إذا كان التوسع الاستيطاني المتعاظم ليس سببا كافيا للانسحاب من المفاوضات فما هي الأسباب التي ينتظر المفاوض الفلسطيني نشوءها حتى يأخذ هذا الموقف؟
أوضح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن التفاهمات التي توصل إليها مع كل من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي عشية إطلاق المفاوضات بينهما، لم تتضمن وقف الاستيطان. والمفارقة أنه عبر في الوقت نفسه عن قلقه من استمرار الاستيطان وأكد أن بلاده تعتبر التوسع الاستيطاني غير شرعي!
والمعروف أن ما سمي بـ «تفاهمات كيري» قد فرضت على المفاوض الفلسطيني فرضا من خلال الضغط المنهجي الذي مارسته الإدارة الأميركية من أجل إجباره على الالتحاق بالمفاوضات متخليا عن المطالب الفلسطينية المعروفة بشأن الاستيطان ومرجعية المفاوضات.
ومع أن المفاوضات قد وصلت إلى جولتها الرابعة عشرة، إلا أنها لا تزال تراوح في حلقة مفرغة والمتحرك الوحيد على الأرض هي قاطرة الاستيطان التي وجدت في «تفاهمات كيري» المذكورة حافزا إضافيا كي تنطلق بالسرعة القصوى.
توضيحات كيري جاءت خلال لقائه وزراء خارجية «المتابعة العربية» في اجتماع جمعهم وإياه في العاصمة الفرنسية باريس. وفي معرض حديثه عن الاستيطان لفت الانتباه أنه، وعلى الرغم من قوله بعدم شرعية الاستيطان في قاموس الإدارة الأميركية، إلا أنه قدم تبريرات ومقارنات تدل على أن واشنطن قد دخلت تماما على خط دعم الاعتبارات الأمنية والسياسات التوسعية لحكومة نتنياهو.
* فهو أحال العطاءات الاستيطانية المتسارعة التي تطلقها الحكومة الإسرائيلية بأنها تأتي في سياق «التزام» رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام أحزاب ائتلافه الحكومة بالاستمرار في الاستيطان. وهو أحد القواعد التي تشكل على أساسها الائتلاف. ويعبر كيري عن تفهمه لما يقوم به نتنياهو بشأن الاستيطان وبأن ذلك يأتي في سياق حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على استقرار الحكومة.
وفي ذروة كلام كيري عن قلق إدارته من تواصل توسيع الاستيطان أجرى مقارنة مستنكرة ما بين ما يجري في الضفة من تغول للاستيطان وبين اكتشاف نفق بين غزة وأراضي الـ48، واعتبره أمرا خطيرا يمس أمن إسرائيل الذي شدد الوزير الأميركي على أن حماية أمنها في مقدمة ثوابت السياسة الأميركية بشأن مستقبل التسوية.
حتى قبيل إطلاق المفاوضات، كان واضحا أمام المراقبين أن الإدارة الأميركية لم تطلب من تل أبيب وقف الاستيطان أو تجميده. وتوصل كيري خلال لقاءاته مع نتنياهو إلى تفاهم يقوم على «ضبط» الاستيطان أو كبحه دون أن يعطي تفسيرا محددا لهذا الضبط.
وترك الأمر للحكومة الإسرائيلية ورئيسها كي ينظموا التوسع الاستيطاني. ولمس المراقبون منذ ذلك الوقت أن تل أبيب اعتبرت هذا التفاهم بمثابة ضوء أخضر يسمح لها بتنفيذ الحلقات الرئيسية من سياساتها التوسعية في الضفة الفلسطينية وتركيز التوسع الاستيطاني في القدس الشرقية كي تقطع مع أي إمكانية لأن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية، التي هي بدورها تتضاءل فرص قيامها بسبب الاستيطان.
وبسبب ذلك، باتت المفاوضات والاستيطان يسيران جنبا إلى جنب، وعندما ضغطت واشنطن كي تسير عملية التفاوض بوتيرة أسرع، قامت تل أبيب بتسريع إطلاق العطاءات الاستيطانية على الرغم من أن التفاوض لم يدخل في بحث القضايا الأساسية المدرجة على جدول الأعمال.
من جهة متممة، طرح الاتفاق على إطلاق سراح الأسرى القدامى تساؤلات كثيرة، وخاصة عندما ربطت إسرائيل إطلاق كل دفعة من الدفعات الأربعة بموجة مستجدة من العطاءات الاستيطانية وكان آخرها الإعلان عن بناء 1500 وحدة استيطانية في حي رامات شلومو الاستيطاني في القدس المحتلة. وكانت قد قامت بمثل هذه الخطوة عند إطلاق الدفعة الأولى، مما دفع المراقبين لأن يتحدثوا عن معادلة «الأسرى مقابل الاستيطان» كأساس أرادته إسرائيل في اتفاق الأسرى القدامى.
المشكلة أن حديث كيري أمام «المتابعة العربية» في باريس لم يستوقف أيا من أعضاء اللجنة، وبذلك تم اعتبارها بوابة لتمرير ما تراه واشنطن بشأن التسوية على الرغم من البيانات والتصريحات التي شددت في العام 2010 على أن تجميد الاستيطان ووقف هدم منازل الفلسطينيين وتهويد القدس مسألة ضرورية كي يتأمن المناخ السياسي الملائم لإطلاق المفاوضات في ذلك الوقت.
* فعلى لسان الرئيس الأميركي نفسه تم إطلاق هذه الدعوة وتبع ذلك بيانات للجنة الرباعية الدولية وتصريحات ومواقف للجنة المتابعة العربية بالاتجاه نفسه. ولكن مع مرور الوقت وتبدل الموقف الأميركي تبين أن مواقف كل من «الرباعية» و«المتابعة العربية» كانت صدى للموقف الأميركي لا أكثر، مع تقديرنا للاعتراضات التي أبديت من الجانب الروسي في عدة محطات من التسوية. لكن النتيجة العملية أدت إلى استمرار الاحتكار الأميركي للإشراف على عملية التسوية برمتها. ومع انحياز واشنطن المستمر لصالح الموقف الإسرائيلي باتت هذه العملية برسم التصورات والاعتبارات الأمنية والتوسعية الإسرائيلية حصرا.
والمشكلة الأكبر، أنه وعلى الرغم من وضوح الموقف الأميركي تجاه شروط التسوية المجحفة، إلا أن المفاوض الفلسطيني لا يزال يؤكد المرة تلو الأخرى على أنه سيستمر في عملية التفاوض حتى نهاية مدة التسعة أشهر التي وضعت لها. وإذا كان التوسع الاستيطاني المتعاظم ليس سببا كافيا للانسحاب من المفاوضات فما هي الأسباب التي ينتظر المفاوض الفلسطيني نشوءها حتى يأخذ هذا الموقف؟
وفيما يثمن الوزير كيري «صمود» المفاوض الفلسطيني أمام الضغوط الشعبية والسياسية الفلسطينية التي تطالبه بالانسحاب من المفاوضات، فإن الشارع الفلسطيني ومعه القوى الفلسطينية تتساءل عن السبب الذي يمنع المفاوض الفلسطيني من توظيف صموده وتحويله في مواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي تريد إدامة بقائه إلى طاولة التفاوض في الوقت الذي تتآكل فيه القضايا التي ينتظر أن يبدأ النقاش حولها.
مع مرور الوقت، تتبدى المؤشرات وتتوالى مؤكدة أن هذه المفاوضات لن تأتي سوى بالكوارث على الشعب الفلسطيني، وتعيد الحالة الفلسطينية برمتها إلى حالة من الجمود والسلبية في سياق استمرار السياسة الانتظارية التي ينتهجها المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف