بقلم: جهاد سليمانإعلامي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين – لبنان

منذ القرن السابع قبل الميلاد، بدأت الحركة الثقافية والفكرية والعلمية اليونانية بالبروز والظهور حاملة الى البشرية مصابيح العلم والمعرفة، فعرفت اليونان بفلاسفتها الكبار الذين ساهموا في تطوير الفكر والثقافة في مختلف صنوف المعرفة والثقافة الفكرية والفلسفية والعلوم المعرفية على اختلافها السياسية، الأخلاقية، الميتافيزيقية، علم الوجود، المنطق، علم الاحياء، البلاغة والجدل وغيرها الكثير من الفلسفات التي تطورت على أيديهم فكان لهم اسهامات كبيرة في تطوير الفكر الفلسفي، من خلال العديد من المدارس الفلسفية التي أنشأت في أثينا وغيرها من دول المدينة، التي كانت تشكل اليونان في ذلك الوقت. ومن أهم الفلاسفة اليونانيين، سقراط وأفلاطون وأرسطو، بالإضافة الى فلاسفة آخرين أسسوا مدارس فلسفية وفكرية متنوعة، ومن بين هؤلاء الفلاسفة، فيلسوفا يدعى ديوجانس أو «ديوجانس الكلبي».

كان لديوجانس مدرسة فلسلفية تدعى المدرسة الكلابية، وقد أسميت بذلك نسبة له، حيث قضى ديوجانس معظم سنين حياته يعيش في برميل على قارعة طريق مع بعض الكلاب التي تحيط به، وقد أشتهر بحكمته الثاقبة، وطريقته في التفكير ونقد الأمور، وكان محط اعجاب كبير من قبل الاسكندر المقدوني الذي نقل عنه قوله «لو لم أكن الاسكندر لوددت أن أكون ديوجانس».

عرف ديوجانس بقصة مصباح الحكمة الشهيرة، عندما سار وحيدا في شوارع أثينا ودروبها وأزقتها وميادينها، حاملا مصباحه وهو يبحث في الزوايا وعند المنعطفات بين البشر، الذين دهشوا من منظر المصباح المضيء في «وسط النهار»، مما أثار فضولهم ودفعهم للتساؤل، عن السبب الذي دفع بديوجانس لحمل مصباح مضيء والشمس تتوسط السماء والضوء ينير المدينة بكاملها..!

فما كان من بعض الأشخاص الا ان تقدم نحوه للاستفسار عن السبب المستتر وراء ما يفعله، فكان الجواب صادما عندما قال، «أنا احمل مصباحي باحثا عن الحقيقة التي تاهت، وها أنا أبحث عنها ومشتقاتها حيث الحق والعدل المنشود»، لم تكن تلك الجمل ترهات من رجل خرف، يهذي من فرط العمر في الشوارع وبين الناس، بل شكلت حكمة عميقة من فيلسوف كبير، عرف جيدا أهمية الحقيقة التي تمنح في تجلياتها الحق والعدل للشعوب والأمم.

منذ اثنتي عشر عاما، وقبل ذلك طبعا، تعاني القضية الفلسطينية من مرض متواصل، راح ومنذ العام 2007، يفتك شيئا فشيئا في الجسد الثوري والوطني الفلسطيني. فمنذ ذلك التاريخ، دخلت الحركة الوطنية الفلسطينية، ومشروع التحرر الوطني الفلسطيني، في نفق مظلم من التجاذبات السياسية والاقتتال الحزبي والفئوي، الذي تكرس في السيطرة الميدانية والسياسية، وشق الوطن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وقسمها الى سلطتين منفصلتين، أصبحت تعرف واحدة بسلطة الضفة واخرى سلطة غزة. تحكم الأولى السلطة الفلسطينية التي ولدت بعد مخاض طويل من المفاوضات السرية بين القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية والجانب الإسرائيلي، ومن رحم ما عرف باتفاق أوسلو (13 أيلول 1993)، والتي تسيطر على مفاصل الاولى وأجهزتها وقرارها السياسي حركة فتح، فيما تمسك بمقاليد الثانية حركة حماس التي سيطرت بدورها، على الأجهزة الأمنية والمؤسسات والإدارات العامة في القطاع بعد انقلاب عسكري، فأًصبحت السلطة الأولى الممسكة بجميع مفاصل القطاع منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.

لم يكن الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، الذي عرف بـ«اقتتال الاخوة»، وما تبعه من مناكفات سياسية، بين طرفي الانقسام الفتحاوي والحمساوي، مشهدا عاديا بالنسبة للشعب الفلسطيني، بل شكل الكابوس الأكثر رعبا للجماهير الفلسطينية والقضية الوطنية الفلسطينية، التي تنظر الى الاحتلال الصهيوني وقطعان مستوطنيه، وهم في إجرام متواصل من خلال سرقة الأرض وتهويد المدن، وترحيل الفلسطينيين وتشديد الخناق عليهم، وبناء المستوطنات وسرقة المياه، والتحكم بمفاصل الحياة اليومية للفلسطينيين وتقييد الحركة، بالإضافة الى ارتكاب المجازر اليومية بحق الفلسطينيين العزل في الضفة الغربية والقدس، وكذلك من خلال الاعدامات الميدانية والاعتقالات العشوائية، وتدمير البيوت ومصادرة الأراضي، وتضييق الخناق على قطاع غزة وخنق كل اوجه الحياة فيه، واستهداف الصيادين، وغيرها الكثير من الإجراءات والاعتداءات اليومية التي يواجهها الشعب الفلسطيني في كل يوم بعزيمة الصمود والبقاء والثبات.

دخلت القضية الفلسطينية في منعطف خطير، كانت معظم القوى السياسية الفلسطينية تدرك خطورته والنتائج الكارثية التي ستترتب عليه، في ظل الهجمة الشرسة التي يقودها العدو الصهيوني، مستفيدا من حالة اللاوحدة، والتشرذم الفلسطيني الذي إمتد ليس فقط بين الأطراف السياسية المتصارعة، بل تعداه وللمرة الأولى الى الجماهير الفلسطينية، من خلال التشهير الإعلامي الحزبي، وبث سياسية الحقد والكراهية وصولا الى إدراج منهج التخوين الحزبي، مما جعل الهم الأول والأخير، للكثير من المتحزبين من كلا طرفي الانقسام الى تصويب جل تفكيرهم وجهودهم نحو التشهير بالحزب الآخر وسياسته، ومحاولة نزع الشرعية الجماهيرية عنه.

لم تترك تلك الأحزاب أي وسيلة الا واستخدمتها في إطار حملة كسب الشرعية ونزع الشرعية الجماهيرية عن الاخر، حتى بات وفي كثير من الأحيان التهجم على العدو الصهيوني واتخاذ العديد من المواقف السياسية نابعا من المناكفة الفئوية للطرف الاخر، وهذا ما إنعكس بشكل واضح وجلي في التعاطي السياسي ومسار القضية الوطنية الفلسطينية، والدرب التي باتت تسلكه على كرسي العجلات بفعل الشلل الكبير الذي أصاب المحرك الأساسي، والدافع الرئيسي للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني، ألا وهي الوحدة الوطنية الفلسطينية.

لم يكن الانقسام الفتحاوي الحمساوي هو الانقسام الوحيد في الساحة الفلسطينية، بل شهدت منظمة التحرير الفلسطينية، انقساما في الطرح والبرامج السياسية بين قوى المعارضة الفلسطينية من جهة وعلى رأسها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وبين حركة «فتح» من جهة أخرى، بفعل سياسة التفرد والاقصاء والاحتكار، ومصادرة الدور الجماعي ومحاولة تقزيم وتحجيم الاخر، التي مارستها حركة «فتح»، داخل المؤسسات الشرعية، قوام الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والذي وصل الى قطع المستحقات المالية الخاصة بالجبهتين الديمقراطية والشعبية من الصندوق القومي للمنظمة، نتيجة مواقفهما المعارضة للسلطة الفلسطينية وسياساتها وطريقة إدارة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، تحت سياسة التفرد والرأي الأحادي الجانب، وتعطيل قرارات الاجماع الوطني الفلسطيني.

لم تسلم هذه الفصائل من حملات التشهير، التي وصلت الى التخوين في بعض الأحيان لرموز نضالية ووطنية كبيرة، وساهم التلفزيون الرسمي الذي يفترض انه تلفزيون كل الشعب في حملة التشهير هذه نصرة لرئيس ولحزب رئيس واضعا من يخالفهم الرأي في خانة اصحاب الاجندات الخارجية، وهذا ما أدى بالإضافة الى حالة الانقسام، الى مزيد من التشنج السياسي، والذي وقف الشعب الفلسطيني تائها بين جميع هذه التناقضات، التي تتمترس خلف مواقف جامدة غير مبررة، في حين أن الجميع يعلن حرصه الشديد على الوحدة الوطنية الفلسطينية، باعتبارها الرافع الرئيسي لعناصر القوة الفلسطينية، والضمانة الوحيد لوحدة الشارع والجماهير الفلسطينية، في مواجهة جميع التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

لم تيأس الجماهير الفلسطينية والقوى الوطنية من حالة الانقسام الدامي، بل سارعت للمطالبة بضرورة انهاء هذا التشرذم الحاصل في الساحة الفلسطينية، وإعادة اللحمة الى جناحي الوطن، على قاعدة الشراكة في المقاومة والدم، والشراكة في صناعة القرارات الوطنية، وكانت قد شهدت الأعوام المنصرفة، حركة مكوكية وطنية وإقليمية ودولية، في محاولة لإنهاء الانقسام، والمساعدة على استعادة تلك الوحدة المفقودة، الا ان تواريخا تتالت، واتفاقيات بأسماء مختلفة وقعت، دون أي تقدم جدي نحو إعادة اللحمة الفلسطينية، فمن اتفاق مكة (شباط 2007) إلى اتفاق القاهرة (2017)، مرورا بالورقة المصرية والحوار في دمشق وبيروت وموسكو، لم ير الشعب الفلسطيني أي حقيقة مثبتة حول الأسباب الحقيقية التي تبقي على هذا الانقسام قائما الى يومنا هذا، خاصة في ظل حشر القضية الفلسطينية، والمشروع الوطني الفلسطيني، في الزاوية الخطرة من قبل الإدارة الامريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب، من خلال ما بات يعرف بـ«صفقة القرن»، وما رافقها من خطوات ميدانية مست جوهر الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ونسفت حلم الدولة الفلسطينية المستقلة من جذورها، وهذا ما يدفع اليوم الشعب الفلسطيني وبشدة، الى طرح السؤال التالي، أين هي الحقيقة من استمرار في هذا الانقسام المخزي واللاوطني؟ اما آن الأوان للشعب الفلسطيني أن يحمل مصباح ديوجانس ويطوف في شوارع ودروب وأزقة الضفة وغزة، ليبحث بنفسه عن حقيقته الضائعة، التي افقدته حقه في العيش الكريم وعدالة قضيته التي تاهت بين التشرذمات الفئوية؟

إن الشعب الفلسطيني الذي يعي اليوم بشكل قاطع، أن الحقيقة الوحيدة التي يجب البحث عنها في وسط النهار، ومع إشراقة شمس كل يوم فلسطيني جديد، هي حقيقة زوال الاحتلال، وتحقيق التحرر الوطني، ونيل الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة كاملة غير منقوصة، وهي حقيقة العودة لملايين اللاجئين القابعين في مخيمات البؤس والفقر والحرمان، وهي حقيقة ملايين المعذبين في أرضهم بفعل استمرار الجرائم وسياسة التهويد وسرقة الأراضي والاعتداء على المقدسات، هي حقيقة من يقف أمام مخاطر الترحيل الجديد والنفي والطرد تحت ذريعة يهودية الدولة، هي حقيقة الاستقلال، ورفع العلم الفلسطيني ذو الألوان الأربع الواضحة، على أسوار الدولة الفلسطينية المستقلة، هي حقيقة إنهاء هذا الكابوس من حلم الشعب الفلسطيني الذي استوطنه منذ عام 1948.

إن ضوء الحكمة الوحيد، الذي سيضيئ مصباح الشعب الفلسطيني وقضيته، هو ذاك الذي يشع من مراكز صنع القرار الشرعية للشعب الفلسطيني، تلك المؤسسات التي تمثل الهوية الوطنية الفلسطينية، وتضمن الحد الأدنى من الوصول الى توافقات وطنية، تنير الطريق امام الشعب الفلسطيني، وتقطع الطريق أمام جميع محاولات قطع النفس عن الرئة الفلسطينية، هي تلك القرارات التي اتخذت في البيت الفلسطيني الشرعي، والممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمثلت بالمجلس المركزي والوطني، والتي تبدأ بدفن إتفاق أوسلو بالايادي الفلسطينية مجتمعة، وإعلان سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، ووقف كافة اشكال التنسيق الأمني والاقتصادي مع الاحتلال، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية تقوم على أساس التمثيل النسبي الكامل، وتصعيد المقاومة بكافة أشكالها واحتضان الهبات الجماهيرية الفلسطينية، وتطويرها باتجاه انتفاضة فلسطينية ثالثة، تفرض على الاحتلال موازين قوى جديدة، وتصعيد الاشتباك السياسي في الأمم المتحدة، الحقيقية الفلسطينية الوحيدة، هي تلك المصابيح المضيئة بحكمة المقاومة والثورة، المشتعلة في شوارع الضفة الغربية، في أزقة القدس، على حدود قطاع غزة، هي مشاعل الحرية ومصابيح الأمل الثائرة، التي تعبر عن حكمة الخيار والاختيار، للمضي على درب المقاومة والثورة، تضيئه حتى النصر القادم.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف