تبدو العناوين الأولى اليوم كأنها مأخوذة من القرن الماضي: السوريون يطلقون قذائف على أراض مفتوحة، إسرائيل تردّ وتدمر مدافع سورية، الإيرانيون يهددون بنشر قوات شيعية في سورية، إسرائيل تعلن "خطوطاً حمراً" وتهدد بمواجهة عسكرية، "حماس" و"فتح" تجريان اتصالات عقيمة لتأليف حكومة وحدة، رئيس الحكومة يعلن القطيعة مع الفلسطينيين، والجميع هنا يصفقون للمستوى السياسي – الأمني. لقد أثبتنا لأعدائنا ما هو الردع.
لكن ما يجري هنا هو سياسة أمنية خرقاء، استعراض زائف لزعامة لا ترى ما هو أبعد من أنفها إلا بصعوبة، ومشغولة من الصباح حتى المساء في إطفاء الحرائق. زعامة ترى الأمن القومي من خلال قشة إقليمية رفيعة. كل ما هو غير "حزب الله" و"حماس" وإيران، كأنه غير موجود. وكأن العالم من حولنا لم يتحرك في العقود الأخيرة، وما نزال عالقين في عهد حلول استخدام القوة من طراز العمليات الانتقامية والعقابية كتطبيق للسياسة الأمنية المركزية. إن القيادة السياسية الأمنية الحالية لا تحل مشكلات ولا تواجهها، بل هي ببساطة تؤجلها إلى الجيل المقبل من خلال استخدام القوة.
لقد تبلورت العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إذا كان هناك وجود لها، في مكان ما في عهد الحرب الباردة. حينها كانت هناك قوتان عظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وكانت لهما سيطرة كاملة على إنتاج واستخدام السلاح النووي. ومع مرور السنوات بلورت الدولتان قواعد لعبة وأسستا لردع متبادل. وكان احتمال أن تؤدي مواجهة محلية في أي زاوية من الكرة الأرضية إلى إشعال صراع نووي احتمالاً منخفضاً. في حرب "الأيام الستة" وفي "حرب الغفران" هدد الروس باستخدام السلاح النووي بهدف لجم الانجاز الإسرائيلي. لكن ثمة شك في أنهم كانوا مستعدين للدخول من أجل ذلك في مواجهة نووية مع الأميركيين.
لكن الزمن تغير. يوجد اليوم في العالم تسع دول نووية. وهي تتحرك في ساحات مختلفة، مع قواعد لعبة مختلفة، وتهدد باستخدام سلاحها النووي أيضاً في نزاعات محلية. على سبيل المثال الهند وباكستان. لا توجد اليوم قوانين لعبة واضحة، كما لا توجد رقابة على كميات الصواريخ التي تستطيع أن تحمل رأساً نووياً متفجراً. الباكستانيون لا يكلفون أنفسهم عناء صنع صواريخ يستطيعون وقفها عن العمل بعد إطلاقها في حال حدوث خطأ، ولا أحد يفهم المنطق الذي تفكر فيه كوريا الشمالية. لا غرابة والحال كذلك أن تكون اليابان وكوريا الجنوبية على عتبة التحول إلى دول نووية، والإيرانيون يحذون حذوهما.
لقد أصبح العالم اليوم مكاناً أكثر خطورة بكثير من ناحية التهديد النووي بالمقارنة مع ستينيات وثمانينيات القرن العشرين، وسوف يتفاقم ذلك في القرن المقبل عندما ستنضم إلى الحلقة النووية دول إضافية. في عالم شديد الانفجار من هذا النوع، يجب أن نكون حذرين جداً عندما نبني البوابات، وليس مهماً في أي زاوية من زوايا الكرة الأرضية. عندما تقوم بقصف سورية يجب أن تأخذ في الحسبان أن هذا يمكن أن يتسبب بسلسلة ارتدادات إقليمية وربما عالمية. مثلما يمكن أن تصل إلى هنا الردود على خلفية أزمة بين الهند وباكستان، أو نتيجة أزمة نووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
في مثل هذا الوضع الناشئ من لعبة نووية غير واضحة، أصبحت دول العالم أقل اعتماداً على القوة العسكرية لحل المشكلات، وتعتمد أكثر على استخدام "القوة الناعمة". والمقصود هو استخدام آليات لا تؤدي إلى مجموعة تفجيرات من أجل تحقيق أهداف سياسية: مثل استخدام جهود دبلوماسية، وضغوط اعلامية واقتصادية، وحرب نفسية، وقتال سيبراني، وعمليات سرية تقوم بها قوات خاصة وأجهزة استخبارات، وعدم ترك بصمات واضحة لدى ضرب الخصم والمحافظة على "هامش غموض" كي لا يضطر العدو إلى الرد. باختصار: عدد دبابات أقل وحكمة أكثر.
لكن إسرائيل لم تصل بعد إلى ذلك. ولم يكن مصادفة استبعادها عن الاتفاق النووي مع إيران وعن الاتفاق في سورية، لأنها لا تستخدم بصورة صحيحة، أو لا تستخدم البتة، الوسائل "الناعمة" التي في حوزتها من أجل تحقيق انجازات إقليمية – سياسية. وعندما تفشل في استخدام قدرات ناعمة، ما يبقى لك هو أن تقصف، كما اعتدت، ثلاثة مدافع سورية وتوهم الجمهور أنك حللت المشكلة.
تملك إسرائيل قدرات "ناعمة". ودفع "حماس" إلى أحضان المصريين وإخراج "الإخوان المسلمين" من غزة هو نموذج على إنجاز استراتيجي ولد نتيجة خطوات اقتصادية ودبلوماسية صحيحة. لسنا مجبرين دائماً على ضرب رأسنا في الحائط.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف