- تصنيف المقال : شؤون فلسطينية
- تاريخ المقال : 2018-02-15
يخطئ خطأ استراتيجيا، من يعتقد أن قضية القدس، قد توقفت عند قرار ترامب في 6/12/2017 الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، أو عند إعلان بنس، نائبه، نقل سفارة بلاده إليها قبل نهاية العام 2019. كما يخطئ خطأ استراتيجيا، من يعتقد أن القضية وقفت عند حدود قرار ترامب حجب أموال الولايات المتحدة عن وكالة الأونروا. مياه التغيير، والتهويد، وإعادة رسم المعادلات، ورسم السيناريوهات، تجري متدفقة تحت جسر القضية الفلسطينية، وتعمل على بناء وقائع ميدانية، يومياً، بما يلتقي مع قرارات ترامب، ومع مشاريع تهويد المدينة المقدسة، وتحويلها عاصمة لإسرائيل.
وهذا يعني، خطأ الرأي القاتل إن قرار ترامب لن يحدث تغييراً في القدس، وإن القدس العربية المحتلة عام 1967 ستبقى هي القدس الفلسطينية. برأي المراقبين، يتعامى أصحاب هذا القول، إما عن حسن نية، أو عن سوء نية، عن الوقائع اليومية التي تصنعها سلطات الاحتلال، وبلديتها، في إطار خطة متكاملة لسلب المدينة والانتقال بها إلى مكان آخر. وخير مثال على ذلك، الحرم الإبراهيمي الذي نجحت سلطات الاحتلال، في سلب معظمه، وإخضاع ما تبقى منه لسيطرتها الكاملة، يعمل جنود العدو، ومجنداته، يومياً، على تدنيسه، ويتحكمون بمواعيد الصلاة فيه، بما في ذلك منع الآذان خارجه.
ويقول المراقبون، إن القدس أخطر بكثير مما يجري في الخليل. والأخطر أن هناك سياسة جامدة، غير متحركة، شبة مشلولة، تواجه بها السلطة الفلسطينية إجراءات الاحتلال الإسرائيلي في القدس، المبنية على خطة واضحة الأهداف.
ثمار أوسلو المرّة
فلقد سبق أن أغلقت سلطات الاحتلال، وخلافاً لاتفاق أوسلو، سيئ الذكر، «بيت الشرق»، الذي كان بمثابة القلب النابض للمدينة، بما يعنيه للفلسطينيين من مؤسسة فاعلة، كان يديرها الشهيد فيصل الحسيني، تلعب دوراً في صون عروبة ووطنية المدينة، والتصدي لمشاريع تهويدها. ومع ذلك، ورغم أن إغلاق «بيت الشرق» شكل انتهاكا لاتفاق أوسلو، غير أن المفاوض الفلسطيني لم يتخذ موقفاً جدياً من المسألة. إذ، كان عليه، أن يوقف المفاوضات، لأنها أصبحت تشكل غطاءاً سياسياً لإجراءات تهويد القدس، كما شكلت غطاءاً لسياسة الاستيطان وتوسيعه، ونهب الأرض وسلبها.
كذلك عمدت سلطات الاحتلال إلى سلسلة إجراءات غير قانونية، أدت إلى تجفيف مصادر تمويل معظم الجمعيات الأهلية الفلسطينية، الناشطة في صفوف المقدسيين، في مجالات الثقافة والتربية، والرياضة، والصحة، والإغاثة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي، وغيره. وبذلك تكون سلطات الاحتلال، قد جردت المقدسيين من الأسلحة المتوفرة بين أيديهم لتعزيز صمودهم. فتراجع مستوى التعليم الفلسطيني، خاصة في ظل سياسة التمييز العنصري الإسرائيلي. وتراجعت الخدمات الصحية للفلسطينيين، والذين صار ملجأهم المراكز الصحية التابعة لبلدية الاحتلال، في ظل معاملات تفوح منها روائح العنصرية الكريهة. كذلك افتقدت العائلات الفقيرة في القدس مصادر الإغاثة والمساعدة، وتدهورت أوضاعها الاجتماعية. بالمقابل لا تتوقف سلطات الاحتلال عن تجنيد ملايين الدولارات، في خدمة الاستيطان والتهويد، إلى جانب تجنيد القرارات والقوانين الظالمة لتشريع الاستيطان، وتشريع هدم المنازل الفلسطينية، وتشريع سحب الإقامة من المقدسيين وإبعادهم عن المدينة, وآخر ما ابتدعته العقلية العنصرية الإسرائيلية، هو فصل مناطق فلسطينية بأكملها عن المجال الإداري لولاية بلدية القدس المحتلة، مما أخرج من تعداد المقدسيين، أكثر من 140 ألف مواطن فلسطيني، أصبحوا، بشحطة قلم، وبقرار إسرائيلي مفاجئ، لا يحملون صفة المقدسيين، أي أنهم أصبحوا خارج المعادلة السياسية للمدينة المحتلة حدث هذا عندما فصلت عن القدس مناطق شعفاط ومخيمها، وكفر عقب، وجوارها. وهذا كله بهدف خلق وقائع جديدة تحاول أن تدعي أن المقدسيين أصبحوا أقلية، وأن المدينة، باتت في معظمها مدينة يهودية.
ولعل آخر ما قررته حكومة نتنياهو، في إطار تهويد المدينة، وتدمير مكوناتها الفلسطينية العربية، هو رصد مبلغ عشرة ملايين دولار، يومياً (أعيد التأكيد.. يومياً..) لصالح القدس المحتلة ومشاريع التهويد الصهيونية فيها. بالمقابل، ما ترصده السلطة الفلسطينية من موازنات «لدعم» القدس، ودعم صمودها، يساوي فقط 0.044 % من عموم الموازنة الفلسطينية البالغة، أربعة مليارات دولار. بينما ترصد السلطة الفلسطينية من موازناتها، ما لا يقل عن 40% منها لخدمة الأجهزة الأمنية المكلفة بمهام التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال. ولا داعي للشرح الطويل لتبيان الفارق الأسطوري، بين ما ترصده سلطات الاحتلال، «لتعزيز صمود المشروع الاستيطاني»، وما ترصده السلطة الفلسطينية «لتعزيز صمود المشروع الوطني» في القدس المحتلة.
لذلك لا غرابة أن يعلن حاتم عبد القادر، القيادي في حركة فتح، التي يترأسها رئيس السلطة الفلسطينية نفسه، استقالته من منصبه كمسؤول عن لجنة شؤون القدس، محتجاً لإهمال السلطة الفلسطينية هذه اللجنة (أي إهمال القدس) وعدم توفير مستلزمات عمل اللجنة في صفوف المقدسيين.
كذلك لا غرابة، أن ينتقد، أحمد قريع (أبو علاء) عضو اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، والعضو القيادي في حركة فتح، ورئيس حكومة السلطة الفلسطينية السابق، تقاعس السلطة الفلسطيني، عن توفير الدعم المطلوب لأبناء القدس، في مواجهة سياسة التغول الصهيوني.
وفي زيارة قمنا بها إلى مناطق شمال غرب القدس، (مناطق ريفية يعمل الاستيطان على ابتلاعها لفصل القدس عن الضفة الفلسطينية) لاحظنا مدى إهمال السلطة لهذه المنطقة، رغم أنها تتبع لها إدارياً وتنموياً، وتندرج في إطار المنطقة (ب). وهي المنطقة التي تديرها السلطة، اقتصاديا وإدارياً، لكنها تخضع للهيمنة الأمنية لسلطات الاحتلال. كذلك لاحظنا، في الزيارة، مدى التباعد بين الأهالي وبين السلطة، وغياب الثقة بالسلطة الفلسطينية وبمسؤوليتها عن تحمل الواجبات المطلوبة، لتعزيز القدرة على مواجهة الاحتلال والاستيطان.
سيناريو «القدس العربية الجديدة»
في ظل هذه السياسات، وهذه الأجواء، تتداول العواصم الغربية، مع القيادة الرسمية الفلسطينية، ما تسميه «الحل الوسط لمدينة القدس العربية».
ويقوم هذا الحل على سلسلة من الأفكار المحملة بالألغام والمتفجرات. يمهد لهذا الحل بالقول إن الإسرائيليين قدموا نموذجاً ناجحاً في بناء المدن اليهودية. ولعل أبرز النجاحات التي تسجل لهم ــــــ على حد قول أصحاب هذا الرأي ــــــ أنهم حولوا بضعة قرى صغيرة وفقيرة، بعد قيام إسرائيل فوراً، إلى مدينة أطلقوا عليها إسم «القدس الغربية»، مقارنة مع مدينة القدس (الأصلية) التي بقيت حتى العام 1967 بيد الحكم الأردني.
