- الكاتب/ة : حيمي شليف
- تصنيف المقال : بالعبري
- تاريخ المقال : 2018-01-07
تم اقتراح فكرة تقسيم «ارض اسرائيل» بين اليهود والعرب للمرة الاولى بشكل رسمي في تموز 1937، في التقرير الذي نشرته لجنة بيل، التي عينت للتحقيق في اسباب اندلاع الثورة العربية الكبرى. استنتاج اعضاء اللجنة، بعد سماع كل الشهود، هو أن السبب الرئيسي للانتفاضة العربية ضد الانتداب هو المعارضة الكاملة لإقامة وطن قومي لليهود، وخوفهم من أن يتحول اليهود الى ملوك البلاد وسادتها، والشعور بأن حكام لندن يؤيدون ذلك. التقرير، الذي يتكون من 400 صفحة، ممتع جدا اليوم، عندما يشعر العرب مرة اخرى بأنه تمت خيانتهم وأن حل الدولتين الذي ولد في ذلك التقرير يحتضر.
أعضاء اللجنة، برئاسة الكونت وليام بيل، لم يخفوا تأييدهم للمشروع الصهيوني. يفصل التقرير العلاقة التاريخية القديمة والشجاعة للشعب اليهودي ببلاده، ويظهر التأثر من مستوى المهاجرين اليهود ومن التغيرات البالغة التي اجروها في فلسطين، ويظهر التعاطف مع فكرة اسرائيل كملجأ لليهود المضطهدين في اوروبا. يشير أعضاء اللجنة ايضا الى عمق اخلاص العرب لارضهم والحرم الشريف في القدس، والذي عمره مئات السنين. ولكن النغمة مترفعة وباردة، تتناسب مع النظرة لمن تجرأ على الانتفاضة ضد الامبراطورية خلافا لاقوال الثناء الدافئة الموجهة للصهاينة الاوروبيين المثقفين والمهذبين.
ايضا مثل ورثتهم الاسرائيليين بعد الاحتلال في العام 1967، اعتقد البريطانيون ايضا في البداية أن تحسنا حقيقيا في مستوى حياة السكان العرب الفلسطينيين، نتيجة لنشاطات الانتداب ونتيجة النمو الذي احدثته الحاضرة اليهودية، سيدفعهم الى التعاون. الحلم الساذج لمن تولوا الانتداب كان أن تأسيس حكومات مستقلة مع حكم ذاتي ستفضي الى اليوم الذي تستطيع فيه المجموعتان السكانيتان الاندماج في دولة فلسطينية واحدة وموحدة. 15 سنة من المحاولة المحبطة لتطبيق هذا الحلم والجسر بين الطرفين كانت كافية للبريطانيين من اجل الاستنتاج بأن الامر يتعلق بمهمة غير ممكنة. «مواجهة شديدة اندلعت بين المجموعتين القوميتين داخل حدود ضيقة لدولة واحدة صغيرة»، كتب معدو التقرير، «لا يوجد بينهما قاسم مشترك، تطلعاتهما القومية متناقضة. لا يسمح أي هدف من اهدافها القومية بأن يتم ضمهما معا لخدمة دولة واحدة».
قمع أو تقسيم
إن نشر توصية حكومة جلالة الملك بدعم تقسيم البلاد أثارت عاصفة في العالم الصهيوني. الصهاينة الأميركيون بكل اشكالهم الليبرالية عارضوا بشدة تقليص مساحة دولة اسرائيل العتيدة. التنقيحيون برئاسة زئيف جابوتنسكي طالبوا بحل الاوتونوميا الحجازية في شرقي الاردن وإعادتها الى حدود الوطن القومي اليهودي. «هشومير هتسعير» تألم على خسارة حلم الدولة المتساوية ثنائية القومية. بن غوريون تردد في البداية لكنه انضم في نهاية المطاف الى الدعم المتحفظ الذي اظهره حاييم وايزمن، الذي تم تأييده من قبل الصهاينة في شرق اوروبا، الذين شعروا باضطهاد النازية واللاسامية. بن غوريون طالب بتثبيت مبدأ الاستقلال اليهودي الذي تبنته اللجنة، وفي الوقت ذاته تجاهل الحدود الضيقة التي رسمتها. أراد هو واصدقاؤه الحفاظ في توصيات لجنة بيل على الجزء الذي يلزم بتبادل السكان، ترانسفير باللغة الاجنبية، حتى بالقوة.
رؤساء الصهيونية مثل البريطانيين استخفوا بقوة القومية العربية. الفلاحون لم يثيروا المشاكل، قال ممثلو الوكالة اليهودية أمام اللجنة، لو لم يتم تحريضهم من قبل القيادة الفلسطينية «المتطرفة» برئاسة المفتي، أمين الحسيني، ولو لم يتم تحريضهم من قبل جهات قومية في الخارج، لما ثاروا. هذه الادعاءات تم رفضها. القومية العربية لعرب فلسطين، قالت اللجنة، سواء أكانت مستقلة أم أنها ترى نفسها مرتبطة بالثوار في دمشق وبغداد والقاهرة، هي متجذرة وعميقة وغير متسامحة. العرب الذين كانت نسبتهم بين السكان في حينه ضعف أو ثلاثة اضعاف السكان اليهود، لن يوافقوا في أي يوم على العيش في دولة يوجد فيها لليهود احتمال بأن يصبحوا اغلبية. والحديث الصهيوني عن عرب معتدلين ظاهريا هو من احلام اليقظة. الطريقة الوحيدة لمنع سفك الدماء المستمر هي القمع أو التقسيم.
ولكن القمع يثير الكراهية والمواجهات ويجر الى قمع آخر، قال معدو التقرير، وهو لا يساعد في حل المشكلة، بل يزيدها شدة. «ليس من السهل السير في الطريق المظلم للقمع عندما لا تتم رؤية الضوء في نهايته»، جاء في التقرير. التداعيات الاخلاقية للقمع واضحة ومعروفة، قرر البريطانيون، ايضا حتى لو تحولت التداعيات الاخلاقية في اسرائيل اليمينية في 2018 الى تداعيات مموهة ومشوهة. كما أن العلاقة السلبية للرأي العام العالمي مع الدولة التي تدير الاحتلال كانت معروفة بالنسبة لحكومة بريطانيا، مثلما هي معروفة بالنسبة لرؤساء الحكومة الذين تولوا مهماتهم في دولة اسرائيل منذ العام 1967 الى حين اقتنع بنيامين نتنياهو وأقنع غيره بأن المشكلة ليست الاحتلال، بل من ينتقدونه.
كان تقرير لجنة بيل عمليا أغنية البجع الاخيرة للانتداب الذي رأى أن مهمته الاساسية هي بناء الوطن القومي لليهود. بعد شهرين من نشر التقرير قامت خلية كانت تنتمي لـ»الكف الأسود» التي أسسها عز الدين القسام، بقتل الحاكم الاسترالي المؤيد لليهود في منطقة الجليل، لويس اندروس، في الوقت الذي خرج فيه من الصلاة في الكنيسة الانجليكانية في الناصرة. البريطانيون ردوا بشدة غير مسبوقة، وزاد العرب هجماتهم على اليهود. وردا على ذلك أوقفت الـ»ايتسل» مشاركتها في «ضبط النفس»، وبدأت حملة عمليات ارهابية جماهيرية أدت الى خسائر كبيرة. بعد ذلك في اعقاب نشر الكتاب الابيض، الذي منع مواصلة الهجرة، بدأت الـ»ايتسل» تعمل ايضا ضد البريطانيين.
الارهاب اليهودي قلل من النية الطيبة للانتداب تجاه الحاضرة اليهودية، في حين أن الحرب العالمية الثانية المقتربة غيرت بشكل تلقائي سلم الاولويات البريطاني، فالهدف الاهم كان تجنيد العرب لصالح الحرب ضد النازيين، وكل حديث عن بناء الوطن القومي وضع على الهامش. عند انتهاء الحرب وازاء الهجمات المتزايدة لمنظمات سرية والمواجهة المتصاعدة بين اليهود والعرب، لم يبق للبريطانيين قوة للحفاظ على الانتداب الذي فرض عليهم من قبل عصبة الامم في العام 1922. لقد فضلوا الانسحاب، وهم لا يفكرون في شيء، وأن يسمحوا لليهود والعرب بقتل بعضهما. بعد تبني الامم المتحدة قرار التقسيم 181 في 29 تشرين الثاني، الذي نسخ تقريبا كل بنود استنتاجات لجنة بيل.
الاحتلال الاردني، العام 1948، وضع نهاية مؤقتة للحديث عن حل الدولتين، ولكن بعد 1967 حظي بالدعم اساسا من اليسار الاسرائيلي. في العام 1988 حدث انقلاب تاريخي عندما اعلن ياسر عرفات عن استعداد «م.ت.ف» للاعتراف بدولة اسرائيل. هذا الاعلان أفضى بعد خمس سنوات الى اتفاقات اوسلو والى وجود اتفاق مشترك اسرائيلي – فلسطيني الاول في نوعه، على الاقل ظاهريا، على التقسيم. ولكن الاتفاق المبدئي لم يؤد الى حل، وضمن امور اخرى، لأن الطرفين لم يسلما به حقا وبالتأكيد لم يوافقا على تقديم التنازلات التي كانت ستسمح بتحقيقه. مثلما توقعت لجنة بيل في العام 1937، في الصراعات القومية الشديدة مثل الصراع الذي يجري في «ارض اسرائيل»، فان مصير المعتدلين هو دفعهم جانبا من قبل المتطرفين الذين سيقررون في نهاية المطاف.
نافذة الفرص لحل الدولتين آخذة في الانغلاق. وكما كانت الحال في السابق فإن الوضع هكذا الآن، فالفلسطينيون لم ينجحوا في التخلي عن العنف وجسر الفجوات الداخلية أو تبني مقاربة بن غوريونية براغماتية تختار «عصفورا في اليد» من اجل أن يكون ممكنا بعد ذلك التوجه الى العشرة التي على الشجرة. اسرائيل من ناحيتها قدمت اقتراحات واصدرت تصريحات، كانت ذروتها في خطاب نتنياهو في بار ايلان في العام 2009، في الوقت الذي تغرق فيه المناطق بمئات آلاف المستوطنين الذين يقلصون في كل يوم بأسلوب دونم وراء دونم، احتمالات تطبيق التقسيم. انتخاب دونالد ترامب بعد باراك اوباما مكن نتنياهو من أن يرفع نهائيا القناع، ويقول إن الدولة الفلسطينية المستقلة لم تعد موجودة على جدول الاعمال. حزبه دعا، هذا الاسبوع، بشكل صريح لضم المستوطنات وازالة حل الدولتين من جدول الاعمال.
عاصفة إخبارية فقط
انحرف ترامب عن السياسة الأميركية المتبعة منذ تبنى جورج بوش الابن مبدأ اقامة دولة فلسطينية في حزيران 2002. رغم ضغوط موظفيه وتوسلات حلفائه فإن ترامب غير مستعد للالتزام بحل الدولتين. وهو يعتقد أن الفلسطينيين الذين تم إضعافهم سيوافقون على العودة الى طاولة المفاوضات وفحص الصفقة النهائية التي توجد في جعبته، كما يبدو. أيضا بعد اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل، فقد رفعها كما يبدو عن طاولة المفاوضات، وهدد الفلسطينيين بتقليص المساعدات المقدمة لهم إذا لم يقوموا بضبط النفس. خلافا لاستنتاجات لجنة بيل والتجربة المتراكمة منذ نشرت استنتاجاتها، فان ترامب يعتقد أنه بقوة الذراع والتهديد والإضرار بجيوبهم، سيجعل الفلسطينيين يتنازلون عن تطلعاتهم القومية التي تتضمن عنصرا اساسيا وهو أن تكون القدس عاصمة لهم.
أثار تنكيل ترامب بالفلسطينيين عاصفة اخبارية، لكن التنكيل في الذاكرة الفلسطينية ليس امراً شاذاً. ليس صدفة أن نتنياهو وحسن نصر الله ردا بصورة متشابهة على اعتراف ترامب بالقدس، وقاما بمساواته بشكل مبالغ فيه بتصريح بلفور. احتفلت اسرائيل، مؤخراً، بالذكرى المئوية لتصريح بلفور، وألقى نتنياهو باللائمة على كل عربي رفض احترامه، لكن رسالة وزير خارجية بريطانيا في حينه الى اللورد روتشيلد كانت وما زالت في نظر العرب طعنة في الظهر.
حسب رأيهم فإن وعد بلفور خرق للتعهدات التي اعطيت قبل سنتين من المندوب السامي في مصر، هنري مكماهن، للشريف حسين بن علي الذي اصبح فيما بعد ملكا على الحجاز، مقابل استعداد العرب لمساعدة بريطانيا والقيام بالتمرد ضد الحكم العثماني. مكماهن تعهد للحسين بأن تحظى كل المناطق التي سيتم تحريرها في الشرق الاوسط باستقلال عربي، باستثناء المناطق التي توجد غرب دمشق، والتي يطالب بها ايضا الفرنسيون. البريطانيون شرحوا لماذا تم اخراج «ارض اسرائيل» من المجموع، رغم أن هذا الامر لم تتم الاشارة اليه بصورة صريحة، لكن بعد وعد بلفور تم اعتبارهم ايضا في نظر سياسيين في لندن بأنهم اعطوا للطرفين تعهدات متناقضة، منذ ذلك الحين وحتى اندلاع الثورة العربية الكبرى في العام 1936، فان العرب رأوا بريطانيا مخادعة، متعاونة مع الصهاينة، وتنفذ اوامر اليهود المتنفذين. ترامب في الحقيقة هو حالة متطرفة وظاهرة معروفة تماما.
الافتراض الاساسي لكل من شعر بالسرور لشطب خيار التقسيم هو أنه يمكن قمع الشعور القومي المستقل الفلسطيني، وحتى اخماده. وأن الفلسطينيين سيوافقون على العيش بسلام تحت الاحتلال الدائم كأقنان أو حسب رأي الداعين الى الضم الجماعي كمواطنين متساوي الحقوق في دولة ذات اكثرية يهودية، على الاقل في بداية طريقها. قبل ثمانين سنة توصلت لجنة بيل الى الاستنتاج بأن الحالتين غير قابلتين للتحقق، وأنهما ستؤديان الى سفك الدماء. ولكن مياها كثيرة تدفقت منذ ذلك الحين في نهر الاردن.
إن حل الدولتين في كل الحالات موجود في وضع حرج. وهو بالتأكيد سيفصل عن الأجهزة إذا فاز «الليكود» والمستوطنون في الانتخابات القادمة. ومعه سيموت أيضا الأمل بدولة يهودية وديمقراطية، وكل اسرائيلي يجب عليه أن يسأل نفسه، هل هو أو هي يريد العيش في دولة هي فقط يهودية وتقوم بقمع الفلسطينيين بالقوة، أو فقط ديمقراطية في طريقها نحو حرب الجميع ضد الجميع، مثلما توقعت لجنة بيل. عندما يكون هذان الاحتمالان هما الوحيدان، سيفضل الكثيرون التنازل عنهما.
أعضاء اللجنة، برئاسة الكونت وليام بيل، لم يخفوا تأييدهم للمشروع الصهيوني. يفصل التقرير العلاقة التاريخية القديمة والشجاعة للشعب اليهودي ببلاده، ويظهر التأثر من مستوى المهاجرين اليهود ومن التغيرات البالغة التي اجروها في فلسطين، ويظهر التعاطف مع فكرة اسرائيل كملجأ لليهود المضطهدين في اوروبا. يشير أعضاء اللجنة ايضا الى عمق اخلاص العرب لارضهم والحرم الشريف في القدس، والذي عمره مئات السنين. ولكن النغمة مترفعة وباردة، تتناسب مع النظرة لمن تجرأ على الانتفاضة ضد الامبراطورية خلافا لاقوال الثناء الدافئة الموجهة للصهاينة الاوروبيين المثقفين والمهذبين.
ايضا مثل ورثتهم الاسرائيليين بعد الاحتلال في العام 1967، اعتقد البريطانيون ايضا في البداية أن تحسنا حقيقيا في مستوى حياة السكان العرب الفلسطينيين، نتيجة لنشاطات الانتداب ونتيجة النمو الذي احدثته الحاضرة اليهودية، سيدفعهم الى التعاون. الحلم الساذج لمن تولوا الانتداب كان أن تأسيس حكومات مستقلة مع حكم ذاتي ستفضي الى اليوم الذي تستطيع فيه المجموعتان السكانيتان الاندماج في دولة فلسطينية واحدة وموحدة. 15 سنة من المحاولة المحبطة لتطبيق هذا الحلم والجسر بين الطرفين كانت كافية للبريطانيين من اجل الاستنتاج بأن الامر يتعلق بمهمة غير ممكنة. «مواجهة شديدة اندلعت بين المجموعتين القوميتين داخل حدود ضيقة لدولة واحدة صغيرة»، كتب معدو التقرير، «لا يوجد بينهما قاسم مشترك، تطلعاتهما القومية متناقضة. لا يسمح أي هدف من اهدافها القومية بأن يتم ضمهما معا لخدمة دولة واحدة».
قمع أو تقسيم
إن نشر توصية حكومة جلالة الملك بدعم تقسيم البلاد أثارت عاصفة في العالم الصهيوني. الصهاينة الأميركيون بكل اشكالهم الليبرالية عارضوا بشدة تقليص مساحة دولة اسرائيل العتيدة. التنقيحيون برئاسة زئيف جابوتنسكي طالبوا بحل الاوتونوميا الحجازية في شرقي الاردن وإعادتها الى حدود الوطن القومي اليهودي. «هشومير هتسعير» تألم على خسارة حلم الدولة المتساوية ثنائية القومية. بن غوريون تردد في البداية لكنه انضم في نهاية المطاف الى الدعم المتحفظ الذي اظهره حاييم وايزمن، الذي تم تأييده من قبل الصهاينة في شرق اوروبا، الذين شعروا باضطهاد النازية واللاسامية. بن غوريون طالب بتثبيت مبدأ الاستقلال اليهودي الذي تبنته اللجنة، وفي الوقت ذاته تجاهل الحدود الضيقة التي رسمتها. أراد هو واصدقاؤه الحفاظ في توصيات لجنة بيل على الجزء الذي يلزم بتبادل السكان، ترانسفير باللغة الاجنبية، حتى بالقوة.
رؤساء الصهيونية مثل البريطانيين استخفوا بقوة القومية العربية. الفلاحون لم يثيروا المشاكل، قال ممثلو الوكالة اليهودية أمام اللجنة، لو لم يتم تحريضهم من قبل القيادة الفلسطينية «المتطرفة» برئاسة المفتي، أمين الحسيني، ولو لم يتم تحريضهم من قبل جهات قومية في الخارج، لما ثاروا. هذه الادعاءات تم رفضها. القومية العربية لعرب فلسطين، قالت اللجنة، سواء أكانت مستقلة أم أنها ترى نفسها مرتبطة بالثوار في دمشق وبغداد والقاهرة، هي متجذرة وعميقة وغير متسامحة. العرب الذين كانت نسبتهم بين السكان في حينه ضعف أو ثلاثة اضعاف السكان اليهود، لن يوافقوا في أي يوم على العيش في دولة يوجد فيها لليهود احتمال بأن يصبحوا اغلبية. والحديث الصهيوني عن عرب معتدلين ظاهريا هو من احلام اليقظة. الطريقة الوحيدة لمنع سفك الدماء المستمر هي القمع أو التقسيم.
ولكن القمع يثير الكراهية والمواجهات ويجر الى قمع آخر، قال معدو التقرير، وهو لا يساعد في حل المشكلة، بل يزيدها شدة. «ليس من السهل السير في الطريق المظلم للقمع عندما لا تتم رؤية الضوء في نهايته»، جاء في التقرير. التداعيات الاخلاقية للقمع واضحة ومعروفة، قرر البريطانيون، ايضا حتى لو تحولت التداعيات الاخلاقية في اسرائيل اليمينية في 2018 الى تداعيات مموهة ومشوهة. كما أن العلاقة السلبية للرأي العام العالمي مع الدولة التي تدير الاحتلال كانت معروفة بالنسبة لحكومة بريطانيا، مثلما هي معروفة بالنسبة لرؤساء الحكومة الذين تولوا مهماتهم في دولة اسرائيل منذ العام 1967 الى حين اقتنع بنيامين نتنياهو وأقنع غيره بأن المشكلة ليست الاحتلال، بل من ينتقدونه.
كان تقرير لجنة بيل عمليا أغنية البجع الاخيرة للانتداب الذي رأى أن مهمته الاساسية هي بناء الوطن القومي لليهود. بعد شهرين من نشر التقرير قامت خلية كانت تنتمي لـ»الكف الأسود» التي أسسها عز الدين القسام، بقتل الحاكم الاسترالي المؤيد لليهود في منطقة الجليل، لويس اندروس، في الوقت الذي خرج فيه من الصلاة في الكنيسة الانجليكانية في الناصرة. البريطانيون ردوا بشدة غير مسبوقة، وزاد العرب هجماتهم على اليهود. وردا على ذلك أوقفت الـ»ايتسل» مشاركتها في «ضبط النفس»، وبدأت حملة عمليات ارهابية جماهيرية أدت الى خسائر كبيرة. بعد ذلك في اعقاب نشر الكتاب الابيض، الذي منع مواصلة الهجرة، بدأت الـ»ايتسل» تعمل ايضا ضد البريطانيين.
الارهاب اليهودي قلل من النية الطيبة للانتداب تجاه الحاضرة اليهودية، في حين أن الحرب العالمية الثانية المقتربة غيرت بشكل تلقائي سلم الاولويات البريطاني، فالهدف الاهم كان تجنيد العرب لصالح الحرب ضد النازيين، وكل حديث عن بناء الوطن القومي وضع على الهامش. عند انتهاء الحرب وازاء الهجمات المتزايدة لمنظمات سرية والمواجهة المتصاعدة بين اليهود والعرب، لم يبق للبريطانيين قوة للحفاظ على الانتداب الذي فرض عليهم من قبل عصبة الامم في العام 1922. لقد فضلوا الانسحاب، وهم لا يفكرون في شيء، وأن يسمحوا لليهود والعرب بقتل بعضهما. بعد تبني الامم المتحدة قرار التقسيم 181 في 29 تشرين الثاني، الذي نسخ تقريبا كل بنود استنتاجات لجنة بيل.
الاحتلال الاردني، العام 1948، وضع نهاية مؤقتة للحديث عن حل الدولتين، ولكن بعد 1967 حظي بالدعم اساسا من اليسار الاسرائيلي. في العام 1988 حدث انقلاب تاريخي عندما اعلن ياسر عرفات عن استعداد «م.ت.ف» للاعتراف بدولة اسرائيل. هذا الاعلان أفضى بعد خمس سنوات الى اتفاقات اوسلو والى وجود اتفاق مشترك اسرائيلي – فلسطيني الاول في نوعه، على الاقل ظاهريا، على التقسيم. ولكن الاتفاق المبدئي لم يؤد الى حل، وضمن امور اخرى، لأن الطرفين لم يسلما به حقا وبالتأكيد لم يوافقا على تقديم التنازلات التي كانت ستسمح بتحقيقه. مثلما توقعت لجنة بيل في العام 1937، في الصراعات القومية الشديدة مثل الصراع الذي يجري في «ارض اسرائيل»، فان مصير المعتدلين هو دفعهم جانبا من قبل المتطرفين الذين سيقررون في نهاية المطاف.
نافذة الفرص لحل الدولتين آخذة في الانغلاق. وكما كانت الحال في السابق فإن الوضع هكذا الآن، فالفلسطينيون لم ينجحوا في التخلي عن العنف وجسر الفجوات الداخلية أو تبني مقاربة بن غوريونية براغماتية تختار «عصفورا في اليد» من اجل أن يكون ممكنا بعد ذلك التوجه الى العشرة التي على الشجرة. اسرائيل من ناحيتها قدمت اقتراحات واصدرت تصريحات، كانت ذروتها في خطاب نتنياهو في بار ايلان في العام 2009، في الوقت الذي تغرق فيه المناطق بمئات آلاف المستوطنين الذين يقلصون في كل يوم بأسلوب دونم وراء دونم، احتمالات تطبيق التقسيم. انتخاب دونالد ترامب بعد باراك اوباما مكن نتنياهو من أن يرفع نهائيا القناع، ويقول إن الدولة الفلسطينية المستقلة لم تعد موجودة على جدول الاعمال. حزبه دعا، هذا الاسبوع، بشكل صريح لضم المستوطنات وازالة حل الدولتين من جدول الاعمال.
عاصفة إخبارية فقط
انحرف ترامب عن السياسة الأميركية المتبعة منذ تبنى جورج بوش الابن مبدأ اقامة دولة فلسطينية في حزيران 2002. رغم ضغوط موظفيه وتوسلات حلفائه فإن ترامب غير مستعد للالتزام بحل الدولتين. وهو يعتقد أن الفلسطينيين الذين تم إضعافهم سيوافقون على العودة الى طاولة المفاوضات وفحص الصفقة النهائية التي توجد في جعبته، كما يبدو. أيضا بعد اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل، فقد رفعها كما يبدو عن طاولة المفاوضات، وهدد الفلسطينيين بتقليص المساعدات المقدمة لهم إذا لم يقوموا بضبط النفس. خلافا لاستنتاجات لجنة بيل والتجربة المتراكمة منذ نشرت استنتاجاتها، فان ترامب يعتقد أنه بقوة الذراع والتهديد والإضرار بجيوبهم، سيجعل الفلسطينيين يتنازلون عن تطلعاتهم القومية التي تتضمن عنصرا اساسيا وهو أن تكون القدس عاصمة لهم.
أثار تنكيل ترامب بالفلسطينيين عاصفة اخبارية، لكن التنكيل في الذاكرة الفلسطينية ليس امراً شاذاً. ليس صدفة أن نتنياهو وحسن نصر الله ردا بصورة متشابهة على اعتراف ترامب بالقدس، وقاما بمساواته بشكل مبالغ فيه بتصريح بلفور. احتفلت اسرائيل، مؤخراً، بالذكرى المئوية لتصريح بلفور، وألقى نتنياهو باللائمة على كل عربي رفض احترامه، لكن رسالة وزير خارجية بريطانيا في حينه الى اللورد روتشيلد كانت وما زالت في نظر العرب طعنة في الظهر.
حسب رأيهم فإن وعد بلفور خرق للتعهدات التي اعطيت قبل سنتين من المندوب السامي في مصر، هنري مكماهن، للشريف حسين بن علي الذي اصبح فيما بعد ملكا على الحجاز، مقابل استعداد العرب لمساعدة بريطانيا والقيام بالتمرد ضد الحكم العثماني. مكماهن تعهد للحسين بأن تحظى كل المناطق التي سيتم تحريرها في الشرق الاوسط باستقلال عربي، باستثناء المناطق التي توجد غرب دمشق، والتي يطالب بها ايضا الفرنسيون. البريطانيون شرحوا لماذا تم اخراج «ارض اسرائيل» من المجموع، رغم أن هذا الامر لم تتم الاشارة اليه بصورة صريحة، لكن بعد وعد بلفور تم اعتبارهم ايضا في نظر سياسيين في لندن بأنهم اعطوا للطرفين تعهدات متناقضة، منذ ذلك الحين وحتى اندلاع الثورة العربية الكبرى في العام 1936، فان العرب رأوا بريطانيا مخادعة، متعاونة مع الصهاينة، وتنفذ اوامر اليهود المتنفذين. ترامب في الحقيقة هو حالة متطرفة وظاهرة معروفة تماما.
الافتراض الاساسي لكل من شعر بالسرور لشطب خيار التقسيم هو أنه يمكن قمع الشعور القومي المستقل الفلسطيني، وحتى اخماده. وأن الفلسطينيين سيوافقون على العيش بسلام تحت الاحتلال الدائم كأقنان أو حسب رأي الداعين الى الضم الجماعي كمواطنين متساوي الحقوق في دولة ذات اكثرية يهودية، على الاقل في بداية طريقها. قبل ثمانين سنة توصلت لجنة بيل الى الاستنتاج بأن الحالتين غير قابلتين للتحقق، وأنهما ستؤديان الى سفك الدماء. ولكن مياها كثيرة تدفقت منذ ذلك الحين في نهر الاردن.
إن حل الدولتين في كل الحالات موجود في وضع حرج. وهو بالتأكيد سيفصل عن الأجهزة إذا فاز «الليكود» والمستوطنون في الانتخابات القادمة. ومعه سيموت أيضا الأمل بدولة يهودية وديمقراطية، وكل اسرائيلي يجب عليه أن يسأل نفسه، هل هو أو هي يريد العيش في دولة هي فقط يهودية وتقوم بقمع الفلسطينيين بالقوة، أو فقط ديمقراطية في طريقها نحو حرب الجميع ضد الجميع، مثلما توقعت لجنة بيل. عندما يكون هذان الاحتمالان هما الوحيدان، سيفضل الكثيرون التنازل عنهما.