- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2014-01-18
أصاب كيري حين قال إنه حان وقت الحسم. وعلى المفاوض الفلسطيني أن يحسم بين سياستين، إما «كيري» أو البرنامج الوطني الفلسطيني.
كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري محقاً حين قال إن المفاوضات قد وصلت إلى مرحلة الحسم. فلقد انتهى تقريباً من بلورة اقتراحاته بشأن ما يسمى بقضايا الحل الدائم، مستعيناً بذلك بالأفكار الإسرائيلية، وبأفكار من سبقوه إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية.· فبشأن القدس، بات واضحاً أن عاصمة فلسطين، حسب اقتراحاته هي البلدات العربية المجاورة، [شعفاط، العيزرية، أبو ديس، الخ] بينما تبقى القدس الشرقية المحتلة جزءاً من «القدس الموحدة» عاصمة دولة إسرائيل، كما يقول رئيس حكومة تل أبيب بنيامين نتنياهو، وكما سبق لرئيس الولايات المتحدة الأسبق بيل كلينتون أن قال في مفاوضات كامب ديفيد2 (يوليو ـ تموز ـ 2000)، وكما ورد في رسالة الرئيس السابق بوش الابن إلى شارون في وثيقة 14/4/2002.
· وبشأن الحدود، فلا مكان للحديث عن خطوط 4 حزيران 67 كمرجعية. وهذا يعني، إلى جانب ضم القدس الشرقية المحتلة لإسرائيل، ضم المستوطنات، في تعريف ملفق لمفهوم الكتل الاستيطانية، وضمّ الأراضي الواقعة خلف جدار الفصل والضم العنصري، يضاف لذلك ضم غور الأردن، كل ذلك تحت مسمى «تبادل للأرض متفق عليه بين الجانبين». لقد تحول مفهوم تبادل الأرض، السيء الصيت، مدخلاً إلى نسف خطوط حزيران 67، وهذا ما كان قد دعا له نتنياهو، وقبله باراك، وإلى جانبهما الرئيس كلينتون، وبوش الابن (دوماً في كامب ديفيد، وفي وثيقة 14/4/2004). وبعدهما أوبما· وكذلك الأمر بالنسبة للاجئين، الذين يدعو كيري لتوطينهم في البلد المضيف أو في بلد ثالث، وإسقاط حق العودة، وإعادة تفسير القرار 194 بأنه ينص على حق التعويض لأن العودة باتت أمراً غير معقول في ظل التطورات اللاحقة على صدور القرار. هذا أيضاً تبناه كلينتون كما تبناه بوش الابن، وبات نقطة تفاهم ثابت بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي.
· أما بشأن الدولة الفلسطينية والسيادة الوطنية فإن اقتراحات كيري كفيلة بإجهاض كل علامات الاستقلال والسيادة عنها، إن من خلال التواجد الإسرائيلي على طول نهر الأردن، أو على المعابر إلى الدولة، أو في قمم التلال والأجواء والمياه الدولية التابعة لها، ما يضع الدولة الفلسطينية في قلب دولة إسرائيل وتحت سيادتها العملية. وكل ذلك بذريعة حماية إسرائيل في ظل افتقار الدولة الفلسطينية للقدرات العسكرية والأمنية الضرورية.***
تشكل اقتراحات كيري إحراجاً كبيراً للمفاوض الفلسطيني، بحيث لا يستطيع قبولها، ويتحسب كثيراً لنتائج رفضه لها. فهو لا يستطيع التلاعب بقضية القدس الشرقية، ولا يستطيع الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، فضلاً عن كونه لا يستطيع القبول بوجود عسكري إسرائيلي على أراضي الدولة الفلسطينية. هذا لا ينفي أن المفاوض قد قدم تنازلات إلى طاولة المفاوضات. لكن مثل هذه التنازلات تبدو غير كافية لإرضاء شهوة الإسرائيلي، وسياسة الانحياز الأميركي.. وهنا المأزق الفلسطيني. ويزداد المأزق اتساعاً مع اتساع سياسة الاستيطان في القدس الشرقية وفي أنحاء الضفة الفلسطينية وآخرها تلك العطاءات لتسويق أراضي وبناء 1400 وحدة سكنية، ولم يخفِ وزير الاستيطان الإسرائيلي «السرّ» حين أكد أن هذه العطاءات، تمت بالتشاور مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري. أي أن الولايات المتحدة لم تعد ضد توسيع الاستيطان في القدس وفي مستوطنات الضفة ما دامت هذه المدينة، وهذه المستوطنات ستضم في نهاية المطاف للدولة الإسرائيلية!
وزير الخارجية في السلطة الفلسطينية يدعو كيري ليعتدل أكثر في اقتراحاته، ولعلّ في هذا التصريح وهذه الدعوة سذاجة سياسيّة ما بعدها سذاجة. ترى ما الذي يدعو كيري ليعتدل، وينزل عند طلب رياض المالكي، مادام المفاوض الفلسطيني قد رضخ منذ اللحظة الأولى للضغوط الأمريكية وقبل بمفاوضات بلا مرجعية دولية، وبدون الاعتراف بخطوط حزيران، ودون توقف الاستيطان. ونعتقد أن المقدمات الكارثية للعملية التفاوضية، من شأنها أن تؤدي إلى نتائج كارثية تتمثل في اقتراحات كيري، التي ستشكل جوهر الإطار المقترح لتمديد المفاوضات عاماً جديداً. وترى ما الذي يدعو كيري للاعتدال، مادام المفاوض الفلسطيني قد أبدى استعداداً مبدئيّاً لتمديد المرحلة التفاوضية سنة جديدة أو ما يقارب السنة، وهو الذي كان قد أكد تمسكه بالسقف الزمني للمفاوضات الحالية بتسعة أشهر، سوف يكون بعدها حرّاً في التحرك دولياً نحو الأمم المتحدة لتفعيل قرار قبول فلسطين عضواً في المنظمة الدولية.
*
نعتقد من خلال قراءتنا للسياسة الأميركية في رعايتها للمفاوضات على يد كيري وفريق عمله، وللمواقف الإسرائيلية على لسان رئيس الحكومة نتنياهو، ووزير خارجيته، وجيشه، ووزير الاستيطان، وغيرهما، أن المفاوض الفلسطيني بات يقف في اللحظة الراهنة بين خيارين لا ثالث لهما.
· الخيار الأول الانسياق وراء اقتراحات كيري، بدعوى التفاوض حولها لرفع سقفها وتطويرها والتقليل من مخاطرها، بحيث تصبح مقبولة إلى حدّ ما، فلسطينياً. إن اقتراحات كيري واضحة بما فيه الكفاية. هي نفسها الأفكار الإسرائيلية للحلول، مطعّمة ببعض الاقتراحات الجانبية الأميركية للتمويه على انحيازها التام للجانب الإسرائيلي. وبالتالي أيّاً كانت محاولات المفاوض الفلسطيني لتطويرها وتحسينها، فإنها ستكون محاولات فاشلة، خاصة وأن الجانب الفلسطيني المفاوض بات مجرداً من كل عناصر القوة المحلية والعربية والدولية، واستسلم للاشتراطات الأميركية في استئنافه المفاوضات. هذه اقتراحات، كما يبدو، صاغها كيري، بأسلوب إما أن تأخذها كلها أو ترفضها كلها، ولا مجال للمفاصلة والجدال بشأنها. هي في مجموعها مصاغة بطريقة تستند إلى ما تسميه إسرائيل مصالحها الأمنية وبشكل مترابط، لا يمكن الفصل فيها بين قضية وأخرى. هي، في جوهرها الحلّ الإسرائيلي لقضايا الوضع الدائم.
· الخيار الثاني رفض هذه الاقتراحات، والتسليم بخطأ الدخول في هذه المفاوضات منذ الأساس، والبحث عن إستراتيجية بديلة، تقوم على القناعة باستحالة قيام مفاوضات متوازنة في الوقت الراهن، وباستحالة تحسين الآليات والشروط التفاوضية مع إسرائيل في ظل الظروف الراهنة. إستراتيجية تقوم على استنهاض عناصر القوة لتحسين ميزان القوى بين الجانبين، وخوض المعارك في الميدان الذي يؤلم الجانب الإسرائيلي ويطال نقاط ضعفه، ومنعه من استغلال نقاط الضعف الفلسطيني. وتعتقد أن مراجعة نقديّة جديّة، توسع دوائر الرؤية وتضع الحالة الفلسطينية أمام مروحة من الخيارات البديلة، هي خطوة من شأنها أن تستلهم سياسيات بديلة، تجعل من عمليات التصدي للاحتلال والاستيطان، في الميدان، وعلى يد ممارسات عفوية عملاً منظماً، تصبّ نتائجه في مربع سياسي يخدم القضية والحقوق الفلسطينية. وتجعل من موضوع الاستيطان والتصدي له مسألة رئيسية في الكفاح والحراك الفلسطيني، وكذلك تتوجه إلى المجتمع الدولي، الذي اعترف لفلسطين بعضويتها في الأمم المتحدة، لتثمير مواقفه المؤيدة للحقوق الوطنية الفلسطينية، بما ينزع الشرعية عن الاحتلال، ويعزل دولة الاحتلال ويفرض عليها عقوباته السياسية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية، كما فعلت أوروبا، وكما بدأ الأكاديميون الأميركيون يعبرون عن رؤيتهم للحالة الفلسطينية.
لقد أصاب كيري حين قال إنه حان وقت الحسم، وعلى المفاوض الفلسطيني أن يحسم أمره، فإما أن يتراجع عن انزلاقته الأخيرة نحو مفاوضات بدأت نتائجها المأساوية تبدو للعيان واضحة المعالم، وإما أن يستعيد البرنامج الوطني بكل ما يتطلبه هذا الأمر من صياغات جديدة للحالة الفلسطينية.
لكن، وكما يبدو، فإن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لم تأخذ في اجتماعها في 13/1/2014 قراراً عملياً وتنفيذياً واضحاً إزاء العملية التفاوضية. ولعل إحالة الموضوع، مرة أخرى، إلى اللجنة السياسية المغلولة اليد، لإبداء رأيها، إنما هي عملية تهرب واضحة المعالم من تحمل المسؤولية ومواجهة المخاطر القادمة بسياسة وطنية جريئة.