عندما تعزف أناملٌ في عمر الورد من الشباب والصبايا على أوتار فلسطين، مزيّنين بالكوفيات التي تغطّي أكتافهم، منسجمين مع قائدهم الفنان العالمي الموسيقار وعازف الكمان الانجليزي التّقدمي، والمتضامن بقوّة مع القضية الفلسطينية "نايجل كندي"، الذي هو بدوره أيضا لم تَفُتْه فرصة لفّ خصره بكوفية فلسطينية خلال الحفل، وعندما يحضر "ادوارد سعيد" بمعهده متقمّصا روح هؤلاء الشباب والصبايا في إحدى أضخم دور العرض العالمية وهي "الرويال ألبرت هول" في مدينة الضباب لندن، فإنّ نور فلسطين سيحوّل لندن الى مدينة مشعّة وزاهية.
عندما يقف الناس في الدَّور منذ ساعات الصباح لكي يضمنوا الحصول على تذكرة لسهرة المساء، وعندما تعجّ القاعة بأكثر من أربعة آلاف وخمسمائة مشاهد وسمّيع، ويعود الكثيرون أدراجهم لأنّ التذاكر قد نفذت، فهذا يدلّ بأن الحدث الإبداعي جَلل ويستحقّ المشاهدة.عندما يختار أهم عازف كمان وأهم موسيقي في العالم، فرقة "أوتار فلسطين" التابعة ل"معهد ادوارد سعيد"، لكي يمثّلوا فلسطين الى جانبه في حفل مهيب، فهذا خير وبركة لفلسطين ولشبابها الواعدين.تأثّرتُ كثيرا عندما شاهدتُ هذه التركيبة الشبابية المبدعة في عمر الورد، وقد تجمّعوا تحت اسم "أوتار فلسطين"، من فلسطينيي ال48 وفلسطينيي الضفة الغربية لكي يعزفوا في أضخم قاعة ومع أشهر عازف وموسيقار في العالم، وبِلُغَتين عالميتين استطاعوا من خلالهما أن يُنطِقوا آلاتهم، حيث لا يستطيع محترفو الغرب ان ينطقا كلتا اللغتين بهذه الدّقة والحِرَفيّة، ألا وهما لغة الموسيقى الشرقية ولغة الموسيقى الغربية، فجادوا بأدائهم على مستمعيهم ومشاهديهم بخلطة من أرباع الطّونات الموسيقية العربية وأنصاف الطّونات الغربية، فكانت خلطة حضارية عصرية تجريبية ومختبريّة موفّقة ومؤثّرة، تعكس قمّة ما طوّره الموسيقار الانجليزي الرائع "نايجل كنيدي".وكأساسٍ لحفله، فقد اختار الفنان "نايجل كنيدي" مقطوعات "الفصول الأربعة" للموسيقار الإيطالي الكلاسيكي "أنطونيو لوتشو فيفالدي"، وهي من روائع الموسيقى الكلاسيكية، فحوّلها الى تحفة مَرِحَة حَرَكيّة حيويّة مشوّقة، وقد طعّمها مغامراً بصولوهات على الكمان لأبناء أخي زهر الدين سعد: عمر، مصطفى وغاندي، وقد زاد ذلك من تأثّري الكبير لدرجة التعصُّب، أولاً لكونهم أولاد أخي الذي لم تلده أمّي، وثانيا لأنّهم من قرية المغار، وثالثا لأنّهم، وبرفقة أبناء شعبهم الفلسطيني، فإنّهم يمثّلون فلسطين والعرب في العالم العربي والغربي أحسن تمثيل، وكم هو الفرق شاسع بين أن تكون متعصّباً دينيا ومذهبيا وطائفيا لدرجة العنصرية، وبين أن تكون متعصّبا وطنياً وإنسانيا وإبداعياً.كم نعتزّ بأن يكونوا هممن يشحنوننا بالفخر والاعتزاز، وهم من يرفعون لنا معنويات أهلنا بوجود هكذا مواهب وصلت الى مرحلة الاحتراف العالمي، فيمثّلوننا ويمثّلون فلسطين حيثما حلّوا، وحيثما يكون سلاحهم هو الفن والموسيقى، وليس السلاح الذي رفض عمر سعد امتشاقه، ولا الزّي العسكري الذي رفض ارتداءه، فهو الرافض بشجاعة للخدمة الإجبارية في جيش الاحتلال الاسرائيلي، وهي خدمة مفروضة عليه إجبارياً وقانونياً وإجحافياً، لأنّه من أبناء الطائفة الدّرزية، وهو صاحب المقولة الجريئة : "لن أخدم في جيشكم، ولن أكون وقودا لنار حربكم، أنا لن أحمل السلاح ضد أبناء شعبي الفلسطيني"نعم هذه المرّة عزفوا الفصول الأربعة لكل العالم، ولم يكتفوا بفصل الربيع، فالفصل العربي منه يحاول أن يكون أينعَهُم وأكثرَهُم زُهُوّا وجمالا وولادة للأمل والمستقبل الزاهر، بالرّغم من كل العثرات ومواسم الجفاق، وبالرغم من تلوّنه بلون شقائق النعمان التي تذكّرنا بلون الدّم المسفوك على عتبات منشدي الحرية والتحرّر عندما يخوضون ثوراتهم الباسلة.لقد كسر الجمهور في حفل لندن- وهو جمهور غربي-كل التقاليد المتّبعة في الغرب عند تحيّة العازفين، حيث يتحلّى الجمهور برباطة الجأش خلال الحفل ولا ينبس ببنت شفة او يصفّق بحماس لفقرة أعجبته إلاّ مع انتهاء الحفل. هذه المرّة خرج الجمهور عن تقاليده المعتادة، فكلّما انتهى العزف الانفرادي الذي تفرّد به عمر او مصطفى او غاندي او سائر رفاقهم في "أوتار فلسطين" بروحهم الشرقية المعبّأة بالعاطفة والمشاعر الجيّاشة والصدق الأدائي والروحاني، كان الجمهور يصفّق لهم فجأة تصفيقا طويلا وعاليا. وكم كانت "دروشة" قْريْد العشّ" صغيرهم "غاندي" عندما ارتجل "يا ليل يا عين"، غِناءً على أوتار حنجرته، فامتزج صوته مع كامل آلات الأوركسترا المرافقة له، والدّاعمة لتصاعد صوته الجميل نحو السّماء. "يا ليل يا عين" هنا تصبح موسيقى وليست كلاما، ولا تحتاج الى ترجمة الى أية لغة أخرى، لأنّها تنمّ عن مشاعر أكثر من كونها تنمّ عن معنى للكلمات والأحرف المنطوقة عربياً.أولاد أخي سعد فخرٌ كبير لنا ولبلدنا المغار ولفلسطين وأهلها، وهذه ليست جولتهم الأولى نحو العالمية، فقد قدّموا عروضا في مدننا وقرانا في الداخل وفي الضفة الغربية، وفي الخارج، فقد شاركوا في حفلات ومهرجانات في الأردن وسويسرا وإيطاليا واليونان، وهم حاصلون على جوائز مرتَبة أولى في مسابقات موسيقية في الناصرة، ومن معهد "بيت الموسيقى" في شفاعمرو حيث تتلمذوا على أيدي أمهر الموسيقيين، وفي مسابقات فلسطين من "معهد ادوارد سعيد"، وها هم في طريقهم الى العالمية، وبخاصّة أنهم يُعرَفون الآن بفرقة "رباعي الجليل"، وعلى وجه الأخص عندما يكتمل مشوارهم الإبداعي والتجوالي برفقة أختهم الرائعة عازفة التشيلو والمغنية "طيبة سعد". إنّهم لا زالوا في عمر الورد وأعمارهم تتراوح بين 13 و 18 سنة، وكل المستقبل لهم، فهم بما أنجزوه وبما ينجزونه وبما سينجزونه سيزيدوننا فخراً وأملاً ومعنويات.وهاكم فيديو الحفل كاملا، لأنّ الحكي والكتابة مش مثل الشوف والسَّمَع:







لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف