في الوقت الذي تنشغل فيه وسائل الاعلام بالتقارير عن مبادرات لسن قوانين مشكوك فيها وبالخلافات حول مسألة كيف سيتم احياء الذكرى السنوية لقتل رابين، فان اسرائيل تغرق عميقا داخل حالة طوارئ أمنية، لا يشعر بها الجمهور تقريبا. فجر الجيش الاسرائيلي، الاثنين الماضي، نفقا لـ «الجهاد الاسلامي» تم حفره تحت الجدار الحدودي في قطاع غزة. وبعد يومين، حسب تقارير من الشمال، هاجم سلاح الجو مخزناً للسلاح تابعاً لـ «حزب الله» وسط سورية، وقامت بطاريات سورية مضادة للطائرات باطلاق صواريخ باتجاه الطائرات الاسرائيلية في سماء لبنان. وقد تم الغاء تجربة لصفارات الانذار كان من المقرر إطلاقها وسط البلاد من اجل عدم زيادة توتر المواطنين، لكن في حينه استيقظ نصف سكان منطقة دان في منتصف الليل بسبب انذار كاذب.
كل ذلك لا يعتبر طبيعياً في الحقيقة، حتى لو بدا أننا اعتدنا على ذلك. الهجمات في سورية – التي بالامكان تقدير أن كل واحدة منها محقة، وتكتيكية بحد ذاتها – تفحص حدود تحمل نظام الاسد. الحاكم السوري، الذي أعادت له نجاحاته القاتلة في الحرب الاهلية الثقة بالنفس، غيّر بالفعل سياسته: طلعات اسرائيل في السماء اللبنانية تم الرد عليها مؤخرا باطلاق صواريخ ارض – جو. ورغم أنه من المعقول أن سلاح الجو مدرب بما يكفي للتملص من النيران، إلا أنه يبدو أن اسرائيل تشد الحبل الى درجة تقترب من النهاية. في وقت ما، فان أحداً ما سيتورط بهذا الهجوم أو بالرد الذي سيعقبه. من هنا فان الحذر والحساسية مطلوبة للامساك بالدفة في الجبهتين الشمالية والجنوبية. وليس غريباً أن القيادة العليا في الجيش غير متحمسة لتوزيع الأوسمة العلنية على قتل «المخربين»، كما قال عضو الكابنت، وزير التعليم نفتالي بينيت.
ايضا التصعيد الاخير في غزة لم ينته بعد. في اسرائيل استغربوا بدرجة معينة الصمت المطبق للفلسطينيين بعد تفجير النفق، الذي قتل فيه على الاقل 15 شخصاً من «الجهاد الاسلامي» و»حماس»، من بينهم قادة كبار. ربما يكون «الجهاد» يخطط لعملية كبيرة تحتاج الى استعداد كبير، أو أنه في الجانب الثاني ينتظرون الفرصة لاستغلال نقطة ضعف في نظام دفاع الجيش الاسرائيلي في الحدود مع قطاع غزة. محاولة القيام بعملية انتقامية يمكن أن تحدث ايضا في الضفة الغربية. في الجيش الاسرائيلي اتخذ قرار بمواصلة حالة التأهب بمستوى عال، رغم أن هذا الوضع لا يشعر به السكان تقريبا في غلاف غزة (باستثناء حظر مؤقت على اقتراب المزارعين من الجدار).
من الواضح مع ذلك أنه يوجد لـ «حماس»، الآن، سلم أولويات آخر، على رأسه يقف تطبيق اتفاق المصالحة مع السلطة الفلسطينية واستغلال المزايا الايجابية الكامنة فيه، مثل تخفيف الحصار المصري في معبر رفح وزيادة متوقعة للتمويل من رام الله. يبدو أن «حماس» متحمسة للاتفاق أكثر من السلطة الفلسطينية التي تتقدم بحذر. في هذه الاثناء أدى الاتفاق الى تحسين التنسيق الامني بين السلطة واسرائيل. أمر محمود عباس بخفض مستوى العلاقات بعد ازمة الحرم في تموز الماضي. ولكن الآن السلطة بحاجة الى اسرائيل من اجل التنسيق اليومي لانتقال وزراء وبعثات من رام الله الى غزة. حصلت إسرائيل في المقابل على موافقة صامتة على انتهاء الازمة وتجديد الاتصال مع مستويات عليا. مع ذلك، الازمة مع الاردن – التي بدأت نتيجة المواجهة حول الحرم واستمرت في الحادثة التي قتل فيها رجل حراسة في السفارة الاسرائيلية في الاردن مواطنين اردنيين بعد مهاجمته – تستمر في التعقيد. عمان بقيت غاضبة وتحمل الضغينة، ولا تريد أن تعيد السفيرة التي شاركت رغما عنها في الاحتفالات التي نظمها رئيس الحكومة نتنياهو لرجل الحراسة عند عودته الى البلاد.
«الجهاد الاسلامي»، وهو التنظيم «الارهابي» الثاني من حيث حجمه في القطاع، حافظ خلال السنين على تنسيق العمليات مع «حماس». بعد عملية «الجرف الصامد» في صيف 2014 التي كشف فيها للمرة الاولى عن حجم مشروع انفاق «حماس»، بدأ «الجهاد» ايضا بحفر الانفاق الهجومية. الاول منها على بعد 2 كم من كيسوفيم، وهو الذي تم تفجيره في هذا الاسبوع. العاصفة المصطنعة التي خلقها اليمين حول اعتذار متحدث الجيش الاسرائيلي على قتل قادة في النفق (الذي لم يحدث) حرفت النقاش عن الانجاز الباهر للجيش الاسرائيلي.
يبدو أن مسيرة مخططا لها لاستخدام قدرات تكنولوجية وهندسية واستخبارية بدأت تعطي ثمارها، قبل استكمال بناء العائق في حدود القطاع. المهمة الاساسية التي ألقاها رئيس الاركان على قائد المنطقة الجنوبية، ايال زمير، هي ايجاد الرد على الانفاق الهجومية. العقيدة التي تبلورت هي عقيدة صحيحة. وبعد ذلك سيضاف اليها الجدار، نوع من المقصلة التي ستشق النفق الى نفقين. تريد اسرائيل أن تغير بذلك ميزان الردع بخصوص الانفاق: إعطاء اشارات لقيادات المنظمات أن مصير مشروعهم الاستراتيجي هو الفشل. واشارة للعمال العاديين بأن من ينزل تحت الارض فسيموت هناك.
التحدي الذي واجه اسرائيل في غزة وسورية متشابه: سلسلة نجاحات عملياتية واستخبارية ليس من شأنها أن تكون بديلا لسياسة طويلة الأمد. نتنياهو امتنع، هذا الاسبوع، وبشكل عقلاني، عن اعلان متبجح بخصوص الاحداث في غزة. وفي سورية، فان نتنياهو ووزير الدفاع ليبرمان، اطلقوا قليلا العنان لتصريحات تهديدية نحو ايران، تعزز سيطرتها العسكرية في سورية وترسل مليشيات شيعية الى جنوب الدولة. دائما من الصعب تقدير كيف يتم تفسير خطوات كهذه في الطرف الآخر، كدليل على التصميم الاسرائيلي أو تبجح فارغ يجب فحص مصداقيتها. ولكن الخطر في الشمال لا يقتصر على عدد مقاتلي المليشيات الشيعية وبعدهم الدقيق عن الحدود الاسرائيلية. يكمن هذا الخطر في تشكل جبهة واحدة قابلة للاشتعال بشكل مخيف من رأس الناقورة وحتى جنوب الجولان، حيث يعمل من خلفها ممر ايراني لوجستي، على طول الطريق من طهران وحتى دمشق وبيروت. اذا اندلعت هناك حرب ماذا سيكون مجال المناورة الاسرائيلية، ومن سيتوسط لوقف اطلاق النار؟
لقد سبقت عددا من العمليات الاسرائيلية في الجبهة السورية خلافات مهنية موضوعية في القيادة السياسية والعسكرية. في عدد من الحالات كان هناك من دفع الى القيام بعملية اكثر سرعة وجدية. على الاغلب، كان رئيس الاركان هو العنصر الذي يتسبب بضبط النفس. وعندما كان يقتنع بضرورة العملية كانت تنفذ. الفرق بين آيزنكوت ومن يحرضون على القيام بعملية هو أن الجيش سيكون عليه مواجهة النتائج، في الوقت الذي ستتشوش فيه الخطة وتتدحرج فيه اسرائيل الى مواجهة عسكرية. وهذا صحيح في كل الساحات المتورطة فيها اسرائيل.

سنبقى على حد السيف الى الأبد
حدث الهجوم الاخير المنسوب لإسرائيل مساء يوم جرت فيه زيارة رسمية لرئيس روسيا بوتين الى طهران. كالعادة تم طرح سؤال ما هي أهمية التنسيق الاسرائيلي مع موسكو، اذا كان هؤلاء هم الشركاء الذين اختارتهم لنفسها؟ الجنرال يعقوب عميدرور (احتياط) الذي كان مستشار الامن القومي السابق لنتنياهو، ادعى أنه «سيأتي يوم وتفتح فيه الارشيفات، ويمكن رؤية ما قام به رئيس الحكومة من اجل خلق شبكة علاقات تمكننا من العمل أمام روسيا في الشمال. هذه مهمة محسوبة. ليس لديّ وهم بأننا سنقنع الروس بتغيير موقفهم، لكن بجهد كبير نجحنا في خلق وضع يفهمون فيه مصالحنا وحاجتنا للعمل في الشمال عندما تصبح هذه المصالح مهددة».
اسرائيل، قال عميدرور، اتخذت قرارا معروفا وهو عدم الانجرار الى الحرب الاهلية السورية. «التفكير كان أننا أصغر من الدخول الى المواجهة التاريخية بين الشيعة والسنة، حيث إننا القوة العسكرية الاقوى في المنطقة التي يمكنها ترجيح الكفة في الحرب السورية». الآن، عندما عاد نظام الاسد الى الاستقرار، يتبلور واقع جديد. «يجب علينا الآن أن نحدد بصورة دقيقة الخطوط الحمر لنا، وأن نكون مستعدين لاستخدام القوة المباشرة ضد ما يعتبر خرقا لها، من خلال أخذ مخاطرات محسوبة». عندما سئل اذا كان استخدام قوة كهذه يمكن أن يؤدي الى الانزلاق الى مواجهة عسكرية، أجاب عميدرور بالايجاب. «لكن البديل هو السماح لايران ببناء قدرة هجومية ستستخدمها ضدنا من سورية، كما تريد في المستقبل».
المحادثة مع عميدرور جرت بمناسبة تأسيس معهد ابحاث جديد، معهد القدس للابحاث الاستراتيجية، الذي سيكون باحثا كبيرا فيه. على رأس المعهد الذي سيتم افتتاحه رسميا، الاثنين القادم، يقف البروفيسور افرايم عنبر، وفي ادارته اعضاء منهم خبير الصواريخ عوزي روبين ورجل الاستخبارات العسكرية السابق العقيد (الاحتياط) د. عيران ليرمان. هؤلاء الباحثون كانوا مرتبطين حتى وقت قريب بمركز بيغن – السادات في جامعة بار ايلان، الذي ترأسه عنبر، والذي هو محسوب على مقاربة يمينية محافظة في المواضيع الاستراتيجية. مع الاخذ في الاعتبار حقيقة أن اليمين يوجد في الحكم في اسرائيل في العقود الاربعة الاخيرة تقريبا، من المفاجئ الى أي درجة التأثير القليل لمعاهد الابحاث اليمينية على التفكير في المجال الامني. لذلك فان افتتاح المعهد الجديد هو تطور يمكن مباركته، كثقل موازٍ معين للجسم المؤثر الذي يوجه التفكير الاسرائيلي وهو معهد البحوث الامنية القومية الذي في الغالب يعبر عن وجهة نظر سياسية وأمنية من الوسط واليسار.
حسب اقوال عميدرور فان عقيدته الاساسية هو وزملاؤه تقول إن اسرائيل لن يتم قبولها في المستقبل القريب في الشرق الاوسط. «أتوقع صراعا مستمرا يكون لنا داخله مساحة كبيرة للمناورة والتكتيك وشبكة علاقات سياسية وتنازلات ايضا، اذا اقتضى الامر. هذه نقطة الانطلاق التي يجب علينا الاستعداد بحسبها. هل يجب علينا أكل السيف الى الأبد؟ أنا لا أعرف، لكن من المؤكد أننا سنضطر الى الامساك به الى الأبد. كانت لي نقاشات حول ذلك مع شمعون بيريس، الذي قال لي أين ستكون هناك فنادق في الجولان أهم من أين سيقف الجيش الاسرائيلي.
«لا يجب على اسرائيل ضرب رأسها بالحائط. هناك ظروف عليها فيها أن تفحص تقديم تنازلات، لكن يجب عدم فقدان الصلة مع الواقع. مثال – في الازمة مع تركيا اعتقدت أن الصحيح هو الاعتذار لاردوغان حول قضية «مرمرة» وعدم ابقاء هذا الجرح مفتوحا. لم أفكر أن الاعتذار سيقلل من شرفنا القومي، لا سيما بعد أن منحتنا لجنة دولية الحق في فرض اغلاق بحري على قطاع غزة. ولكن السلام بيننا وبين الفلسطينيين ليس مثل السلام بين المانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. فالظروف تختلف تماما». عميدرور بقي متشككا جدا بشأن احتمالات التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين، نظرا للفجوات الكبيرة في مواقف الطرفين. وفي الوقت ذاته يقول إنه سيعارض توسيع مساحة المستوطنات القائمة من اجل ابقاء مدخل للمفاوضات في المستقبل.

دور الدفاع
عقد حزب «يوجد مستقبل»، أول من أمس، مؤتمر عرض فيه وثيقة عقيدة الامن القومي. وقد شارك في المؤتمر عدد من رجال الامن والاحتياط. ولكن الوثيقة كالعادة كانت بالاساس عمل شخص واحد، عضو الكنيست عوفر شيلح. في السنوات الثلاث الاخيرة عمل شيلح على تركيز كتابة التقرير المحفوظ في لجنة الخارجية والامن حول عملية الجرف الصامد. ونشر كتاب مثير للتفكير باسم «الشجاعة الى الأبد» حول السياسة الامنية. ومؤخرا كتب ايضا تقرير فحص فيه هيكلية القوة في الجيش الاسرائيلي.
وثيقة عقيدة الأمن تكمل مسيرة طموحة، غريبة في السياسة الاسرائيلية في السنوات الاخيرة: محاولة البحث في المسائل الجوهرية الاستراتيجية للدولة. وهو يفصل «اللبنات الاساسية لعقيدة الامن، التي بناء عليها تطمح اسرائيل الى انهاء النزاعات مع جاراتها من خلال اتفاقات سياسية، وليس بالحسم العسكري، وأن لا تبادر الى حرب هدفها توسيع حدودها، وتقوم بتحديدها بصورة «تحفظ امنها، ومعترف بها من المجتمع الدولي وتتفق مع تقرير المصير كدولة يهودية وديمقراطية».
اختيار شيلح للانشغال بصياغة هذه الافكار تم بموازاة انسحابه من النقاش العام على تداعيات الاحتلال في «المناطق» في الوقت الذي ينشغل فيه رئيس حزبه بالهجوم الشعبوي والمناور على منظمات اليسار وحقوق الانسان. الكتابة الموسعة حول مسائل الامن القومي تقترن ايضا بنقاش مبدئي مع هيئة الاركان العامة، المتعطشة الى ما لا تهتم القيادة السياسية الحالة بالانشغال به (يشهد على ذلك التثاؤب الواسع الذي استقبلت فيه في الكابنت الوثيقة المميزة التي نشرها آيزنكوت في صيف 2015، التي صاغ فيها استراتيجية الجيش الاسرائيلي).

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف