- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2019-02-26
أتوجه إليكم بهذه الرسالة في وقت تتعاظم فيه المخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية بالتصفية، بالترافق مع عملية التآكل والتدمير الذاتي الناجمة عن الانقسام والاستقطاب الثنائي الحاد، الأمر الذي ينذر استمراره بضياع كل شيء.
إنّ إطلاق حملتي "ارحل" التي تقودها حركة حماس ضد الرئيس محمود عباس، و"اخترناك" المضادة التي تقودها حركة فتح، نموذج صارخ على التوهان وتغليب التناقضات الثنائية على التناقض الرئيسي، ما يحرف الأنظار عن التحديات الجسيمة، ويحدّ من إمكانية مواجهتها، كونه يستنزف الطاقات الفلسطينية في الصراع الداخلي المدمر، في الوقت الذي تستعد فيه الإدارة الأميركية لطرح "خطة ترامب"، بُعيد الانتخابات الإسرائيلية في نيسان القادم، الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، مقابل "سلام اقتصادي" يهدف إلى مقايضة الحقوق الفلسطينية بمشاريع اقتصادية.
كيف يعقل أن نوجه حرابنا ضد بعضنا البعض في وقت تُشنّ فيه حرب شعواء ضدنا جميعًا، فمن جهة تشن الإدارة الأميركية بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية حربًا على السلطة الفلسطينية لإخضاعها للقبول بـ"صفقة ترامب"، كما يظهر في رفض إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، ووقف المساعدات الأميركية للسلطة، ولوكالة غوث اللاجئين (الأنروا)، ضمن مخطط لتصفية قضية اللاجئين، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وتشريع الاستيطان، والاعتراف بالرواية الصهيونية للصراع، وأخيرًا قرار خصم مستحقات الأسرى والجرحى وعائلات الشهداء من أموال عائدات الضرائب الفلسطينية.
وفي هذا السياق، لا بد من دعم الموقف الشجاع الذي اتخذه الرئيس والسلطة وحركة فتح ضد "صفقة ترامب"، والقرارات الأميركية والإسرائيلية، من دون التقليل من الأخطاء والخطايا التي ارتكبت بخصوص العقوبات على قطاع غزة كطريق خاطئ وخطير لإنهاء الانقسام أدى إلى تعميقه بدلًا من إنهائه، ومن عدم توفير متطلبات تحقيق الوحدة الوطنية الضرورية لإسقاط المخططات التصفوية.
ومن جهة أخرى، يجب دعم موقف حركة حماس ضد "صفقة ترامب"، وصمودها وشعبنا في قطاع غزة في وجه الحصار الخانق الذي حوّل حياة الغزيين إلى جحيم، وفي وجه العدوان العسكري الذي ما يوقف حتى يُشن من جديد.
تكمن المأساة في أنه على الرغم من رفض حركتي فتح وحماس لـ"صفقة ترامب"، إلا أن الانقسام والصراع بينهما يعبّد الطريق أمام تحقيقها.
أبدأ بمخاطبة الرئيس الذي يتحمل المسؤولية الأولى عن كل ما يجري بعجره وبجره، وهو في محصلته لا يسر صديقًا، لا سيما أن بيده كل السلطات والصلاحيات من دون رقابة ولا مساءلة، في وقت أطاح فيه الانقسام والاستقطاب الثنائي بما كان للمؤسسة أو ما تبقى لها من قدرة على تحمل المسؤولية عما يحدث وما يصدر من قرارات.
الأخ الرئيس أعرف أنك تتحمل أعباء ضخمة تنوء بثقلها الجبال، ولكنها تستوجب حشد كل القوى والطاقات والكفاءات الفلسطينية في مجرى واحد، وليس المزيد من الشرذمة والانقسام والتحكم بمصادر القرار والسعي لإخضاع "حماس" من خلال التركيز فقط على تمكين الحكومة وإخراج "حماس" من الحكم في غزة، ووضع شروط تعجيزية لن تقبلها إلا في حالة واحدة، عندما تهزم هزيمة ساحقة، وهذا هدف لا يجب السعي إليه، كون "حماس" جزءًا من الشعب الفلسطيني لها ما له وعليها ما عليه.
كما أتوجه بهذه الرسالة إلى حركة فتح، كبرى الفصائل الفلسطينية، وصاحبة الدور القيادي التاريخي الذي من دونه كانت القضية الفلسطينية ستكون في وضع أسوأ بالتأكيد، مؤكدًا لها أن الزمن الذي كانت فيه "فتح" تقود الثورة والمنظمة وتهيمن عليهما وحدها قد ولّى، حين كانت تحوز على الأغلبية الكبيرة والمستمرة، رغم مساحة المشاركة والتعددية التي كانت قائمة، وتعكس إلى هذا الحد أو ذاك توازن القوى الداخلي، وعلاقات وتداخلات الأوضاع العربية في الساحة الفلسطينية التي كان مركز قيادتها في الخارج، وفي البلدان العربية، وتحديدًا المحيطة بفلسطين.
أوجد صعود "حماس" منافسًا قويًا لفتح، التي تراجعت لأسباب تتعلق بتداعيات توقيع "اتفاق أوسلو"، الذي شكّل، رغم الظروف التي دفعت إليه، تنازلًا خطيرًا عن الحقوق الفلسطينية، وما لحقه من ذوبان "فتح" في السلطة على حساب دورها التاريخي كجزء من حركة التحرر الوطني، وما رافقه من تقزيمٍ للمنظمة لصالح السلطة الوليدة والمقيدة بقيود والتزامات ثقيلة ومجحفة، ما يقتضي مراجعة "فتح" لنفسها، لتعود كما كانت حركة تحرر وطني وليس حزبًا لسلطة تحت الاحتلال.
لقد تقدمت "حماس"، لدرجة حصولها على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، ونفذت "انقلابًا" على السلطة، مستفيدة من تطورات عدة، أهمها الموقف الأميركي الجديد، الذي ظهر في تبني مقاربة تغيير الأنظمة العربية الشائخة، من خلال تشجيع ما يسمى "الإسلام المعتدل" في مواجهة ما يسمى "الإسلام المتطرف والأنظمة الديكتاتورية"، التي استنفدت أدوارها، وأوجدت نوعًا من الفراغ الذي حاولت تعبئته قوى وأطراف غير مرغوبة محلية وإقليمية.
كما أتوجه بهذه الرسالة إلى حركة حماس، مبتدئًا القول إن عليها بشكل أكبر مواصلة تجسيد نفسها كحركة وطنية فلسطينية، وليست امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، على ألا يكون ذلك مرتبطًا بتقدم أو تأخر "الإخوان". فـ"حماس" كجزء من "الإخوان" يعني أن أولوياتها ليست فلسطينية، وإنما إخوانية، وهذا يلحق الضرر بالقضية الفلسطينية التي هي قضية عادلة وجامعة وقادرة على الحصول على دعم مختلف القوى والمحاور، ومقتل لها أن توضع في جيب أحد مهما كان.
أقول لحماس إن دخولها السلطة الواقعة تحت الاحتلال من دون ضمان تخليها عن أوسلو والتزاماته جعلها تحت سقف أوسلو، وأخذت تنافس خصمها الداخلي على السلطة والتمثيل على حساب برنامجها السياسي. كما جعلها رهينة المساعدات الضرورية لتلبية احتياجات السلطة، لا سيما بعد "انقلابها" على السلطة في غزة، وأصبحت تعطي الأولوية لاستمرار هذه السيطرة والحصول على الشرعية والدعم للسلطة على كل شيء، بما في ذلك الأولوية على المقاومة المفترض أن "حماس" سيطرت على السلطة من أجل حمايتها.
كان بمقدور "حماس" أن تدخل السلطة من بوابة المجلس التشريعي من دون أن تحكم، وبصورة ستمكّنها من التأثير على الحكم من دون تحمل مسؤولياته.
لا يمكن أن تحتفظ "حماس" بالسلطة بشكل انفرادي، وتطالب بتمويلها من خصمها وبتحقيق مكاسب جديدة مثل الانضمام إلى المنظمة.
إن هذا الواقع يطرح ضرورة تقديم مخرج وطني، يتمثل في أن تمضي "فتح" والمنظمة في تطبيق قرارات المجلس الوطني الرامية إلى الانفكاك من "أوسلو" والتزاماته، وإنهاء هيمنة وتفرد الرئيس و"فتح" على مؤسسات السلطة والمنظمة، بالتزامن مع مواصلة "حماس" مسيرة توطينها كحركة وطنية فلسطينية، مع احتفاظها بالأبعاد الفكرية التي تريدها، واستعدادها للتخلي الفعلي، وليس الشكلي، عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، مقابل أن تكون شريكة كاملة في السلطة والمنظمة، على أساس برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، ويحفظ الحقوق والمصالح الفلسطينية، ويكون قادرًا على التحليق في المحافل والمستويات العربية والإقليمية والدولية.
أما المقاومة وسلاحها والأجنحة العسكرية التابعة لها فيمكن أن تنظم من خلال تشكيل مرجعية وطنية أو جيش وطني يلتزم بإستراتيجية موحدة وبالقيادة الواحدة.
يقتضي هذا المخرج بلورة رؤية شاملة ووضع إستراتيجيات لتنفيذها، على أساس إعطاء الأولوية لوقف التدهور وتقليل الخسائر، وحماية القضية من التصفية وإبقائها حية من خلال إحباط المخططات المعادية، وما يقتضيه ذلك من تعزيز صمود وتواجد الشعب على أرض وطنه، والحفاظ على هويته الوطنية، من دون إعادة إنتاج الرهانات الخاسرة وأوهام الحل القريب، أو النصر الذي على مرمى حجر.
كما يقتضي إعادة النظر في طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها لتصبح أداة في خدمة البرنامج الوطني المشترك، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لكي تتسع لمختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، على أسس وقواعد وأهداف متفق عليها، بحيث لا يكون مقرها ودوائرها مثل السلطة تحت الاحتلال، وإنما تنتشر في مختلف أماكن تواجد التجمعات الفلسطينية داخل الوطن وخارجه.
الحل المطروح بعيد عن التحقق وأشبه بالحلم، لأن روافعه وأدواته غير متوفرة، فالإنجازات الكبرى عبر التاريخ بدأت بالأحلام، وكانت تبدو مستحيلة، إلى أن حولتها الإرادة البشرية إلى واقع وحقائق.
لا يعني كون هذا الاحتمال بعيدًا عدم فعل شيء، إذ يجب على كل فرد أو مجموعة عدم الانتظار، وعمل كل ما يمكن عمله، مثلما فعلت حركة مقاطعة إسرائيل، ومسيرات العودة، وشعبنا في القدس، وفي كل مكان، فهو لا ينتظر الوحدة، بل يقاوم ويبني وينجز، وهذا يُقرّب موعد إنجاز الوحدة.