- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2013-12-04
انتهت لجنة الخمسين لصياغة الدستور المصري الجديد من أعمالها أمس بإعداد مسودة الدستور التي تقدم إلى رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور، للموافقة عليها وتحديد موعد لاستفتاء شعبي لإقرار دستور 2013. يمثل الدستور الجديد إيذاناً بنهاية مرحلة وبداية أخرى، مختلفة تماماً ليس من حيث التكييف القانوني، وإنما لجهة التحالفات السياسية أيضاً. يتأسس الدستور الجديد على أنقاض حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، ونتيجة لتحالف سياسي قاد إلى 30 يونيو/حزيران 2013، ولكنه لم يعد قائماً منذ اليوم. الدساتير ليست نصــوصاً مغلقة يتم حشدها بلغة عربية فصيحة، في مواد تحمل أرقاماً حتى يتشدق بها النواب في مساجــلاتهم تحــت قبة البرلمان، بل نصــوص حقوقــية تعكــس نظرة المنــتصرين ومصالحهم: السياسية -الاقتصادية - الاجتماعية - الثقافية. وفيما استقرت الدساتير في مصر نسبياً قبل «الربيع العربي»، إذ استقر دستور العام 1971 لمدة أربعين عامـاً، إلا أن انطــلاق الموجــة الأولى من «الربيع العــربي» فتح الــباب على ثلاثة دساتير في ثلاث سنـوات: دستــور 2011 ودســتور 2012 ودستور 2013. لا يعكس توالي الدساتير في فترة زمنية قصيرة، سوى عدم استقرار سياسي مصحوب بانتصار تحالفات سياسية واسـعة على تحالفات أخرى، ورغبة من المنتصرين في تثبيت انتصارهم في الدساتير الجديدة. يبدو بوضوح أن الطيف السياسي المدني في تحالف 30 يونيو/حــزيران 2013، الــذي أطاح الدكتور محمد مرسي قد خرج خاسراً وفقاً لنصوص الدستور الجديد، فيما ربح المكون العسكري - الأمني ورجال الأعمال وجهاز الدولة القديم المرحلة الجديدة.
دستور 2013 استمرار 2011 و2012
إذا سلمنا بأن الدساتير تعكس رؤية المنتصرين ـ في مصر كما في لبنان أو أي بلد في العالم - فإن قدرة النظم السياسية المتولدة عن هذه الدساتير على البقاء تتوقف على أمرين: استمرار التوازنات السياسية وآليات الرقابة والتوازن في الدستور الجديد، أو ما يطلق عليه بالانكليزية «Check and Balances». بمعنى آخر، كلما توافرت آليات رقابية تمنع استفراد مؤسسة ما من مؤسسات الدولة بالسلطة وأخضعتها ونفوذها لرقابة تشريعية وشعبية، استطاع النظام السياسي الوليد البقاء واستيعاب الحراك المجتمعي وفق رؤية المنتصرين.
جاء دستور 2011 في مارس/آذار بعد انتصار الموجة الثورية الأولى، كتعبير عن تحالف فضفاض ضم المؤسسة العسكرية التي أزاحت مبارك لتحفظ نظامه، ورجال الأعمال أصحاب المصلحة في قطع الطريق على تغيير اجتماعي عميق، وفلول النظام الراغبين بتقليل الخسائر، وتيار الإسلام السياسي وفي مقدمه «الإخوان المسلمون» والسلفيون. تحايل القائمون على دستور 2011 باستفتاء شعبي على تعديلات دستورية محدودة، لقطع الطريق على دستور جديد يكرس قيم الثورة وأهدافها: حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. خرج دستور 2011 أسوأ كثيراً من دستور 1971، وفيه تثبتت خسارة الطيف السياسي المدني بعدما كرس ذلك الدستور لتحالف فضفاض قوامه المؤسسة العسكرية وتيار الإسلام السياسي. وبعد انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيساً للجمهورية، عمدت جماعة «الإخوان المسلمين» إلى تقاسم السلطة فعلياً مع المؤسسة العسكرية، فاستبعدت باقي المكونات فيما استبقت السلفيين في إطار فضفاض. في دستور 2012 غابت الرقابة والتوازنات أيضاً، واستحدثت وضعية خاصة للمؤسسة العسكرية في الدستور تسمح لها بالحفاظ على امتيازاتها الضمنية، وتمنع مناقشة تفصيلية لميزانيتها السنوية في البرلمان وجعلت لها حصرياً الحق في تسمية وزير الدفاع. أما دستور 2013 الحالي فهو تعبير عن تحالف المؤسسة العسكرية وفلول جهاز الدولة ورجال الأعمال أصحاب المصلحة، متوسلاً ذات آليات دستور 2012، وان اختلفت العناوين والمسميات. في دستور 2013 الذي سيعرض للاستفتاء الآن، بنى الشارع على دستور 2012 «الإخواني»، فتوسعت امتيازات المؤسسة العسكرية وصلاحياتها، حتى أصبحت خارج الرقابة البرلمانية والشعبية. وتثبتت مكاسب الدولة الأمنية بقوانين تمنع التظاهر عملياً، فيما تأبدت رؤية رجال الأعمال المعادية حكماً للعدالة الاجتماعية، وهي الشعار المؤسس للثورة المصرية. وبخلاف ذلك، كرس الدستور الجديد خروج المكون السياسي المدني من صنع القرار، حتى ولو ظلت شكلياً شخصيات شبابية وحزبية محسوبة على الطيف المدني في البرلمان المقبل؛ فأصبح التحالف الحاكم الجديد مكوناً من المؤسسة العسكرية - الأمنية ورجال الأعمال وفلول النظام السابق. استدارت التوازنات الجديدة في مصر ليصبح شكل النظام السياسي المتأسس على الدستور الجديد وفي أعقاب موجتين ثوريتين في 25 كانون الثاني/ 2011 و30 حزيران/ 2013، مقارباً جداً لنظام مبارك 2010، مع فارق أساسي: تدمير مشروع التوريث (من حسني إلى نجله جمال) الذي عارضته المؤسسة العسكرية. بتبسيط غير مخل بالحقيقة، تبدو ركائز الحكم المقبل ـ للأسف - من دون تغيير جوهري عن الحكم الذي قامت الثورة عليه، وهي نتيجة مؤسفة بالفعل.
مأزق الطيف السياسي المدني
تكوّن التحالف الذي قاد 30 يونيو/حزيران 2013 لإطاحة جماعة «الإخوان المسلمين»، وممثلها في الرئاسة محمد مرسي، من المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال والفلول والطيف السياسي الواسع الممثل للتيارات الليبرالية - اليسارية - القومية. اختبر التيار الأخير ضعفه النسبي ـ بالرغم من تفوقه الأخلاقي - بعد سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، إذ تحالفت مؤسسات الدولة وفي القلب منها العسكرية مع التيارات الدينية؛ فاستبعد ذلك الطيف من السلطة وصنع القرار برغم إطلاقه شرارة التظاهرات وريادته في الثورة. وبعد تولي جماعة «الإخوان المسلمين» الحكم بمشاركة المؤسسة العسكرية في العام 2012، تم استبعاد الطيف ذاته مرة أخرى، إذ تنكرت له الجماعة وأبرمت صفقاتها مع الدولة ومؤسساتها. لم يستطع هذا الطيف السياسي الواسع إسقاط «الإخوان المسلمين» نظراً لموازين القوى الواقعية إلا بتحالف مع المؤسسة العسكرية، والأخيرة لم تستطع إمساك الدفة بعد إسقاط الإخوان دون غطاء من الأولى، وإلا تثبتت صورة الانقلاب العسكري. استمر التحالف العسكري - المدني - الدولتي قائماً طيلة الأشهر الماضية وحتى كتابة الدستور الحالي بسبب جماعة «الإخوان المسلمين»، التي أصبحت المادة اللاصقة الوحيدة لهذا التحالف الهش والمؤقت. استمر التحالف مع تشكيلة حكومة الببلاوي («السفير» العدد 12532)، ولكن مسودة الدستور الجديد المترافقة مع محاولات مستمرة ومتتالية لمصادرة المجال العام - قانون التظاهر أحد أبرز أمثلتها - يقصيان هذا الطيف مجدداً من المشهد السياسي المصري.
وزاد من صعوبة الأمر أن التوتر الذي عرفته مصر خلال الأشهر الخمسة الماضية والواقعة من 3 يوليو/تموز 2013 وحتى اليوم، كان مواتياً لمصالح كل الأطراف إلا الطيف السياسي ذاته. لم تسلم جماعة «الإخوان المسلمين» بما حدث وقادت تظاهرات صاخبة ومستمرة للاعتراض، لأن الدخول في حوارات مع السلطة الجديدة سيعطي شرعية للأخيرة، والأخطر أنه سيجعل تنظيم الجماعة ينهار. لذلك كان التوتر مهماً للجماعة، مثلما كان مهماً أيضاً للدولة الأمنية وفلول النظام السابق للعودة إلى الشارع وفي الإعلام، تحت شعار «مواجهة الإخوان». وفاقم من أزمة الطيف السياسي المدني أن تغليب فكر الاستئصال على فكر الإدماج («السفير» العدد 12527) في تعامل الدولة المصرية مع «الإخوان المسلمين»، قد أدى إلى سحب كبير من رصيده الأخلاقي، ناهيك عن تشتته التنظيمي الواضح. عارضت قوى ذلك الطيف «قانون التظاهر» الإخواني بقوة، ولكنّ عديداً منها يتواطأ الآن بصمت مشين على «قانون التظاهر» الجديد، وهو نسخة مكررة من «قانون التظاهر» في عهد «الإخوان». وعلى صدى الصمت المشين ذاته، يتقدم فلول النظام السابق وآلتهم الأمنية الآن لمصادرة المجال العام بقوانين تظاهر تمنعه عملياً، بأحكام حبس قاسية على فتيات قاصرات بتهمة التظاهر في الشارع، وهو أمر لم يجرؤ عليه مبارك نفسه ربما.
تبدو معضلة الطيف السياسي المدني في مصر مستعصية على الحل، فالتحالف الذي قاد 30 يونيو 2013 انتهى ولم يعد موجوداً، بعدما أقصي هذا الطيف للمرة الثالثة من معادلات القرار المصرية. وتزداد المعضلة صعوبة مع غياب البدائل، فالاستمرار بالانضواء تحت عباءة المؤسسة العسكرية في مواجهتها الاستئصالية لجماعة «الإخوان المسلمين» وما يرافقها من إغلاق وتضــييق للمــجال العــام سيقـضي على الرصيد الأخلاقي الباقي للطــيف السياسي المدني. كما أن تشكيل جبهة وطنــية عريــضة تضم جماعة «الإخوان المسلمين» لمواجهة الدولة الأمنية وإغلاق المجال العام - كما تدعو بعض الشخصيات والفصائل - سيــعيد الحــلقة الجهنمية إلى بداياتها العام 2012 من دون ضمان ألا تتشابه نهاياتها العام 2013. عملياً سيكون على الطيف السياسي المدني الاختيار بين الاستمرار في التحالف مع مؤسسات دولة يوليو/تموز بكل ترهلها وإخفاقاتها وغياب مشروعها وآلتـها الأمنيــة الــفظة والأهــم من دون ضمانات عدالتها الاجتماعية، أو الانخراط في تحالف مجدداً مع جماعة معادية للديمـوقراطية سرعان ما ستعيد الكرة في الاستبعاد والإقصاء، كلما كانت الصفقات مع مؤسسات الدولة ممكنة وتجربة السنتين الماضيتين أبلغ دليل على ذلك. يشبه الطيف السياسي المدني في مصر لاعبين في لعبة «دومينو» أغلقت عليهم، فلا فكاك يبدو ممكناً من سيناريوهات كلها مؤسفة!