- تصنيف المقال : موقفنا
- تاريخ المقال : 2018-10-22
بقلم :أبو جورج
من منا و في أسوأ الحالات، كان يمكن له ان يتصور أن تصبح غزة كما هي عليه اليوم بعد 13 عاماً على فك الارتباط مع إسرائيل،حيث باتت مكاناً ممزقاً بالانقسامات السياسية الفلسطينية المريرة وثلاث حروب اسرائيلية وحصار خانق وعزلة شبه كلية عن بقية العالم. السؤال المنطقي هنا لماذا وصلت الأمور لما وصلت اليه ؟ لماذا فشلت كل الخطط التقنية التي وضعت من قبل المجتمع الدولي لغزة بعد فك الارتباط الأحادي من قبل إسرائيل عام 2005؟. أسباب فشل هذه الخطط انها لم تربط سياسيا بالمحادثات الأوسع حول النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، لذلك من الضروري للاعبين الدوليين والإقليميين على حد سواء أن يفكروا في التجارب الفاشلة المتعلقة بالمساعدة التقنية لغزة فيما تستمر جهود الأسرة الدولية لإيجاد حل لأزمة متفاقمة.
مغادرة إسرائيل لغزة
عمل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمات دولية أخرى تعمل في المناطق الفلسطينية. بعد شهرين من الانسحاب الأحادي الإسرائيلي من غزة، وتم اتفاق التنقل والعبور بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية "فيما عرف باتفاق المعابر". وقد فتح هذا الاتفاق على ما يبدو إلى حد كبير آفاق التنفيذ الناجح للخطط التقنية المتعلقة بغزة ما بعد فك الارتباط. صمم اتفاق التنقل والعبور لتحسين معاملات غزة التجارية العابرة للحدود مع إسرائيل، ما يتيح مرورا آمنا بين غزة والضفة الفلسطينية. كما سهل اتفاق التنقل والعبور عمليات التصدير الزراعية من المستوطنات الإسرائيلية السابقة التابعة لغزة وفصل الاستراتيجية التشغيلية لمعبر رفح الحدودي المراقب من الاتحاد الأوروبي وسمح باستئناف المحادثات المتعلقة ببناء ميناء غزة وإعادة بناء مطار غزة الذي دمر خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة الثانية التي اندلعت في 28 سبتمبر عام 2000.
سرعان ما تبددت الآمال والتطلعات لبدء فصل جديد من تاريخ غزة. فالنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي الأوسع والسياسات الفلسطينية الداخلية أثبتت أنها أقوى من الخطط التقنية المتعلقة بغزة. لقد كان من السذاجة ان يتوقع احد ان يتم تنفيذ الخطط بسهولة وسلاسة. ولكن حتى في أسوأ الكوابيس لم يتصور احد غزة كما هي عليه اليوم بعد 13 عاما من فك الارتباط، أي مكان ممزق بأكثر من عقد من الانقسامات السياسية الفلسطينية المريرة وثلاث حروب شنتها إسرائيل و هذا الحصار الجهنمي والخنق القاتل بنتيجة ذلك، يعاني سكان غزة اليوم من ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي وتداعي الخدمات الأساسية والبنى التحتية العامة وتراجع اقتصاد القطاع الخاص والانتشار الواسع لليأس والإحباط الكلي بين سكان غزة الذين يبلغ عددهم مليونين من البشر.
لقد قادت مجموعة من العوامل إلى هذه النتيجة المؤسفة، وبشكل أساسي مقاربة إسرائيل وحماس لخطة فك الارتباط وتطبيقها وكيفية عرضها. من الجانب الإسرائيلي، بالرغم من أن خطة إخلاء غزة، التي فاجأت الجميع عندما تم الإعلان عنها للمرة الأولى في ديسمبر من عام 2003 من قبل أرييل شارون، اعتمدت بشكل كبير على مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، فإن انسحاب إسرائيل من غزة كان أمرا محتما، وهي نقطة غالبا ما يتم تجاهلها في الكتابات المعنية بفك الارتباط عن غزة. وبخلاف الضفة الفلسطينية، لم تبرز قط آفاق الاحتلال الإسرائيلي لغزة على المدى الطويل أو تعتبر حتى منطقية من الناحية الاستراتيجية، فلا الجغرافيا ولا الديموغرافيا الخاصة بالمنطقة تسمح بوجود إسرائيلي مطول وسط سكان فلسطينيين شباب ومتطورين مقيدين في أراض صغيرة. وتشكل غزة في نهاية المطاف رقعة صغيرة من الارض، ومن أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم، إذ كان عدد سكانها عند فك الارتباط 1,3 مليون، مع زيادة سنوية بـ3,5 في المئة. وعلى ضوء هذه الوقائع، كان فك الارتباط الاسرائيلي في الواقع متوقعا على المستوى لاستراتيجي، إذ أنه كان مسألة وقت فحسب. بالمقابل قدمت حماس من جهتها فك الارتباط على انه نصر لها، وعبر تبرير فعالية مقاربة المقاومة المسلحة الخاصة بها التي نجحت في «تحرير» غزة. ولم تنتبه ولم تراعي أن الخطوة الإسرائيلية لم تكن مكتملة ولم يكن مهماً بالنسبة إلى «حماس» أنه (بعد فك الارتباط، أبقت إسرائيل على سيطرة حصرية على فضاء غزة الجوي ومياهها الإقليمية وسجل السكان الفلسطينيين والفضاء الكهرومغناطيسي ودخول وخروج السلع والأشخاص من وإلى غزة، باستثناء حركة الأشخاص عبر معبر رفح الحدودي مع مصر). في اندفاعها للاستفادة من إنجازها المعلن المتمثل في انتصار المقاومة، تنافست «حماس» مع حركة فتح في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي عقدت في يناير من عام 2006 وفازت في النهاية، مما شكل مفاجأة للجميع. وهكذا، ومع خروج آخر جندي إسرائيلي من غزة في ساعات الصباح الأولى في 12 سبتمبر2005، تم إغلاق غزة في الواقع وتسليمها إلى حماس. وأصبحت عملية التسليم رسمية عبر الانتصار الانتخابي المزلزل لحماس بداية عام 2006، وتم تأكيد هذا بعد ذلك منتصف يونيو 2007 مع استيلاء حماس العنيف على قطاع غزة برمته. وكما أظهرت السنوات المأساوية اللاحقة، أخذ وضع غزة بالتراجع مذاك الوقت.
فرصة ضائعة
بما أن إسرائيل وحماس قامتا بتظهير فك الارتباط كوسيلة لخدمة مصالحهما السياسية الخاصة، لم يكن هناك مجال كبير، هذا إن وجد أصلا، لإنجاح فك الارتباط من خلال الجهود الدولية الرامية إلى توفير منافع اقتصادية ملموسة لغزة، وقد كانت هناك عدة محاولات في هذا السياق. قاد البنك الدولي هذه المساعي في ديسمبر من عام 2004 عبر توفير مجموعة أوراق تقنية حول تحديث معابر غزة الحدودية مع إسرائيل وإنشاء مناطق صناعية ومناطق تصدير وجعل الاقتصاد الفلسطيني تنافسيا. وفي 14 أبريل 2005، تم تعيين الرئيس السابق للبنك الدولي جيمس وولفنسون كمبعوث خاص للجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط لفك الارتباط عن غزة. وبعد شهرين تعهدت قمة مجموعة الثمانية التي عقدت في غلين ايفلز في اسكتلندا بتقديم دعم مالي يصل إلى 3 مليارات دولار سنويا على مدى ثلاث سنوات لمساعدة وولفنسون على إنجازمهمته. وتضمنت مبادرات أخرى للقطاع الخاص مخصصة لغزة استثمارات في المستوطنات الإسرائيلية السابقة في جنوب غزة، وفي منطقة بيت حانون إيرز الصناعية في الطرف الشمالي لقطاع غزة. تبدو هذه الجهود الدولية، التي تشكل جزءا من بدايات تاريخ فك الارتباط، ذكرى بعيدة اليوم، إذ تم تضييعها في ظل الدمار الذي لحق بغزة في الماضي القريب. فلو تسنت فرصة ترجمة هذه الجهود على أرض الواقع إلى أقصى درجة، كانت لتقدم لغزة فرصة جيدة بمستقبل مختلف، إلا أن ذلك لم يحصل. وبما أن إسرائيل وحماس لديهما روايات متناقضة حول فك الارتباط، فإن الفشل كان شبه حتميا. بالإضافة إلى ذلك، كانت الجهود الدولية ذات طبيعة تقنية محضة، وكانت بالتالي غير ملائمة بطبيعتها للتعامل مع «مسألة غزة» المترسخة بعمق في سياق نزاع شديد التعقيد. وسرعان ما اصطدمت هذه الجهود الدولية بحائط مسدود عند انهيارها في يناير 2006، مع صعود حماس المفاجئ إلى السلطة، وأعلن لاحقا عن فشلها مع استيلاء حماس المسلح على غزة في منتصف 2007.
لم تغير خطة فك الارتباط سوء الحظ المستمر اللاحق بغزة. قد تعزى هذه النتيجة إلى أسباب متعددة. ولكن يمكن استخلاص عبرة واضحة: من غير المرجح أن تنجح الحلول التقنية لمشاكل غزة المعقدة، ما لم يتوفر سياق سياسي وأمني داعم. نحن مدركون أصلا لهذا الواقع، ولكن يبدو أن هذه العبرة وتداعياتها على مستوى السياسات غير مفهومة جيدا اليوم. على سبيل المثال، بالرغم من الإدراك المتزايد بأن تردي ظروف العيش في غزة يقترب بسرعة من نقطة الانهيار أو قد بلغها أصلا، فالحلول التي يتم تقديمها، سواء من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أو الإدارة الأميركية الحالية، تتخذ كلها شكل «قائمة مشاريع عملاقة» تهدف إلى إنقاذ اقتصاد غزة المتداعي ، انطلاقا من تجربة غزة ما بعد فك الارتباط،لا يمكن تنفيذ أي من هذه المشاريع وتحقيق كامل إمكاناتها، إلا إذا استقر الوضع السياسي والأمني في غزة أولا. يعيد هذا الشرط مسألة غزة إلى سياقها الأوسع حيث تنتمي، وحيث ما زال ضروريا إنجاز أعمال كثيرة على تلك الجبهة من جميع الأطراف المعنية، بما فيهم الفلسطينيون أنفسهم.