- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2019-03-20
الصور القليلة الآتية من غزة تشعّ بالظلام الدامس هنا فكراً وروحاً، وتنطق خجلاً وعاراً لأنها ظهرت على وقع تكبيرات الابطال الاسرى في سجون الاحتلال، ووقع قرارات الظلم الاسرائيلية بإغلاق إحدى أبواب قبلة المسلمين الأولى، وعلى صدى أيقونة الإباء والكرامة عمر أبو ليلى. تكسير وتعتيم وعنف واعتقالات لبطون فارغة وأرواح يائسة خرجت سلمية شعبية غير مؤطرة تقول بدنا نعيش !! فالجوع والكرامة لا يلتقيان في الحياة العادية فما بالك بحياة الفلسطيني الصابر القابض على الجمر! هل ما فعلوه هؤلاء المساكين عيباً أم تحطيماً للمقدسات أم ربما خيانة ولم لا ؟ ففي عقيدة الملوك من ليس معنا فهو ضدنا ..
إن مايحدث في غزة يطرح تساؤلين بأبعاد متعددة:
الأول: لماذا كل هذا الذعر والغضب من حكام غزة على مواطن معدم؟؟ وكل هذا القمع والتدابير الامنية لإسكات كل صوت وكل صورة ؟ ألا تدّعي حماس أن السبب في الوضع المأساوي هو الاحتلال أولاً وسلطة رام الله ثانياً؟ أم أن السلوك الحمساوي في القمع هو سلوك طبيعي لجميع الحركات الاسلامية (مع التحفظ على المصطلح) الحاكمة على قاعدة تفسير الديمقراطية وأيامها الثلاث: يوم للانتخابات ويوم للفوز ويوم القيامة ؟؟
السؤال الثاني: إلى متى سيبقى المواطن الفلسطيني في غزة دفّيع للثمن ؟ ثمن الخلافات بين فتح وحماس، وثمن الخلافات بين مصر وحماس، وثمن الحروب بين اسرائيل وحماس، وثمن أزمات الفساد سابقا ولاحقا وثمن كل مصيبة شاردة وواردة على الفلسطينيين؟
ثلاث عشر عاماً استطاعت خلالها حماس تثبيت اركان حكمها في غزة وإرساء شرائعها بأسلوب قابل للتكيف مع الظروف القائمة في كل شيء إلا في أمر واحد لا يقبل مناقشة أو قسمة على اثنين وهو "السلطة" . تسمح سلطة حماس بالمظاهرات في كنفها طالما تتواءم مع سياستها كمظاهرات الموظفين وتجمعاتهم المتكررة للمطالبة برواتبهم المقطوعة أو المجتزءة والمظاهرات على شاكلة "ارحل يا عباس" .. بينما تأتي المظاهرات الحالية مختلفة بالمطلق، فعلى الرغم من أنها تعبر عن واقع لا تتحمل حماس مسئوليته وحدها إلا أن توقيتها جاء بعد اقرار حكومة حماس بجملة سياسات ضريبية كانت كالقشة التي قصمت ظهر المواطن، والأدهى ما صاحبها من تبريرات غبية تستخف بالعقول. وحيث أن حماس تعي جيداً أن هذا الحراك شعبي وعفوي ودون ترتيب مسبق أو توجيه من فصيل إلا من بطون فارغة وأصوات صارخة باستحالة الحياة الآدمية، فهي تعي أيضا أنه إذا سمحت لعشرة أشخاص بالحراك بدنا نعيش، فسيصبح العدد ألف بعد ساعة، وعشرة ألاف بعد ساعتين، وربما في آخر النهار ستجد أن غزة قد خرجت عن بكرة أبيها بحماس وفتح والمستقلين والغير المحزّبين تصرخ بدنا نعيش .. نحن ما زلنا بشراً! لكن هل يمكن ان يحدث هذا؟ بالطبع لا، لأنه سيمس بشكل مباشر صورة حركة حماس كحاكمة قوية لغزة وقادرة على ضبط الأمور والهدوء والأمن ! ولأنه سيطرح تساؤلات حول أحقيتها وقدرتها على الحكم.
وفي إطار عقيدتها، فإن هذه التساؤلات مثل الحراك محرمة وغير شرعية، لأنها خروج عن الحاكمين وتهديد لبقائها وأشد خطرا عليها من الاعتداءات الاسرائيلية فالأخيرة تضمن بقاء الفكرة بل وتستخدم كوقود لتعزيزها ونشرها بين اليائسين، أما مظاهرات الجوع ببعدها الاجتماعي فهي ناقوس خطر سياسي داهم ودال على فشل حكمها.
وحركة حماس، رغم كينونتها الفلسطينية، إلا أنها جزء من منظومة الحركات السياسية الدينية وعقليتها وشرائعها، فإذا اعتبرنا أن من يتحدث عن حق التعبير ومفردات الديمقراطية في العالم العربي واهم كبير، فإنه في ظل حكم الحركات الدينية مجنون بامتياز . لأن الديمقراطية بنظرها، هي فقط آلية للتداول على السلطة وليست شريعة تحكم الحياة، والخطاب السياسي يصبح بعد الحكم خطاباً تبريرياًّعاطفياًّ يتميز بتغييب العقل وتسطيح الأمور.
إن خصوصية الوضع الفلسطيني وهبت لحماس ميزة البقاء، فعليها أن توقن بأن الصمت ليس معناه رصيداً شعبياً. وأن ملء بطون الناس بالشعارات الرنانة لا يشبع ولا يكف للعيش بكرامة . ولذا عليها أن تضع استراتيجية شاملة لحل معاناة الناس في غزة، أما حلول كل يوم بيومه لا تنفع، فمن يريد حكماً عليه أن يتحمل وزره.
السؤال الأخير كم يوما تفصلنا عن حرب اسرائيلية على غزة لتنسينا العيش كله؟؟