طبعاً، هذا القول، يؤكد أن «القدس الغربية»، هي صناعة إسرائيلية، وأن الحديث عن «القدس الموحدة»، عاصمة لإسرائيل، هدفه المعلن الادعاء بصون وحدة القدس (كمدينة مقدسة) وهدفه الحقيقي رفض الانسحاب من القدس الشرقية المحتلة.
ويواصل أصحاب هذا الحل و يعرضون أفكارهم، بدعوة الفلسطينيين إلى القبول باعتبار بعض البلدات والقرى الفلسطينية المجاورة للقدس الشرقية هي «القدس العربية الجديدة» بحيث تتوفر لها الأموال الضرورية لإعادة بناء مدينة حديثة متطورة، خارج ولاية «القدس الموحدة»، وأن تعلن عاصمة لدولة فلسطين. بينما تبقى المدينة المحتلة تحت «السيادة» الإسرائيلية، باعتبارها عاصمة «دولة إسرائيل».
أما عن «المقدسات الإسلامية»، كما يقول أصحاب هذا المشروع، فيمكن توفير «حل» لها، عبر إقامة جسر، يربط بينها وبين «القدس العربية الجديدة، بحيث يسهل على المسلمين الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة، على أن تبقى هذه الأماكن الدينية تحت السيادة الإسرائيلية، وهي وحدها تنظم مواعيد زياراتها والصلاة فيها، كما تنظم مواعيد دخول الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل.
الولاية الهاشمية .. وابن تيمية
يقول المراقبون إن هذا العرض، نوقش في زيارات رسمية لقيادات فلسطينية إلى أوروبا. وإن هذا العرض، هو ما أشار إليه ترامب حين أدعى أنه يحمل «مكافأة» للفلسطينيين في مشروعه، وحين ادعى أن على الإسرائيليين أن يقدموا هم أيضاً «تنازلات».
وهذا العرض، يلتقي مع توضيحات الناطقين باسم البيت الأبيض، حين قالوا إن ترامب لم يرسم حدود القدس، وإن يترك هذا الأمر للجانبيين الفلسطيني والإسرائيلي ليتفاوضا عليه. وهو يلتقي أيضاً مع ما نقله وزير الخارجية الأميركي تيلرسون، إلى وزير الخارجية المصري، بالادعاء أن ترامب لم يرسم حلاً نهائياً للقدس، وأن رسم حدود المدينة التي اعترف بها عاصمة لإسرائيل، سيكون موضع تفاوض بين الجانبيين الفلسطيني والإسرائيلي.
هذا الحل طرح، كما يقول المراقبون، على الجانبيين الفلسطيني والأردني.
الجانب الفلسطيني، باعتباره «الطرف الرئيس في الصراع». أما الجانب الأردني فهو صاحب «الولاية الهاشمية» على المقدسات الإسلامية في المدينة المقدسة. ويبدو، كما يقول المراقبون في عمان، أن القيادة الأردنية غير راضية إطلاقاً على هذا الحل، لأنه بالنتيجة سوف ينزع عنها الولاية على «المقدسات». وهي ولاية أتت في تسوية تاريخية بعد قيام الدولة الوهابية وإخراج الهاشميين من الجزيرة العربية.
في هذا السياق ويقول المراقبون، إن القيادة في العربية السعودية دخلت على الخط، من محورين.
المحور الأول: هو الضغط على عمان لتقبل الحل الأميركي، الإسرائيلي، بشأن «القدس العربية الجديدة»، وبشأن مصير المقدسات الإسلامية. وأنه أمام الرفض الأردني لهذا الحل، بدأت العربية السعودية بالضغط المالي على الدولة الأردنية، وهو ما أكده المسؤولون الأردنيون مؤخراً حين كشفوا أن المساعدات الخليجية للأردن توقفت في الفترة الاخيرة. أي تكريس المال الخليجي في خدمة مشروع ترامب ــــــ إسرائيل، بشأن القدس.
المحور الثاني: فهو المحور الديني. وذلك بالعودة لإحياء فتاوي ابن تيمية التي تقول إن المقدس الوحيد في القدس هو المسجد الأقصى، وينتزع بالمقابل القداسة عن مسجد الصخرة بل يطعن فيها، وينزع القداسة عن باقي الأماكن الدينية الإسلامية. إذ، وفقاً لفتاوي ابن تيمية وكتاباته، هناك ثلاثة مساجد مقدسة في الإسلام. هي المسجد الحرام في مكة، ومسجد الرسول في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس. وبالتالي، حسب ما تعمل الآن الآلة الإعلامية في العربية السعودية، على ترويجه، فإن القدس «ليست مدينة مقدسة»، وليست «مدينة حرام»، وإنها لا تدخل في المناطق الحرم التي يعترف بها الإسلام.
يرى المراقبون، في هذا مقدمة، لصناعة رأي ديني آخر، يهدف للتقليل من أهمية القدس، باعتبارها مجرد مدينة، فلسطينية، «متنازع عليها»، يمكن توفير «حل وسط» لها، على غرار مشروع بناء مدينة جديدة، أما المسجد الأقصى، فيمكن توفير حل يكفل «كرامة المسلمين» بتعهد من قبل القيادة في العربية السعودية. ولعل هذا ما يفسر المديح الذي كاله، منذ أيام، ترامب للرياض، لأن قيادتها «تتفهم» موقفه من قضية القدس.
أضاف إلى ذلك ما تتداوله الدوائر المعنية في عمان عن «تدخل» من الرياض في شؤون الأوقاف الأردنية في القدس، من خلال تعهد الرياض دفع مرتبات حوالي ألف موظف يتبعون لعمان، يمثلون «الولاية الهاشمية» على المقدسات الإسلامية في القدس. وتقول الدوائر المعنية في عمان، أن هذا «الكرم» المفاجئ للرياض، يخفي أهدافاً مبيته، للوصول إلى الهيمنة على الأقصى وباقي المقدسات، ونزع «الولاية الهاشمية» وإخراج القيادة الأردنية من المعادلة السياسية لحل مسألة مدينة القدس، بما يرضي الجانب الأميركي.
القدس أرض فلسطينية محتلة
لم يعد من المستبعد أن تتحول هذه الأفكار، من مداولات خلف الجدران، إلى مشاريع سياسية علنية. وبأكثر من هدف:
1) إيجاد منفذ للقيادة الرسمية الفلسطينية للعودة إلى المبادرة الأميركية في ظل رعاية خليجية (وربما رعاية عربية أوسع من الخليجية) خاصة إذا ما قدمت «ضمانات» بشأن قضية المقدسات الدينية.
2) صناعة وعي، يستند إلى »تباين الفتاوي في النظر إلى قدسية المدينة، الأمر الذي يقود إلى إشعال فتنة و«الفتنة أشد من القتل»، وتتحول المعركة عربية ـــــ عربية، وإسلامية ـــــ إسلامية، خاصة إذا ما جندت القيادة في الرياض آلاتها الإعلامية و«العلمائية»، في خدمة هذا المشروع، وتصدت لها رؤى وآراء ومؤسسات معارضة، ونزل الصراع إلى الشارع.
في كل الأحوال، يعتقد المراقبون أن الخروج من هذه اللعبة يجب أن يستند إلى رأي واضح: الأراضي المحتلة منذ 4 حزيران 67، هي أراضي الدولة الفلسطينية (في إطار البرنامج المرحلي) بما فيها «مدينة القدس الشرقية المحتلة منذ 5 حزيران 67». ولا تفاوض على شبر واحد من هذه المدينة، كما لا تفاوض على شبر واحد من مجموع الأرض المحتلة بعدوان حزيران. ولا يعوض القدس أن تعطى السلطة بضعة قرى لتقيم عليها مدينة جديدة، فهذه القرى هي جزء من الأرض المحتلة، هي أرض فلسطينية. ولا تتم المقايضة، بين أرض فلسطينية وأرض فلسطينية أخرى. ولا حق لإسرائيل إطلاقاً في أي شبر من الأرض الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 67، في إطار الحل المرحلي.
أما مسألة «الولاية الهاشمية» على المقدسات، فهي مسألة فلسطينية أردنية، صرفة، لا يحق لأي طرف آخر أن يتدخل بها.