- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2019-06-20
في الحالة الفلسطينية مدرستان في النظر إلى الحركة الجماهيرية:
• المدرسة الإستبدادية التي تنظر إلى المجتمع بإعتباره كتلة صماء، يشكل خطراً على البيروقراطيات الحاكمة إذا ما تغلغل الوعي في صفوف أبنائه، وإذا ما تشربوا مفاهيم وقيم الحرية والديمقراطية. ما يتطلب السيطرة على المجتمع، بأشكال شتى، أمنية وإعلامية وثقافية، وعبر بناء شبكة من العلاقات الزبائنية وشراء الذمم، وبناء مصالح فئوية لجماعات ترى مصالحها مرتبطة بدوام السلطة والسلطان، والتسبيح بحمده، وترتيل نشيد الظل العالي في الإشادة بنعمه، وإنتصاراته الوهمية، بما في ذلك تحويل هزائمه، وهي كثيرة، إلى إنتصارات مزعومة، ورسم هالة حوله وحول أقواله وتصريحاته، وتدبيج المقالات في الإشادة بحكمته، وتقديمه قائداً فرداً بديلاً للمؤسسة والمجتمع، هو وحده يقف وراء المكاسب والإنجازات، وهو وحده رجل التحديات، وما على الحركة الجماهيرية سوى أن تكون على أهبة الإستعداد للنزول إلى الشارع عندما يطلب منها، ترفع الشعارات التي ترسم لها، وتسير وفق المخطط الموضوع لها. وعليها في المقابل أن تعود إلى السبات الشتوي عندما تنتفي الحاجة لها، وتبقى إحتياطاً في جعبة الإستبداد والفساد.
وإذا ما عصت الحركة الجماهيرية الأوامر، والتعليمات، وخرجت إلى الشارع منفردة، دون أن يطلب منها نظام الإستبداد، وتجرأت على رفع شعاراتها الخاصة، ولو كانت مطالب إجتماعية متواضعة، كانت عصا القمع بإنتظارها. وبإنتظارها أيضاً زنازين الإعتقال العشوائي، والفصل من الوظيفة، والتشريد في الشوارع عقاباً لها على تمردها على صاحب النعمة.
وليس خافياً أن في ظل هكذا سياسة، ينزلق أنفار من المرتدين، وراء المصالح الفئوية، فيبدلون مواقفهم، ويشتمون ماضيهم، ويلتحقون بالركب، ويتحولون إلى أسوأ أنواع المنافقين والمدعين، بل وينتحلون زوراً وبهتاناً صفة المتحدثين باسم «جماهير شعبنا».
* * *
• المدرسة الثانية، وهي تنظر إلى المجتمع باعتباره فئات إجتماعية متباينة ومتنوعة، وذات ميول وتوجهات ورؤى وآراء، تفكر وتناقش، ولها الحق في رسم مصيرها ومصير وطنها، تعبر عن نفسها ببناء أطرها المجتمعية الخاصة بها، بناء لقناعاتها، بآليات ديمقراطية، تتيح لها فرص التعبير عن ذاتها، دون ضغوط، ودون ترغيب، ودون ترهيب، يحفظ لها القانون حقها في العيش بكرامة وطنية. تمارس حقها الديمقراطي في اختيار ممثليها، وحقها الديمقراطي في انتقاد آرائهم وأداء السلطة التنفيذية، لها الحق في التعبير عن آرائها بحرية كاملة، بالكلمة وبكل أشكال التحرك الجماعي السلمي. ترسم خياراتها واتجاهاتها السياسية بقناعات هادئة، تتوفر لها الفرص لتساهم في تنمية الوعي والحياة السياسية، وتعمل على تطوير مجتمعها المدني، وتنظيمه بمؤسسات وأندية واتحادات اجتماعية وثقافية وتربوية ونقابية وغيرها.
هذه المدرسة تنطلق من قناعة بأن الديمقراطية هي أساس بناء الحركة الجماهيرية وتطويرها، لتصبح هي الناطقة باسم شرائحها واتجاهاتها بديلاً لادعاءات انتهازية، تحاول أن تحتكر حق الحديث والتصريح «باسم جماهير شعبنا» حتى في معاركها البوليسية ضد «جماهير شعبنا» نفسها.
* * *
ما جرى في السان سلفادور يومي 14 و 15/6/2019، كان مؤشراً خطيراً وبالغ الدلالة.
تنادى وتلاقى، من عشرة بلدان في أميركا اللاتينية والكاريبي، ممثلون عن جمعيات ومؤسسات إلى جانب شخصيات وطنية وازنة ومعترف لها بدورها الوطني في صفوف الجاليات الفلسطينية.
تمثلت في اجتماعات تشاورية أكثر من 16 مؤسسة قائمة وفاعلة، لها دورها ونشاطها وبرامجها. معترف بها رسمياً من قبل السلطات المحلية. إلى جانب شخصيات وطنية لا تحتاج إلى تعريف عن تاريخها ولا عن حاضرها الوطني، في خدمة جالياتها، ووطنها وقضيتها.
اتفق المجتمعون بعد مشاورات مطولة، على تأسيس اتحاد خاص لهم ينظم عمل مؤسساتهم وينسقها، يؤطرها في اتجاهات تخدم مصالح الجاليات في بلدانها، ومصالح الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
طبقاً للإجراءات القانونية المرعية، انعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد الفلسطيني في أمريكا اللاتينية [آبال] حضره ممثلون عن الجاليات، وجمهور من أبناء البلد المضيف وأحزابه المحلية وممثل عن سفارة دولة فلسطين، ظهرت صوره جلية في البيانات الصادرة عن أعمال المؤتمر، وتلقى برقيات تهنئة، من أبرزها المطران عطاالله حنا. ناقش المؤتمر القضايا المدرجة على جدول أعماله. إنتخب بصورة ديمقراطية هيئته الإدارية، المطلوب منها العمل على إنجاز خطة العمل ليأخذ المؤتمر مداه.
فوجئ أعضاء المؤتمر ببيانين منفصلين، شكلاً، يلتقيان مضموناً. الأول عن دائرة شؤون المغتربين، التي إنتزعت بمرسوم رئاسي من اللجنة التنفيذية ويديرها أحد مستشاري الرئيس، يتهم المؤتمر بأنه خطوة إنشقاقية، لا لشيء سوى لأن دائرة المغتربين أعطت لنفسها صلاحية وحق إسباغ الشرعية على هذا الطرف أو ذاك، على هذه المؤسسة أو تلك. وللشرعية هنا شروطها الواضحة، التبعية والرضوخ لتعليمات الدائرة، وتحويل المؤسسة (المؤتمر) إلى مجرد حالة مسيرة بتعليمات، مجردة من كل حق ديمقراطي، لا تتجاوز حدود السقف السياسي الذي ترسمه الدائرة، وكل هذا بدعوى مزيفة هي «الوحدة الوطنية». تجاهلت دائرة المغتربين في صيغتها الهجينة عشرات الخطوات والقرارات الفردية المتخذة من أعلى المراجع في السلطة الفلسطينية والتي أثخنت جسد الوحدة الوطنية بالجراح العميقة.
دائرة المغتربين وضعت مؤتمر السلفادور أمام خيارين:
• أما الإلتحاق والتذويب في مؤسسات تشرف على فبركتها الدائرة، وإما فتهمة الإنشقاق، والخروج على الوحدة الوطنية والصف الوطني جاهزة في كل لحظة.
ولعل دائرة المغتربين غاب عن بالها أن الجاليات الفلسطينية في أميركا اللاتينية، وفي أوروبا، جاليات راسخة مستقرة ذات خبرات، لا تملك سلطة الإستبداد أدوات السيطرة عليها، لا بشراء الذمم ولا بإتباع السياسات والزبائنية.
ولعل دائرة المغتربين غاب عن بالها أن زمن الإقصاء والتهميش وفرض التبعية على الآخرين، وتذويبهم في أطر مفبركة باسم الوحدة الوطنية، قد ولىّ.
ولعل دائرة المغتربين غاب عن بالها أننا في زمن بات فيه صندوق الإقتراع، وفق نظام التمثيل النسبي الكامل، نظام لم يعد فيه ما هو دائم وأبدي. ما هو أول اليوم قد يكون ثانياً أو ثالثاً غداً ما هو ورابع أو خامس أو ثالث اليوم قد يكون أولاً غداً. ما على الدائرة سوى أن تراجع تجارب الشعوب، ومنها تجربة الشعب الفلسطيني في إنتخاباته التشريعية عام 2006.
أما لعبة الإنشقاق عن م.ت.ف. فقد باتت لعبة سمجة، فموقف الجاليات الفلسطينية من م.ت.ف معروف وواضح، وهي تميز بين م.ت.ف بإعتبارها إئتلافاً للشعب الفلسطيني وقواه السياسية وبين من يعتبر المنظمة وسيلة وأداة للهيمنة.
أما ما صدر عن وزارة خارجية السلطة فلم يعكس سوى أن الوزارة مفصولة عن الزمان والمكان، تعيش في أوهامها وتهوماتها، بعد أن فقدت دورها، وتحولت إلى مجرد مؤسسة، لا تجيد سوى الثرثرة السياسية.