تصعيد مدروس مترافق مع حراك شكلي من دولة الاحتلال، في محاولة لاحتواء مسيرات العودة ورفع الحصار والالتفاف عليها أو إجهاضها أو ردعها، والمستمرة منذ اذار الماضي، هذا التصعيد - كما رأينا - انتقل من شكل لآخر، واختلفت أدواته ووتائره باختلاف أهدافه الموضعية المحددة بحكم اختلاف الأدوات الفلسطينية، فظلّ الاحتلال يحافظ على رد الفعل بهدف العودة للمربع الأول القائم على فرض الهدوء كاستجابة اضطرارية للردع، فبدءًا من القتل الجماعي أيام الجمع إلى التصعيد بالقصف ثم إلى ملاحقة واستهداف مطلقي الطائرات الورقية عبر الوسائل التكنولوجية ثم بقصف الوسائل التي يستخدمها من يزعم بأنهم المسؤولون عن التحريض على إطلاقها، كقصف الدراجات وبعض المركبات، وقصف بعض المراكز الميدانية الصغيرة والتهديد بالتصعيد أكثر وصولًا إلى الاغتيال، والكثير من رسائل التهديد.
لكن الاحتلال اختار، الاثنين الماضي، تصعيدًا مختلفًا، وعلى جبهة أخرى؛ حيث قرر تشديد الحصار، في خطوة تصعيدية مفاجِئة من حيث نوعية الأداة، مبررًا القرار بالرد على استمرار إطلاق الطائرات الورقية الحارقة، مفاجِئة لأنه اختار أن يشدد الحصار رغم أن كل الحراك الذي يستهدف رفعه أو تخفيفه، ورغم أنه يقرّ بأن الحصار - حتى قبل تشديده - هو حصار خانق، وأن الحصار والظروف المعيشية في القطاع تشكل العامل الرئيس للتوتر المهدد بالانفجار.
شكليًا، يبدو وكأن إسرائيل اختارت التصعيد الكلي وأنها لا تخشى نتائجه، مثلما اعتبرته الفصائل بأنه بمثابة إعلان حرب على القطاع، لكن واضح أن نتنياهو وأركان حكومته اليمينية المتطرفة أرادوا ارسال أكثر من رسالة بهذا القرار التصعيدي.
أولًا: ان اسرائيل لا زالت لا تريد الحرب، فاختارت تصعيدًا يمكن احتواءه، ولا يلحق أضرارًا جدية لا يمكن الرجوع عنها طالما أن معبر رفح يعمل وتدخل منه بعض المواد، وأن القرار محدود زمنيًا ومراقب من قبل الجهات المسؤولة، فمن بين كل الخيارات اختارت شيئًا مختلفًا ولم تمضِ في طريق التصعيد ضد مطلقي الطائرات الورقية، رغم إن هدف إغلاق المعبر بوجه بعض البضائع لردع هذه الطائرات.
ثانيًا: أنها لا تحتمل المزيد من التصعيد الفلسطيني، لا سيما المتمثل بالطائرات الحارقة، وأنها باتت تحت تأثير الضغوط الداخلية مضطرة للتحرك بجدية لوقف هذا الابداع الفلسطيني الحديث في أساليب النضال والمقاومة.
ثالثًا: أنها جادة في تهديداتها، ولم تعد تخشى أو تتهرب من الحرب، التي باتت خيارًا غير مستبعد.
رابعًا: رسالة تفاوضية تحمل طابعًا هجوميًا، ويبدو أنها جاءت ردًا على مطالب الفصائل الفلسطينية، وردًا على رفض الفصائل لبعض المبادرات التي نُقلت إليها، فأراد الاحتلال أن يظهر صلفه، وأنه ليس فقط غير مستعد لتقديم تنازلات كبيرة؛ بل إنه جاهز لزيادة التصعيد ومتحفز للهجوم، وأنه يتصرف وفقًا لمنطق من يمتلك القوة ويشعر نفسه منتصرًا، وأن على الفلسطينيين أن يتواضعوا أكثر في مطالبهم ويتجاوبوا مع ما يُعرض عليهم ولا يضيعوا الفرصة.
ومع كل تصعيد وارتفاع منسوب الاحتقان فإن التساؤل الذي يصبح دارجًا على لسان الفلسطينيين في غزة "الى اين؟ هل نحن أقرب إلى الفرج أم إلى التصعيد وإلى الحرب؟"، وبحكم تعقيدات الأوضاع في القطاع وشدة ترابطها وحساسيتها وكثرة متغيراتها؛ فإن الانتقال فيها من أجواء التفاؤل إلى أجواء التصعيد والحرب يتم بسرعة فائقة، فربما تنام الناس على تصعيد وتصحوا على فرج والعكس صحيح، لكن وبمعيار النتائج والتجربة ومعرفة تعقيدات الواقع، فإن الانفراجات ظلت أسيرة المشاعر، والأجواء والرغبات التفاؤلية سرعان ما تتبخر، فاللاعبون كثر والمصالح متناقضة، ولكلٍ حساباته، واللاعب الرئيس في القطاع غير مستعد لتقديم تنازلات وغير قادر على فرض التنازلات على العدو، والانقسام يجهض كل حراك وكل تضحية.
من جهة أخرى، فإن نتنياهو وحكومته - الذين يشعرون بقدر كبير من الصلف والغرور، وأكثر ما يرغبون به هو فرض الهدوء، وتحويل الانقسام إلى انفصال دائم، وإبقاء غزة محاصرة ومردوعه ومذعنة لا تطمح لأكثر من تحسينات اقتصادية مشروطة بأثمان معروفة - مطوقون إسرائيليًا بأمرين: إطلاق سراح الجنود وعدم تقديم تنازلات كبيرة لحماس باعتبارها "كيانًا إرهابيًا"، وقد وصلت مناوراتهم ما بين التهديد بالحرب وما بين العلاقات العامة والرسائل التفاوضية عبر القنوات غير المباشرة إلى طريق مسدود، بعد أن استنفدت وقتها وأهدافها، في ظل تزايد الضغوط الداخلية الإسرائيلية بوضع حد لمسيرات العودة في القطاع؛ هذا كله يجعل المرء يقف أمام مفترق، مفترق يضطر فيه كل طرف إلى التقدم بخطوه تصعيدية للأمام، وحتى لا يستنتج كل طرف استنتاجًا مغلوطًا عن الآخر يشي بخوفه من التصعيد فيزيد هو من ضغطه وتصعيده، فتصبح الحرب خيارًا يتم استدعاؤه للجلوس والانتظار، تحوطًا وتهديدًا، وإظهاره كخيار بات محتملًا.
وفي ظل هذا الاحتقان وهذا التعقيد، فإن كل خطوة مندفعة أو غير مدروسة يمكن أن تؤدي إلى تصعيد قد يؤدي إلى تصعيد متدحرج أكبر فأكبر، والتعقيد لدينا أكثر بكثير ممّا يبدو ربما، الأمر الذي يتطلب الكثير من الحذر والحكمة والمزيد من الانفتاح على المصالحة وانهاء الانقسام وتغليب الحسابات الوطنية العريضة على الحسابات الفئوية. ، فالمصالحة وانهاء الانقسام لا زالا هما قارب النجاة الحقيقي والوحيد.

مدير الموقع

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف