يومياً تطالعنا في وسائل الإعلام، خاصة في الوكالة الفلسطينية للأنباء (وفا)، تصريحات لناطقين بإسم السلطة الفلسطينية، وموالين للقيادة الرسمية، يتباهون فيها بإفشال «صفقة العصر» وإسقاطها، ويبشرون أن الصفقة فشلت في تحقيق أهدافها، وأنه بفضل المعارضة التي قادها رئيس السلطة، وصلت «الصفقة» إلى الطريق المسدود، ولم تعد مطروحة على جدول أعمال المنطقة. وأن الحل الوحيد الممكن، بات «مبادرة» الرئيس التي تقدم بها إلى مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018، دعا فيها إلى العودة إلى مفاوضات الحل الدائم، بموجب اتفاق أوسلو، وأسسه، وآلياته.
ومادامت «صفقة العصر» قد سقطت، ومادام الثنائيان كوشنر وغرينبلات قد فشلا في ترويجها، فلا داعي إذن لتطبيق قرارات المجلس المركزي (15/1/2018) والمجلس الوطني (30/4/2018) التي اتخذت رداً على «صفقة العصر»، وعلى قرار الإدارة الأميركية الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها.
* * *
الواقع الحقيقي الذي تحاول مجموعات النفاق السياسي تزويره، والتعمية عليه، يقول بوضوح:
• إن الولايات المتحدة لم تسحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإن تحضير مبنى السفارة الأميركية فيها مازال بموجب ما تقرر له. وهذه واحدة من تطبيقات «صفقة العصر».
• إن الولايات المتحدة لم تسحب اعترافها «بشرعية» الاستيطان، و«شرعية» ضم إسرائيل للمستوطنات، ولم تعد تحتج، ولو بالكلام، على مشاريع توسيع الاستيطان، في القدس وفي أنحاء الضفة الفلسطينية. وهذا أيضاً من تطبيقات «صفقة العصر».
• إن الولايات المتحدة لم تتراجع عن قرارها وقف تمويل وكالة الغوث، وعن الدعوة لحلها، وحل قضية اللاجئين، بالتوطين أو إعادة التهجير، ورفض الاعتراف بحق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948. وهذا أيضاً من تطبيقات «صفقة العصر».
• لم تكتفِ الولايات المتحدة بهذه الخطوة التي دفعت أطرافاً أخرى لتحذو حذوها، بل خطت خطوة إضافية حين وضع الكونغرس الأميركي على جدول أعماله مسألة إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث يقتصر فقط على الذين ولدوا في فلسطين قبل العام 1948. أما ذريتهم، أو من ولدوا في بلاد الشتات ومخيمات اللجوء، فلا ينطبق عليهم هذا التعريف، ولا يستفيدون من خدمات وكالة الغوث، ولا تدخل قضيتهم في مفاوضات الحل الدائم. وبناء على مشروع الكونغرس، يتراجع عدد اللاجئين الفلسطينيين من أكثر من 6 ملايين لاجئ، إلى أقل من أربعين ألفاً، أي بمعنى آخر، تتلاشى قضية اللاجئين، ولا تعود تملك الأهمية التي تحوز عليها قضية 6 ملايين، وبهذا يسهل العمل على توطين 40 ألفاً، في أماكن مختلفة. أما الآخرون (الملايين الستة) فتبحث قضيتهم في إطار الدول المضيفة، وليست إسرائيل معنية بهم، ولا المجتمع الدولي هو الآخر معني بهم. وهذا كله، أيضاً، من تطبيقات «صفقة العصر».
• كما تندرج في تطبيقات «صفقة العصر» تلك المشاورات والسيناريوهات الجارية بين واشنطن وتل أبيب، لحل «المشاكل الإنسانية» لقطاع غزة، بسلسلة مشاريع بمليارات الدولارات، في إقامة محطات لتحلية المياه (بعدما باتت مياهه غير صالحة للشرب) ومحطات لمعالجة المياه العادمة والنفايات، ولتوليد الكهرباء، وتطوير الزراعة، والصناعة، وتحسين البنية التحتية، ومشروع لإقامة مرفأ على شكل مدينة عائمة، بالتعاون مع قبرص، ومطار بالتعاون مع مصر. وغير ذلك من المشاريع الملحقة. ما يدعو للسؤال عن سر هذا العشق المفاجئ لواشنطن وتل أبيب لقطاع غزة، وهما العاصمتان اللتان كانتا تقودان الحملة العالمية ضد القطاع باعتباره مصدراً رئيسياً للإرهاب، وكانت إسرائيل تتمنى أن يغرق في مياه البحر، والذي أصمت الولايات المتحدة أذنيها، وأغلقت عينيها عن الحروب العدوانية الإسرائيلية ضده، بل وهو الذي دعت كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية بوش الابن، إيهود أولمرت إلى إطالة حربه ضد القطاع بذريعة تدمير البنية التحتية للمقاومة. لا شيء يفسر هذا العشق، وهذا الاهتمام المميز من قبل الثنائي كوشنر وغرينبلات، المكلفين بالمشاورات والاتصالات لبلورة الصيغة الأخيرة «لصفقة العصر»، سوى أنه يندرج في إطار هذه «الصفقة» وفي رؤيتها للحل، بحيث يكون قطاع غزة هو مركز «الدولة» الفلسطينية (مرفأها ومطارها) وتكون الضفة جزءاً من هذا الحل، لكن في إطار الالتحاق الأمني والاقتصادي بإسرائيل.
* * *
البعض من أصحاب تصريحات النعي المزيف والكاذب «لصفقة العصر» يدعي أن التأخير في إعلان «الصفقة»، هو دليل على فشلها. لكن هذا البعض، إما أنه لا يقرأ ولا يتابع، وإما أنه يقرأ ولا يفهم. وإما أنه يقرأ ويفهم، لكنه يصر على التزوير والتعمية. وهذا أخطر الاحتمالات.
وزارة الخارجية الأميركية أوضحت بالفم الملآن، أنها لن تكشف عناصر «صفقة العصر»، إلا بعد أن تتوفر الشروط لتطبيقها. أي أن الولايات المتحدة، هذه المرة، لن تكرر ما قامت به الإدارات من تقديم عروض، ثم تتولى في جولات مكوكية بين رام الله وتل أبيب مناقشة هذه العروض، لإقناع الطرفين بها. المشروع الأميركي المطروح هذه المرة، كما يؤكد ترامب، مطروح للتنفيذ، وليس للنقاش حوله وفيه. وإذا كانت هناك عقبات تحول دون تطبيقه، فإن الولايات المتحدة تأخذ على عاتقها إزالة هذه العقبات. هذا (مرة أخرى) ما يفسر موقفها من شطب قضية القدس عن طاولة المفاوضات، وكذلك الاستيطان، وقضية اللاجئين وحق العودة، وهي تتحرك في العواصم العربية ومع إسرائيل بهدف تحقيق أمرين:
• العواصم العربية لمزيد من التشاور للتعاون معها، في إطار بناء التقاطعات ونقاط الالتقاء المشتركة بين «صفقة العصر» وبين ما بات يطلق عليه «مبادرة السلام العربية» (بيروت 2002) بما في ذلك الاتفاق مع هذه العواصم على قضايا القدس والاستيطان واللاجئين، وبما لا يقود إلى تراجع الولايات المتحدة عن مواقفها. أي بتعبير آخر «تأهيل» العواصم العربية، للقبول بصيغة «صفقة العصر» من موقعها شراكتها مع الولايات المتحدة في حلف إقليمي ضد إيران. كذلك من موقع دور العواصم العربية في «إقناع» القيادة الفلسطينية «التجاوب» مع «صفقة العصر» مقابل حفظ مكانتها في إطار المعادلة السياسية الجديدة للشرق الأوسط، كما ستسفر عنها «صفقة العصر».
• أما بالنسبة لإسرائيل، فللاتفاق معها على الخطوات العملية المشتركة لبلورة «صفقة العصر»، ورسم الخطوات الميدانية المطلوبة، في كل مرحلة لإنضاج «الصفقة» وتوفير الميدان الضروري لإنجازها.
إذن.
«صفقة العصر» لم تمت، بل هي تتقدم، وتحقق خطوات إضافية و«صفقة العصر» لا يمكن القضاء عليها لا بالتمنيات، ولا بالأدعية، ولا بالبيانات، ولا بالشتائم، ولا بالتوصيفات الشنيعة.
السبيل لمحاصرتها وتضييق الخناق عليها، وزرع العراقيل في طريقها يمر عبر الطريق التالي: وحدة داخلية، وتطبيق قرارات المجلس المركزي والمجلس الوطني.
هذا الطريق كما يبدو، مازالت القيادة الرسمية تغمض عينيها وتتعامى عنه.
ولعل آخر سقطاتها وسهامها نحو الوحدة الداخلية، معركتها الجديدة ضد الجبهة الديمقراطية وتقاعسها عن الاشتباك في الميدان مع إسرائيل مع الولايات المتحدة .
البيانات الصحفية لا تسقط «صفقة العصر».
ولا العداء للقوى الديمقراطية في الحركة الوطنية الفلسطينية.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف