- تصنيف المقال : الاستيطان
- تاريخ المقال : 2018-10-30
تزعم إسرائيل وجود ما تسميها "الجريمة الزراعية" أو "الإرهاب الزراعي"، وأن هذه ظاهرة واسعة، منذ منتصف العقد الماضي واستفحلت في السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، توالت الأنباء التي تتحدث عن أن "الزراعة الإسرائيلية تنهار، الجريمة مستفحلة، التخلي عن أراض". والمتهم الرئيسي في هذه "الجرائم" و"الإرهاب" هم فلسطينيون من كلا جانبي "الخط الأخضر".
لكن تقريرا مطولا نشره المدون الإسرائيلي المعروف بكنيته "إيشتون" في موقع صحيفة "هآرتس" الالكتروني اليوم، الاثنين، أكد على أن الحديث يدور في هذه الحالة عن ظاهرة مزعومة، وهي أقرب ما تكون إلى مؤامرة، أطرافها هم منظمات المزارعين وسياسيون وصحافيون. ويفند "إيشتون"، من خلال تحقيق شامل، كافة ادعاءات ومزاعم هذه الأطراف الواحدة تلو الأخرى.
وشدد "إيشتون" على أن كل هذه المزاعم حول "الجريمة الزراعية" و"الإرهاب الزراعي"، هي في الواقع "كانت وما زالت كذبا"، وأنه "في إسرائيل لا يوجد ’إرهاب زراعي’ أبدا"، ويكشف عن أن "مصدر هذه القصة كلها بتنظيمات المزارعين، التي تحاول الحصول على ميزانيات من خزينة الدولة. والسياسيون الذين قالوا لكم إن هذه هي الحقيقة، اعترفوا في الوقت نفسه أن هذه هي القصة التي يجب روايتها، من أجل الحصول على ميزانيات وإرضاء اللوبي الزراعي. وأن مئات الصحافيين الذين نشروا عشرات آلاف التقارير الإخبارية وقالوا إن هذه الظاهرة هي حقيقة، لم يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق في المعطيات".
وأكد أن "الجريمة الزراعية القومية، ’الإرهاب الزراعي’ الحقيقي، نفذه بالأساس، بنسبة 80%، يهود ضد عرب". وأضاف أنه "لا يوجد أساس للادعاء بالتخلي عن 250 ألف دونم من الأراضي الزراعية نتيجة للجريمة الزراعية، وأن عربا من إسرائيل اشتروها بمساعدة تمويل من دول عربية". كما أن "الأضرار الناجمة عن الجريمة الزراعية ليست ضئيلة، لكنها ليست دراماتيكية أبدا قياسا بتكاليف أضرار أخرى في هذا المجال"، وأنه "خلافا لقصة ’الزراعة المنهارة’، فإن الزراعة الإسرائيلية في حالة نمو. وليس فقط أنه لا يوجد تراجع في هذا المجال، وإنما عدد المزارعين والأجيرين الذين يشغلونهم تزايد وحسب، في السنوات العشر الأخيرة، وكذلك رواتبهم وأرباحهم ومجمل المنتجات الزراعية".
ويظهر رسم بياني ورد في التقرير الإحصائي للشرطة الإسرائيلية، حتى العام 2017، ونُشر مطلع العام الحالي، أنه تم تسجيل أعلى عدد من الملفات المتعلقة بـ"الجريمة الزراعية" في العام 2006، وبلغ عددها 1816 ملفا. وتؤكد المعطيات على أن هذا العدد تراجع باطراد ليصل إلى 818 ملفا في العام 2017، ما يعني حدوث تراجع في ملفات هذه المخالفات بنسبة 55%.
لفت "إيشتون" إلى أنه "ليس بإمكان كذبة ’الإرهاب الزراعي’ أن تكون موجودة من دون وسائل الإعلام". ولم يورد الصحافيون، في عشرات آلاف التقارير المنشورة حول هذه القضية، بيّنة أو دليلا واحدا على "استفحال الظاهرة"، وإنما "زادت وسائل الإعلام الإسرائيلية، في السنوات العشر الماضية، وتيرة التقارير حول الجريمة الزراعية، وخاصة في السنتين الأخيرتين. وبكلمات أخرى، فإنه كلما تراجعت هذه الجريمة، وسّعت وسائل الإعلام التغطية بشأنها ووصفتها بمصطلحات قاسية أكثر، مثل ’إرهاب زراعي’ و’كارثة عامة’".
وللتوضيح، فإن "إيشتون" لا يتحدث عن صحافيين أو سياسيين من اليمين أو اليمين المتطرف، وإنما ينتمي هؤلاء إلى معسكر الوسط. وفي إحدى الحالات، على سبيل المثال، استعرض موقع "يديعوت أحرونوت" الإلكتروني، تقريرا أعده "مركز الأبحاث والدراسات" التابع للكنيست، عام 2016، وادعى الموقع وجود "ارتفاع متواصل في الجريمة". وأجرى الموقع مقابلة مع عضو الكنيست حاييم يلين، من حزب "ييش عتيد"، الذي قال إنه يوجد "تدهور كبير جدا في الجريمة الزراعية". ونشر الموقع، وكذلك صحيفة "يسرائيل هيوم"، العنوان التالي: "تقرير جديد: الجريمة الزراعية مستفحلة".
لكن يتبين من تقرير "إيشتون" أن وسيلتي الإعلام وكذلك يلين عكسا المعطيات. إذ أن معطيات تقرير "مركز الأبحاث والدراسات" تؤكد على تراجع هذه "الجريمة"، بحيث أنه تم فتح 1229 ملف تحقيق في العام 2011، وتراجع هذا العدد إلى 811 ملفا في العام 2015.
ووجد "إيشتون" أن جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية أخفت معطيات وتقارير الشرطة حول "الجريمة الزراعية". والمثال الأبرز على ذلك، هو أن وسائل الإعلام تجاهلت تصريحات المفتش العام للشرطة الإسرائيلية، روني ألشيخ، خلال مؤتمر في جامعة "بار إيلان"، الشهر الماضي. وقال ألشيخ إن "استخدام مصطلح ’إرهاب زراعي’ كان حملة للمزارعين وغايتها محاربة الحكومة لأنها رفضت منح دعم مالي لشركات تأمين ليس مجديا لها أن تؤمن مزارعين". وكانت "يسرائيل هيوم" الوحيدة التي نقلت هذا التصريح، لكن بصورة سلبية، وأنه مثال آخر على كون ألشيخ "مهووسا ومنقطعا عن الواقع"، وذلك على خلفية التحقيقات الجنائية التي تجريها الشرطة ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو.
إثر ذلك، أجرى موقع "القناة 7" اليميني مقابلة مع وزير الزراعة الإسرائيلية، أوري أريئيل، وهو أحد أبرز قادة المستوطنين. وأكد أريئيل على أنه لا يوجد في إسرائيل شيء اسمه "إرهاب زراعي"، وأنه يوافق بقدر معين على تصريح ألشيخ بأن الحديث عن حملة لمنظمات المزارعين.
تدعي منظمات المزارعين أن الحديث عن تراجع هذه المخالفات نابع من أن المزارعين يئسوا من تقديم شكاوى وأن الشرطة لا تحقق فيها، وأن 80% من "الجريمة الزراعية" لا تقدم فيها شكاوى. إلا أن معطيات مزارعين تثبت أن التراجع المذكور ليس نابعا من تراجع الشكاوى للشرطة. وعلى سبيل المثال، أكد مربو النحل على انخفاض بنسبة الثلثين في سرقة المناحل، منذ العام 2010. كذلك أفادت منظمة مربي الدواجن بأن هناك تراجعا ملحوظا وواضحا في "الجرائم" المتعلقة بهذا الفرع في السنوات الأخيرة. وقال مربو الأبقار، في تقرير صدر في العام 2010، إن ثمة تراجعا في سرقة الأبقار والمواشي بنسبة 42% وأن ذلك يتلاءم مع معطيات الشرطة.
ويتعلق ادعاء آخر، تتحدث عنه منظمات المزارعين والسياسيين ووسائل الإعلام، بأن "الجريمة الزراعية" ينفذها عرب ضد يهود، وأن هذا يثبت أنها "إرهاب قومي". لكن يتبين من البحث الذي أجراه "إيشتون"، أن المصالح الزراعية اليهودية تتمتع بحراسة مكثفة، وأن الجريمة الزراعية موجهة، عمليا وفعليا، ضد المزارعين العرب.
وأفادت المعطيات بأنه حتى أيار/مايو الماضي، 80% من سرقات البهائم حدثت في المجتمع العربي، رغم أن هذه المصالح الزراعية تشكل 2% فقط من المصالح الزراعية في إسرائيل. وقال ضابط في وحدة حرس الحدود خلال بحث في الكنيست إن "84% من السرقات انتقلت إلى الوسط العربي". ودعم ألشيخ أقوال ضابط حرس الحدود: "كلما مرّ الوقت ندرك أن هذا هو الاتجاه فعلا، رغم وجود تراجع بالمجمل، لكن داخل هذا التراجع (في الجريمة الزراعية) يوجد ارتفاع في الوسط العربي، بمعنى أنه يوجد انتقال للجريمة من الوسط اليهودي إلى الوسط العربي".
رغم ذلك، إلا أن أعضاء الكنيست ومنظمات المزارعين ووسائل الإعلام يواصلون التحدث عن الجريمة الزراعية على أنها "إرهاب قومي"، بينما بقيت معطيات الشرطة مدفونة في بروتوكولات الكنيست. ليس هذا وحسب، وإنما أعضاء الكنيست ادعوا أن معطيات الشرطة "خاطئة" وطالبوا باستخدام مصطلح "إرهاب زراعي".
ويصر أعضاء الكنيست على تسمية ذلك بـ"إرهاب"، وفقا لـ"إيشتون"، لأنه "من الصعب جدا في إسرائيل الحصول على ميزانيات ودعم عام من دون استخدام ادعاءات أمنية". واللافت أن الغالبية الساحقة من أعضاء الكنيست هؤلاء ينتمون إلى كتلة "المعسكر الصهيوني" أي حزب العمل، الذين يوصفون في إسرائيل بـ"اليسار" بادعاء تأييدهم المزعوم لحل الدولتين. "تماما مثلما يتهم اليسار المحرضين اليمينيين، فإن لتصريحاتهم تبعات فعلية: لقد تسببت فرية الإرهاب الزراعي العربي بإرهاب يهودي مضاد يتمثل بـ’عمليات انتقامية’ و’تدفيع الثمن’ الزراعي بشكل كبير".
ووفقا لتقارير الشرطة الإسرائيلية، بين الأعوام 2011 – 2015، فإنه تم فتح 116 ملف تحقيق في جريمة زراعية على خلفية قومية، بينها 93 ملفا ضد يهود و23 ملفا ضد عرب. و0.4% فقط من ملفات الجريمة الزراعية في هذه الفترة هي ضد يهود. وتعني هذه المعطيات أن 80% من الإرهاب الزراعي يرتكبه يهود. حتى أن عضو الكنيست إيلي أوحانا، من حزب الليكود، قال في إحدى الجلسات في الكنيست إن "غالبية مطلقة من المجرمين هم يهود. لماذا نجمّل ذلك؟".
وأشار "إيشتون" إلى جانب آخر في كل هذا التحريض العنصري على العرب، يتمثل بمصادرة أراض زراعية من مواطنين عرب من أجل إقامة مستوطنات يهودية عليها، مثلما حصل لدى مصادرة 1700 دونم من قرية بير هداج، المعترف بها في النقب، والتي يزرعها أصحابها بموجب القانون. ويشار إلى أن مشاهد كهذه تتكرر باستمرار في الضفة الغربية المحتلة.
وفيما يتعلق بادعاء التخلي عن 250 ألف دونم بسبب "الجريمة الزراعية"، يتبين من تقرير "إيشتون" إن معظم هذه الأراضي أعيدت إلى الدولة بعد انتهاء مدة استئجارها. وتحاول منظمات المزارعين التضليل من خلال إعطاء معلومات كاذبة بخصوص الادعاء بأن "المزارعين هربوا من هذا المجال". فبحسب معطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، عمل في الزراعة 43300 مواطن إسرائيلي في العام 2007، وتراجع هذا العدد إلى 37900 في العام 2016. لكن تبين أن المزارعين الذين تركوا المجال، وعددهم 5400، هم عمال وليسوا أصحاب المصالح الزراعية، وأنه تم استبدالهم بعمال فلسطينيين أو أجانب. وفي المقابل، ارتفع عدد أصحاب المصالح الزراعية بـ300 مزارع.
وأكد "إيشتون" في ختام تقريره على أن "هذه قصة فرية برائحة عنصرية. والواقع مختلف عمليا، وحتى أنه معاكس للقصة التي تُسوّق للجمهور. والجريمة الزراعية هي مشكل مثل أية جريمة، لكنها خالية من العنصر القومي وأصغر بكثير نسبيا من غايات المزارعين والكنيست ووسائل الإعلام. وفي المقابل، فإن العنصرية الماثلة من ورائها، تصل إلى كل ركن في إسرائيل، من دون فرق كبير بين يمين ويسار".