من طوفان السياح، وقد كنا نأمل أن يكون هذا الطوفان لدينا. لماذا نهز هذه السفينة؟ يوجد لها نظام مستقل هو الاوساع من نوعه في اوروبا، واذا حظيت بالاستقلال فسيكون طموحها الاكبر هو الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وهي موجودة هناك كعضوة محترمة. وبشأن المال، كدولة غنية يجب عليها دعم الدول الاخرى (واسبانيا) عن طريق الاتحاد الاوروبي. فلماذا كل هذه الفوضى؟ لا يوجد هناك أي منطق.
اقليم برشلونة هو وطن لأكثر من ثلثي سكان كتالونيا. وهو أحد الاماكن المزدهرة ليس فقط في اسبانيا، بل في كل اوروبا. تطوير حضري ممتاز، معالم هندسة معمارية، مطاعم مزدهرة. الوفرة توجد في كل زاوية. مركز تجاري يتطور بوتيرة سريعة، ومصنف بين الأوائل من حيث مستوى الحياة في العالم. وليس غريبا أن الجمهور تظاهر من اجل البقاء في اسبانيا. بالطبع كل ما تم ذكره لا يبرر العنف الذي استخدمته شرطة اسبانيا ضد السكان الذين ارادوا التصويت في الاستفتاء. وما حدث هنا هو مسيرة كبيرة للحماقة: قرار حكومة كتالونيا اجراء الاستفتاء كان خطأ كبيرا، تعليمات مدريد لمنع ذلك بالقوة كانت عملا بائسا، قرار برلمان كتالونيا «منح التفويض» لرئيس الولاية من اجل الاعلان عن الاستقلال هو أمر اعتباطي ورد اسبانيا الذي حدد للرئيس انذار نهائي هو عمل غبي. منذ الاستفتاء هربت من هناك مئات الشركات ومن بينها بنوك. ويقولون الآن إنه لا يوجد في اسبانيا ما يكفي من السلالم من اجل انزال زعماء الولاية والدولة عن الاشجار العالية التي تسلقوها في هذه الازمة التي لا لزوم لها.
في اليمين الاسرائيلي كان هناك من فرحوا بالضائقة الاسبانية، لأن اسبانيا «معادية لاسرائيل وتؤيد الفلسطينيين». والآن «سنريهم ماذا يعني ذلك». هذا الادعاء مثير للضحك ويدلل على الجهل في افضل الحالات وعلى الكذب في اسوأ الحالات. في كل المجالات وفي كل المعايير يوجد فرق كبير بين الفلسطينيين وبين كتالونيا أو منطقة الباسك وفلاندريا وأي منطقة اخرى في غرب اوروبا: الحقوق الاساسية مثل حرية الحركة والاحتلال العسكري والعنف والوضع الاجتماعي البائس – قمع شديد للنزاع القومي الذي هو ليس مجرد قصة تاريخية، لكنه واقع مشتعل ويسفك دماء اليهود والعرب.
إن امتحان التطلع الى الاستقلال هو قبل كل شيء امتحان لحقوق الانسان: هل لابناء الجماعة توجد مساواة في الحقوق امام القانون، تمثيل مناسب، قدرة على الانتخاب والترشح لكل المؤسسات وحماية اجتماعية؟ هل الحقوق القومية التي هي حقوق مشروعة تجد لها اجابة مناسبة في الاطار القائم، أو أنه يجب انشاء اطار سيادي جديد؟ حسب هذه الاختبارات كانت هناك عدالة كبيرة في النضال الصهيوني وفي مطالبة اليشوف اليهودي بدولة. كذلك يوجد عدل وشرعية ايضا في النضال الفلسطيني من اجل اقامة دولة الى جانب اسرائيل، وليس مكانها. وكتالونيا؟ يجب عليها البقاء في اسبانيا، وأن تواصل ازدهارها.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف