- تصنيف المقال : شؤون فلسطينية
- تاريخ المقال : 2018-08-16
■ لا يخطئ المراقبون حين يصفون قرار الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مقاطعة الدورة الـ29 للمجلس المركزي الفلسطيني(15/8/2018) بأنه وضع النظام السياسي الفلسطيني في غرفة العناية الفائقة حين كشف عن أمراضه ونقاط ضعفه، وشخصها تشخيصاً دقيقاً، داعياً إلى "ورشة" لإعادة بناء هذا النظام على أسس ديمقراطية توافقية تشاركية تلبي ضرورات النضال الذي تخوضه الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. والذين لم يقرأوا في قرار المقاطعة سوى الجانب المجهري، المتعلق بدائرة شؤون المغتربين، بغض النظر عن نواياهم، فاتهم أن يقرأوا الجانب الأكثر أهمية في هذا كله، والرد على السؤال الذي طرحته الجبهة الديمقراطية: القضية الوطنية وحقوق الشعب، ونظامنا السياسي إلى أين؟
(2)
فعلى صعيد العلاقات الوطنية الفلسطينية ترى الجبهة أن الأمور لم تعد تسير في الاتجاه الصحيح. فمنظمة التحرير الفلسطينية هي جبهة وطنية لعموم الشعب الفلسطيني وقواه السياسية. تقوم العلاقات داخلها على أسس توافقية وديمقراطية، ووفق مبدأ التشاور بما يكفل صون الوحدة الوطنية ووحدة الحقوق، ووحدة الشعب، ووحدة قواه السياسية وتجنيبها الهزات التي من شأنها أن تعرض هذا كله لتداعيات سلبية. في هذا السياق لم يعد خافياً أن هذه الصيغة التي سادت لفترات طويلة العلاقات الداخلية، بدأت تتراجع لتحل محلها سياسة التفرد والاستئثار بالقرار، دون إقامة أي وزن لباقي القوى والأطراف، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني. فغاب دور اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، كإطار يعكس التوافقات الديمقراطية، وتحولت إلى هيئة استشارية لا يؤخذ حتى برأيها الاستشاري، تصدر عنها بيانات، لا تعكس ما يدور فيها من نقاش، وتكون أمانة السر في التنفيذية قد صاغتها حتى قبل انعقاد الاجتماع ولا يرى البيان الختامي النور إلا بعد أن ينال موافقة رئيس اللجنة بدلاً من أن تتم المصادقة عليه داخل الاجتماع. وبذلك تحولت "اللجنة التنفيذية" إلى مجرد محطة، من وراء ظهرها تتخذ القرارات في "المطبخ السياسي"، وعنها تصدر بيانات لا يطلع عليها أعضاء اللجنة إلا عبر وسائل الإعلام. وقد تدهورت أوضاع اللجنة التنفيذية مؤخراً. فاللجنة التي انتخبتها المجلس الوطني الأخير، عقدت اجتماعين اثنين فقط بشكل نظامي. الاجتماع البروتوكولي الأول، انتخب محمود عباس رئيساً لها. أما الاجتماع الثاني فقد عقد في شهر تموز(يوليو) برئاسة رئيس اللجنة، لكنه لم يستكمله وغادره بذريعة الاحتجاج على معارضة تيسير خالد، عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية للطريقة التي تدار بها الأمور، وتوجيه الاتهام مباشرة وبصراحة لرئيس اللجنة أنه يستفرد بالقرار ولا يحترم مبادئ الائتلاف القائم على التوافق في صناعة القرار والسياسات. في مقدمة هذا الاستفراد الإمعان في تعطيل قرار سحب الاعتراف بإسرائيل، وباقي قرارات المجلس الوطني.
(3)
وفي السياق نفسه، دقت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين جرس الإنذار بما يتعلق بالسلطة الفلسطينية والتحولات التي بدأت تطرأ على أوضاعها، وما يعكسه ذلك من خطر على المشروع الوطني. وقالت الجبهة في هذا الموضوع إن مشروع تحويل مؤسسات السلطة إلى مؤسسات للدولة الفلسطينية، وصل إلى الفشل. وإن الحديث أن القضية الفلسطينية تعيش مرحلة بناء مؤسسات الدولة (تحت الاحتلال) أثبتت الوقائع أنه غير واقعي، ولا يعكس الحقيقة. فصلاحيات السلطة الفلسطينية تراجعت كثيراً لصالح صلاحيات سلطة الاحتلال، وصلاحيات الإدارة المدنية.
• فقد ألغت سلطات الاحتلال «الحدود» بين المناطق (أ) و(ب) و(ج). وصارت كلها مستباحة أمام سلطات الاحتلال بعد أن كانت المنطقة (أ) ممنوعاً على سلطات الاحتلال دخولها. أما المنطقة (ب) التي كانت السلطة تتقاسم إدارتها مع سلطات الاحتلال، فقد أصبحت كلها تحت الإدارة المنفردة للاحتلال. كما أن المنطقة (أ) [أي المدن]. باتت مستباحة بشكل يومي، ولا تملك السلطة الفلسطينية وسيلة لمنع ذلك أو الحد منه.
• سجل السكان، وسجل الأراضي، مازالا بيد سلطات الاحتلال ومازالت الإدارة المدنية هي التي تمنح المواطن الفلسطيني ما يطلق عليه «الرقم الوطني»، أي هي التي تمنح الفلسطيني صفة المواطن تحت السلطة الفلسطينية، وهي التي تلغي هذه الصفة. وكذلك سجل الأراضي، باعتبار أن الأراضي تقع تحت سلطة الاحتلال، وأن ولاية السلطة الفلسطينية لا تشمل إلا السكان (وبشكل مجزوء).
• أعادت سلطات الاحتلال النظر بآليات إدارة الجانب المالي مع السلطة الفلسطينية، خاصة بما يتعلق بأموال المقاصة. أي الأموال التي تجنيها سلطات الاحتلال من ضرائب على البضائع المستوردة إلى مناطق السلطة الفلسطينية، ثم تحولها إلى مالية السلطة. حين بدأت تسطو عليها، بذرائع مختلفة، مستفيدة من ضعف السلطة وتراجع دورها، ولفرض الحصار المالي عليها، والضغط على القيادة الرسمية.
• تجاوزت الإدارة المدنية السلطة الفلسطينية، وأقامت علاقات مباشرة مع التجار ورجال الأعمال، والمواطنين للحصول على الأذونات المطلوبة للاستيراد والتصدير، والأوراق الثبوتية وغيرها. في إشارة واضحة المعالم أن بالإمكان إدارة المناطق المحتلة بدون سلطة فلسطينية.
• واصلت سلطات الاحتلال توسيع مناطق الاستيطان ومضاعفة عدد المستوطنين الذين تصاعد وجودهم من 95 ألفاً عام 1973، إلى أكثر من 800 ألف مستوطن في القدس والضفة الفلسطينية، بكل ما يستتبع ذلك من قضم أراضي الضفة وتهويد القدس، وتشريد أصحاب الأرض، وتدمير الزراعة، وتقليص مساحة السلطة لصالح مساحة "دولة المستوطنين".
• واصلت سلطات الاحتلال تدمير البيئة، وإطلاق العنان للمستوطنين لتدمير الزراعة عبر اقتلاع أشجار وأشتال الزيتون وإحراق المحاصيل الزراعية للمزارعين الفلسطينيين.
• وأخيراً وليس آخراً، أمعنت في سياسة القتل بدم بارد، والاعتقالات الجماعية، ونسف المنازل، وإبعاد المناضلين، وإذلال المواطنين على الحواجز، وبحيث تحولت السلطة في نهاية المطاف من «مشروع لإقامة الدولة المستقلة»، كما أدعى أصحاب مشروع أوسلو، إلى مجرد «سلطة خدمية» بإعتراف اللجنة التنفيذية (راجع ورقة العمل الخاصة بآليات تطبيق قرارات المجلس الوطني في هذا العدد). وتحول رجال السلطة إلى "موظفين" لدى الاحتلال، بإعتراف رئيس السلطة في خطابه إلى مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018.
(4)
في ظل هذا التراجع المريع والمخيف والخطير في بنية السلطة الفلسطينية وأدائها وصلاحياتها، لصالح تغول دور الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، تندفع القيادة الرسمية للعمل على تذويب مؤسسات م.ت.ف، ودمجها في مؤسسات السلطة الفلسطينية ووزاراتها.
• ألغت دائرة الثقافة في «التنفيذية» وأحالت صلاحياتها إلى وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية.
• ألغت دائرة الإعلام، وأحالت صلاحياتها إلى وزارة الإعلام التي استحدثت بمسؤولية نبيل أبو ردينة.
• ألغت منصب رئيس الصندوق القومي، وتولاه رئيس اللجنة شخصياً، وألحقه إدارياً بوزارة المال في السلطة الفلسطينية.
• تراجعت عن مشروع تشكيل دائرة لشؤون الأسرى والشهداء، (بعد أن اعتذر الجميع عن توليها نظراً لازدواجية الصلاحيات حولها) وأحالت ملفاتها إلى أمانة اللجنة التنفيذية.
• سحبت دائرة المغتربين من يد عضو اللجنة التنفيذية تيسر خالد، وأخرجتها من صلاحيات اللجنة التنفيذية حين أحالت إدارتها إلى مرجعية من خارج المؤسسة.
وبناء على هذا كله، تراجعت صلاحيات اللجنة التنفيذية لصالح السلطة الفلسطينية ووزاراتها وإداراتها المختلفة، ما يضع الحالة الفلسطينية أمام مؤسستين، واحدة يتم تجريدها من صلاحياتها، وأخرى يعمل الإحتلال على تقليصها، الأمر الذي يعني أن النظام السياسي مهدد بشكل خطير أمام إحتمال إنهيار المؤسسات الوطنية، في اللجنة التنفيذية، وفي السلطة الفلسطينية.
وهذا أمر يحتاج بالضرورة إلى معالجة سريعة وفورية وجذرية
(5)
ما أسهم أكثر فأكثر في تدهور أوضاع النظام الفلسطيني أنه، وبفعل سياسة التفرد والإنفراد، بدأ يتهدد بالتحول من نظام برلماني، إلى نظام رئاسي. فالنظام السياسي الفلسطيني، مرجعيته العليا هي المجلس الوطني الفلسطيني، الذي ينتخب اللجنة التنفيذية، وتتشكل لديه لجان برلمانية معنية بمراقبة أعمال اللجنة التنفيذية (الحكومة) ودوائرها (أي ما يشبه الوزارات). وهذا كله يقوم على أسس ديمقراطية توافقية.
ما جرى مؤخراً أن رئيس اللجنة التنفيذية بدأ بإلغاء مبدأ التوافقية لصالح سياسة إصدار المراسيم الفوقية. فأصدر مرسوماً بإلغاء بعض الدوائر، لصالح الوزارات. وأصدر مرسوماً بتعيين نبيل شعث لإدارة دائرة المغتربين.
وكان قد أصدر مرسوماً بإلغاء دائرة المغتربين وحول صلاحياتها إلى وزارة الخارجية التي تحولت بمرسوم آخر إلى «الخارجية والمغتربين» دون التشاور مع باقي الأطراف. وتحت ضغط الجاليات في أوروبا وأميركيا اللاتينية اضطر للتراجع، فنزع عن «الخارجية» في السلطة صلاحيات «المغتربين» وأعادها للدائرة بالصيغة الذكورة أعلاه. سياسة تقوم على تحويل الفرد إلى بديل للمؤسسة.
تجلى هذا بوضوح أكثر في تعطيل قرارات المجلس المركزي. وتعطيل قرارات المجلس الوطني. كما تجلى في الإنقلاب على هذه القرارات، حين تقدمت القيادة الرسمية بمشروع إلى مجلس الأمن الدولي لإستئناف المفاوضات تحت سقف إتفاق أوسلو. (ما سمي برؤية الرئيس في 20/2/2018).
(6)
في الوقت نفسه تتدهور الحالة السياسية أكثر فأكثر. فصفقة العصر تتقدم إلى الأمام خطوة خطوة، بالتنسيق مع بعض العواصم العربية، والتنسيق الوثيق مع إسرائيل. من القدس، إلى الإستيطان، إلى حق العودة وقضية اللاجئين ومصير وكالة الغوث. ونتنياهو سائر في مشروعه، لقطع الطريق على المشروع الوطني الفلسطيني بقيام الدولة المستقلة وتقرير المصير. في الوقت نفسه تزداد السلطة إلتصاقاً بالإحتلال إقتصادياً ومالياً، وأمنياً. في تعاكس تام مع قرارات المؤسسة. كل هذا دون القيام بأية خطوة عملية واحدة على طريق التصدي الميداني والعملي، والفعلي لصفقة العصر، أو التصدي الميداني والفعلي لسياسة نتنياهو.
ما يعيدنا إلى السؤال الأولى: النظام السياسي والقضية والحقوق الوطنية إلى أين؟ وإلى متى تعطيل قرارات المؤسسة؟ وإلى متى السياسة الإنتظارية؟ هذا كله طرحته الجبهة في قرارها مقاطعة أعمال للدورة الـ 29 للمجلس المركزي. لكنها لم تكتفِ بذلك، بل قدمت مشروعها للإنقاذ. وهو ما جاء في بيان المكتب السياسي للجبهة في 11/8/2018، يرسم المتطلبات الضرورية لإحداث النقلة السياسية المطلوبة. (راجع النص كاملاً في هذا العدد). كما قرعت جرس الإنذار في بيان المكتب السياسي في 14/8/2018 داعياً إلى ورشة عمل وطنية لإعادة بناء النظام السياسي بما هو نظام لحركة تحرر وطني، بحيث يتم صون م.ت.ف بإعتباره الحصن الوحيد الذي يجب أن نتمترس فيه دفاعاً عن القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية. عبر إعادة الإعتبار لموقعها التمثيلي وتوسيع قاعدة تمثيلها الديمقراطي على الصعيد الوطني.
ولا مبالغة في القول إن ردود الفعل الحريصة على مصالح الشعب وقضيته وحقوقه الوطنية إلتقت مع مواقف الجبهة الديمقراطية أو تقاطعت معها، وبالتالي عندما تقاطع قوى رئيسية المجلس المركزي (الديمقراطية، الشعبية، المبادرة الوطنية، حماس، الجهاد، الصاعقة، الشعبية ـــــــ القيادة العامة) وتتغيب عنه شخصيات وطنية مستقلة، ويخالف أعضاء في المركزي قرارات فصائلهم ويقررون المقاطعة، فهذا لا يعتبر حدثاً عادياً, بل هو الحدث الأول من نوعه في تاريخ الحركة الوطنية، وهو إن دل على شيء فعلى أن الأمور لا تسير في الإتجاه الصحيح، وأن الأوضاع أصبحت متردية، وأن الخطر الحقيقي بدأ يحدق بكل شيء، وأن على الحريصين على القضية أن يضعوا النظام السياسي والقضية الوطنية في غرفة العناية الفائقة، تحت إشراف المؤسسة الوطنية وفق قواعد التوافق الديمقراطي بين القوى السياسية المعنية، وبعيداً عن سياسات التفرد والإنفراد والإستئثار، وبحيث يحال «المطبخ السياسي» كصيغة قيادية إلى التقاعد لتحل محله صيغة العمل القيادي الجماعي.■