بالصدفة
كانت قراءتي لرواية رام الله الشقراء بالتزامن مع قراءة كتاب "حلم رام الله، رحلة في السراب الفلسطيني" لبانجمين بارت، ومع أن العمل الأول رواية والثاني كتاب لصحافي فرنسي في اللوموند عمل في رام الله في الفترة ما بين 2002-2011م(ترجمة سنا خوري،الطبعة الأولى 2013 جرّوس برس ناشرون)، ذلك أن الرواية مهما تماهت مع الواقع تبقى من عالم الخيال، فيما الكتاب المحتوي على معلومات يبقى خاضعا لمعايير الواقع، إلا أن رواية عبّاد خالد يحيى وكتاب بانجمين بارت أكدا على شيء واحد وهو فقاعة رام الله المثيرة للجدل!
وخطر لي أن المبدع الكبير الأديب والشاعر مريد البرغوثي يكتب عملا اسمه:ورأيت رام الله مرة أخرى، مع أن عمله الرائع "رأيت رام الله" وتوأمه أو تتمته "ولدت هناك ولدت هنا" قد حملت شيئا أو أشياء مما جاءت عليه رواية عبّاد ولكن بأسلوب خاص بمريد...طبعا لا يفوتني الفارق بين أديب متمرس، وشاب عمره 25 سنة، هذه الرواية هي عمله الأول.
تقع رواية رام الله الشقراء في 126 صفحة من القطع المتوسط الأقرب إلى الصغير، وصدرت هذا العام 2013م عن دار الفيل في القدس، ويبدو من آخر صفحاتها أنه فرغ من كتابتها 26 أيلول2012م وكلمات كل صفحة من الرواية قليلة نسبيا وأقدر عدد كلماتها بحوالي 27 ألف كلمة وربما هذا يجعل البعض يتساءل هل هذه رواية أم قصة طويلة نسبيا؟
وأعلم أن العديد من الأساتذة والنقاد والأدباء قد كتبوا عن الرواية في (الأيام) وصحف ومواقع إلكترونية مثل عادل الأسطة وزياد خداش وأحمد دحبور وأنطون جوكي ومحمد
جرادات، ناهيك عن العديد من الندوات وحلقات النقاش التي نظمت في جنين ورام الله حول الرواية، ومع أن العين لا تعلو على الحاجب، فسأحاول ألا تكون هذه المقالة نسخة
كربونية عما كتبه الأساتذة الأفاضل وناقشوه في محاضرات أو ندوات، وفي ذات الوقت لن أزعم أنها ستأتي بفكرة نقيضة بمعنى الكلمة.
وعلى غلاف الرواية عقب محمد الأسعد بأنها "رواية رائعة من النوع الذي يحتفي بشعرية الأشياء لا بالغنائيات الذاهلة..." ومعلوم أن الروائي ودار النشر حينما تقدم
العمل إلى القارئ فلن تعرض إلا الرأي المبجّل والمادح للنص وكاتبه، سواء أكان الروائي حاصلا على جائزة دولية أو محلية، أو كان النص أول خطواته، والحقيقة أن الأدوات
الفنية للرواية ضعيفة، ودفاع الأستاذ الأسعد لن يغير كثيرا من هذا الانطباع عند القارئ المحترف أو المبتدئ، ولكن لا يجوز أن نتعجل لأننا أمام نص كتبه شاب في عشرينيات عمره لأول مرة يدخل عالم الرواية والأدب عموما، وأنا أيضا أرى أن الرواية خالية من كل العبارات الرومانسية والاستعارات والتشبيهات، فهي ذات لغة مباشرة صريحة بلا كنايات ولا استعارات.
والروائيون الشباب عموما، أو الرواية العربية الحديثة تتعامل مع القارئ بطريقة الطرح المباشر للفكرة بعيدا عن الإسهاب والخروج المطول من السياق؛ أما في الروايات المألوفة في الحقبات الماضية كان السارد مثلا عند دخول مكان يلفت نظره شخص لا يعرفه ربما يتحدث عنه في صفحة أو أكثر، يصف شكله وملابسه ويتخيل ما يجول في خاطره، وقد يعود بك –بناء على نظرته للشخص المجهول- إلى ذكريات زمن مضى، قبل أن يرجع للسياق الأصلي...الروايات (الحديثة) قد تتحدث عن مكان أو شخص بدون الغرق في بحر
التفصيلات.
عبّاد يحيى بدأ بهذه الجملة/المقدمة:"أحيانا يكفي أن تضغط print out على أرشيف مراسلاتك في فيس بوك لتكون لديك رواية ما" وذلك قبل الدخول في نص الرواية...لماذا لم يقل :أن تضغط على الأمر طباعة؟ هل لتذكيرنا أن تكنولوجيا المعلومات المعاصرة هي غربية بامتياز، ولغتها الأساسية إنجليزية؟ وللايحاء لنا أو التمهيد التشويقي لما
ينتظرنا في الصفحات القادمة عن عالم الغرب الداخل إلى كل مسامات الحياة في رام الله؟
هذا التنويه في مقدمة الرواية فعلا يدل على محتواها، فهي عبارة عن رسائل متبادلة بين شاب وفتاة عبر موقع التواصل الاجتماعي الغني عن التعريف فيس بوك، ولن يظهر اسم
الشاب ولا اسم الفتاة في هذه المراسلات التي تكوّن في مجموعها الرواية، بمعدل رسالتين لكل فصل من فصولها المبدوءة بـ"تأبين جوليانو" والمنتهية بـ"حيث نكتفي من الأشياء باسمها" وعددها 13 فصلا...بالمناسبة يوجد صفحة على الفيس بوك خاصة بالرواية.
الشاب المرسل يعمل في مجال الصحافة، ومنها الصحافة الثقافية والفتاة في مجال الصحة العامة كما يظهر من رسائلهما، وليس الأسلوب جديدا بطبيعة الحال، والرواية تزهد في ذكر أسماء الأشخاص من الفلسطينيين وغيرهم فليس سوى ذكر لبضعة أسماء مثل:عمر ورشدي وأوليف.
الرواية–المراسلات
تحمل صورة جديدة وتقدم رام الله كما لم يقدمها أحد من قبل تقريبا؛ وجاءت منتقدة وحاملة بهدوء عاصف وسخرية حزينة شبه يائسة، على كل شيء؛ المجتمع والناس والسلطة ومنظمات الـ NGO'S والحركة الثقافية والفنية والعلاقات الاجتماعية في رام الله.

والفترة الزمنية التي تغطيها الرواية عموما هي فترة ما بعد انتهاء أو تراجع الانتفاضة (2005-2012م) مع استحضار لأزمان أخرى ضمن السياق.
وعبّاد يحيى أصلا من منطقة جنين وهو على وشك نيل درجة الماجستير في علم الاجتماع، فيما حصل على بكالوريوس صحافة وإعلام من جامعة بيرزيت، وعمل ويعمل في عديد من الإذاعات المحلية والعالمية المعروفة (أجيال ومونت كارلو) فروايته ليست بعيدة عن عالم الصحافة التي يمتهنها، وهو معايش عن قرب بحكم الدراسة والمهنة لعالم رام الله بالمفهوم الفيزيائي، وهو ليس جديدا في عالم الروائي-الصحافي وهناك أسماء معروفة جمعت بين هذه الثنائية وإن كانت سمة الروائي طغت عليها بحكم التفرّغ مثل جابرييل غارسيا ماركيز والطيب صالح.
ولكن السؤال المطروح:هل رواية عبّاد يحيى تحقيق صحافي(ريبورتاج) ينتحل صفة العمل الأدبي، اختار الكاتب أسلوب الرواية لإيصال العديد من الرسائل السياسية والاجتماعية والأخلاقية من خلاله، تجنبا لإشكاليات الأسلوب الصحافي المباشر؟يبقى السؤال على الطاولة، وهنا لا يؤخذ برأي الكاتب أو إجابته، وهذا رأيي عموما في كل ما قد يطرحه المؤلفون والروائيون في ندوات تناقش أعمالهم، فهم يتحلّون بدبلوماسية وغموض (قد) لا يخلو من تكلّف مدروس، والنص بعد النشر ملك للقارئ ليحكم عليه، ولكن بلا إطلاق ودون التقوقع داخل ثنائية الأبيض والأسود، فهذه الثنائية لا تصلح للحكم على هذا اللون من النصوص.
ولكن على فرض أن الرواية تحقيق صحافي متنكر، بالنظر إلى ضعف الأدوات الفنية، فهل فعلا تريح الكاتب من مشكلات ما؟ ألم يقع أكثر من كاتب في مشكلة بسبب كتابته رواية ربما لها بعض من عالم الحقيقة والواقع؟ وهل يغيب عنا أن "أحمد رفيق عوض" يعاني ولا زال يسأل عن "العذراء والقرية" ويوسف زيدان ثارت بعض أوساط الكنيسة القبطية في وجهه بسبب "عزازيل" ومع أن العملين المذكورين يختلفان كثيرا عن رواية رام الله الشقراء، لكن الفكرة أن الرواية قد تفهم على أنها نص تاريخي أو تحقيق صحافي أو حتى مقالة مطولة، ويدخل كاتب النص في الجدل والتبرير...لكن عبّاد يحيى بقي بعيدا عن سهام النقد المبني على هذا الأساس اللهم إلا فيما يخص بعض النتف أو العبارات مثل حديثه عن نشيد "فدائي" وتعقيبه الحاد عليه (ص9+10)....طبعا هذا على فرض أن الرواية هي فعلا (ريبورتاج) صحافي له صياغة الرواية، أو يتنكر بها، وطبعا لا يجوز الإسراف في هذه النظرة، وهي نظرة تصيب الكثيرين من النخب، والقرّاء العاديين بطبيعة الحال؛ فمنذ شهور جلست مع باحث في التاريخ، وبحكم عمله في مكتبة فهو يطلع على كل الأعمال الروائية ربما فور طباعتها، وهو قارئ نهم متعمق، وهذا ليس انطباعي وحدي، وقد تبادلت معه الحديث حول بعض الروايات القديمة والحديثة، ولكنه فاجأني بسؤال لم أتوقعه من مثله:هل تتوقع أن بطل رواية(...) هو في الحقيقة مؤلفها؟!وتمالكت أعصابي معتبرا أن السؤال جاء على لسانه ولكنه مطروح من غيره-وهذه ليست الحقيقة- وأجبته بهدوء ساخر:الربط بين حياة الكاتب الشخصية وعمله الأدبي ليس أمرا محبذا، ويشغل القارئ والمهتم عن النص نفسه، للتنقيب عن الحياة الشخصية للمؤلف في ثنايا فصول عمله الروائي؛ ولعل هذا أحد أسباب تركيز بعض الأدباء والكتّاب على كتابة روايات تاريخية، وحرصهم على الابتعاد عن روايات معاصرة...هذا حال الباحث القارئ بعمق فكيف حال القارئ العادي؟!
ولكن أيا كان تصنيف النص؛ سواء أكان رواية، أو قصة طويلة، أو مفكرة، أو ريبورتاج صحافي بلباس أدبي، فإنه أشبه بدبوس يقوم بوخز خلايانا العصبية المصابة بحالة شلل مؤقتة أو تبلد بسبب التراكمات الكبيرة على مختلف الصعد في السنوات الأخيرة، فالنص ربما يكون (فضائحيا) ولكنه لا يخلو من مكاشفة تمتزج بقرع أجراس التنبيه والتحذير،
بتساؤل مليء بالذعر والفزع:إلى أين؟!
ولا تصدمك الرواية بجرأتها بقدر صدمتك بحقيقة سرعة التحولات الماضية والحالية في مدينة كانت هادئة وادعة قبل سنين، فكبرت وتضخمت وباتت تحوي الكثير مما هو غريب عما ألفه شعبنا وهو شعب يغلب عليه الطابع المحافظ والمتحفظ على أي تغيير سريع في العادات والتقاليد الموروثة، هل نقول هي سلبيات في رام الله أم أن هذا التعبير أو هذه
الكلمة لا تكفي بالنظر إلى ما قدمته الرواية وعرضته عبر صفحاتها عن رام الله، وقد يرى البعض أن رواية رام الله الشقراء غالت في وصف جانب متخيل أو حقيقي واحد في رام الله وأهملت جوانب أخرى لا تقل أهمية، بل لربما هي أولى بالإبراز والتناول بين ثنايا النص؛ وبالنسبة لي لا أرى أن عبّاد يحيى مطلوب منه في أول رواية يكتبها تسليط الضوء
على ما قد لا يراه أهم مما كتبه، وهو ليس متفردا في ذلك، ألم يقدم الروائي المغربي محمد شكري طنجة وغيرها من مدن المغرب بطريقة أثارت الجميع، خاصة عوالم الليل فيها؟
وهو حتى في مقابلاته الصحافية سخر من الصورة الأخرى للمدينة، فكل كاتب يقدم ما يراه من صور، ولكن الأفضل وجود سلسلة روايات حول مكان ما، وقد فعلها عبد الرحمن
منيف في خماسيته الشهيرة مدن الملح، ولكن حتى سلسلة الروايات عن مدينة ما حقيقية أو متخيلة ترمز إلى مدينة أو دولة حقيقية لا يمكن أن تغطي كل شيء، فالعتب الذي
أشار له بعض من تناولوا رواية رام الله الشقراء في هذا الجانب لا أراه مقبولا.
ربما ليس غريبا أن يبدأ عبّاد روايته بالحديث عن شأن يخص معقل وعرين المقاومة الفلسطينية الأبرز خاصة أثناء انتفاضة الأقصى، فتحت عنوان (تأبين جوليانو)بدأت الرحلة-الرواية، فابن جنين المقيم في رام الله في الحقيقة وأيضا بطله في عالم الرواية يتحدث عن تأبين جوليانو مير خميس، وهو مخرج من أم يهودية وأب فلسطيني من الداخل قتل برصاص مجهولين في سنة 2010م، وكان يدير مسرح الحرية في مخيم جنين وينقل المرسل (الصحافي) في رسالته لصديقته انطباعاته عن بعض سكان المخيم تعقيبا على (ظاهرة) جوليانو في مخيم جنين ومسرح الحرية:"أطلت عجوز من نافذة قريبة وبدأت تتمنى بصوت مسموع زوال المسرح أو نقله خارج المخيم وهي تكرر:"خربتو الولاد
والبنات" وفي الداخل رأيت شبانا وفتيات وأطفالا يهربون إليه، ويملأ ضجيجهم المكان كأنه متنفسهم الوحيد."(ص7), إنه تعبير عن الجدل والخلاف حول الظاهرة بين جنبات المخيم، الذي وصفه قادة الاحتلال في 2002 بأنه (عش الدبابير)، فمخيم جنين توحدت راياته وفصائله على المقاومة، ولكن جدلا وخلافا اعترى أهل المخيم حول هذا الذي يتحدث العربية بلكنة عبرية.
يكتب المرسل(الشاب) إلى صديقته في هذا الجزء بصراحة عن تشوهات ثقافية واجتماعية وسياسية فقط في أربع صفحات (ص7-ص10)، ولكنها على قلتها شرحت الكثير، وعرضت صورة بانورامية للحالة، ولعل هذه الكثافة من ميزات هذه الرواية قليلة الصفحات والكلمات.
"صدقيني لم يكن التكفير عن أخطاء الماضي عذرا كافيا لدى أهل المخيم، ولم تكن عودة جوليانو لتصوير فيلم عمّا حل بأولاد أمه واستكمال مشروعها مبررا لتحويل المقاومين إلى ممثلين..." ص8 فالفكرة الصادمة في ما يقدمه الفصل الأول هي تحويل المقاومين إلى ممثلين...ونلحظ أن السارد المتحدث بلغة صحافية لم يتهم أحدا بقتل جوليانو ولم يعرض أي احتمالات حول هذه المسألة، ولم يظهر تشفيا أو شماتة، مثلما لم يظهر حزنا متكلفا مصطنعا، وهو ما انتقد بسببه من حضروا حفل التأبين في رام الله ووصفه بالحزن الزائف...وكأنه يشير إلى ظاهرة النفاق الاجتماعي والتكلّف والتصنع، في رام الله(الجديدة)، هذا التكلّف الذي لم يتوقف على اللباس والمظهر الخارجي والسلوكيات الشخصية، التي سلطت الرواية الضوء عليها عبر المراسلات، بل تجاوزته إلى المشاعر الإنسانية التي يفترض أنها تلقائية تنساب خارج (العالم الرقمي).
ويتحدث عن مسرحية (العذراء والموت) التي كانت من إخراج جوليانو وعرضت على مسرح القصبة في رام الله، وعن الألفاظ النابية، وعن مشهد تظهر فيه بطلة المسرحية وزوجها يجرّها ليطارحها الغرام(ص8).
ويسأل المرسل صديقته: "هل هناك قبح كهذا؟!"...ويهاجم مفهوم الحرية وسقفها الذي بات (في انخفاض مستمر).
عبّاد يحيى في بقية الصفحات والفصول، لا يبتعد كثيرا عن هذا الإطار؛ فالرواية تسلط الضوء على تراجع المبادئ والأفكار السياسية الثورية المتحدية للاحتلال ومن خلفه، وعلى الجنس(خارج إطار الزواج الشرعي الرسمي) وما قد يرتبط به عادة أي الجاسوسية والإيدز....وما اصطلحنا على تسميته بالغزو الثقافي.
وهذا الغزو الذي حمل عنوان (غزوات ناعمة) ووصف الغربيين الذين تعج بهم رام الله بـ(الفرنجة) هو محور الرواية أو قطب الرحى الخاص بالنص؛ فقبل ألف سنة غزوات
الفرنجة لعموم بلاد الشام وفلسطين كانت عسكرية دموية(الحروب الصليبية)، والآن هناك الغزو الناعم، عبر الدعم والتمويل لنشاطات مختلفة خاصة الثقافية منها، وما يجلبه
المال من تغير في السلوك وأنماط المعيشة والتفكير الفردي، وإقامة العلاقات الجنسية، وتسهيل السفر، وهذه المرة فإن غزو الفرنجة يأتي في ظل قيام الكيان العبري، والذي قام بدعم الغرب وتشجيعه ...هذا يظهر بين سطور النص، واختيار العنوان (رام الله الشقراء) ليس بعيدا عن هذه الفكرة، فرام الله اصطبغت مجازيا باللون الأشقر من (الزوّار/الممولين/النشطاء/الجواسيس المتنكرين) الغربيين وكذلك العادات والسلوكيات المأخوذة منهم، أو صراحة مثلما يتبدّى في المراسلات المتبادلة؛ ولكن هو لا يرميهم عن قوس واحدة، فهو يدعو لغربلتهم وفرز الأخيار والأشرار منهم عبر وضع استراتيجية وطنية، مثلما نوّه في أحد الرسائل، ويذكر من الأخيار راشيل كوري مثلا، إلا أن النص عموما يوحي أن غالبيتهم إما من الأشرار، أو ممن يشتبه في أمرهم ووجودهم ودوافع هذا الوجود في رام الله!
التنبيه المستفز حول هؤلاء الغرباء، الذين يرتادون الشوارع والساحات ويصورون المباني والمنشآت ورجال الأمن، وهل هناك مكان في العالم يسمح بوجود هذا الكم من الغرباء
الأجانب، ولا أحد يعرف عنهم شيئا، ولا تملك السلطة مساءلتهم عن نشاطهم(ص24)، وهذا يدفع إلى السؤال الذي لم تغفله الرواية فيما إذا كان هؤلاء إسرائيليون يحملون
جنسيات أخرى، مثلما يؤكد (رشدي) أحد الأشخاص القلائل الذين تظهر أسماؤهم في الرواية وهو صديق البطل(الصحافي) بأن من كل أربعة أجانب هناك ثلاثة إسرائيليين!
الرجل الأجنبي، الحاضر بقوة في مشهد رام الله الثقافي الذي يلبس حلقا في أذنه، والمقيم في رام الله يمارس الشذوذ مع فتية فلسطينيين، مقابل المال، في منزله الفخم في حي
الطيرة المترف، ومظاهر الشذوذ، أخذت تتجرأ على الظهور على السطح، وتطرّق النص إلى فتاتين(يبدو أن أحدهما عربية والأخرى غربية) تتعانقان وتتبادلان القبل الحارة قرب
مسرح القصبة قريبا من مخيم قدورة...وهنا يذكرنا بأن كل المظاهر والبهرجة الكبيرة التي تلف رام الله لا تفتأ تصطدم بحقيقة وجود اللاجئين في المخيمات المحيطة برام
الله (قدورة والأمعري وغيرها) وأن مأساة هؤلاء مستمرة شاخصة، وبالقرب من أماكن لجوئهم تقترف موبقات...الغريب أو الصدفة أن بانجمين بارت تحدث في كتاب (حلم رام
الله) عن إقامة فندق فخم جدا على مقربة من مخيم الأمعري...هل هو تخاطر أو توارد أفكار، أم أن الغريزة الصحافية جمعت عبّاد مع بارت، لأن كلاهما عاش في رام الله، وامتهن الصحافة، مع أن الأول فلسطيني يتحدث بوجع يخلو من أي حيادية لأن يده في النار، والثاني يمارس المهنة هنا وقد يمارسها في أماكن أخرى ويكتب عن شأن لن يمسه كثيرا، لا هو ولا وطنه ولا شعبه، حتى لو شعر بنوع من العطف، وكلاهما(عبّاد وبارت) من نفس فئة الشباب مع فارق واضح فالأول عمره 25 سنة والثاني 39 سنة، ولكن بارت يعمل في رام الله منذ أن كان في عشرينيات عمره!
وأيضا برأيي أن عبّاد اختار البدء بالحديث المستفز عن الشذوذ الذي يمارسه غربي مع فتية فلسطينيين أعمارهم 18 فما دون، أحدهم من إحدى قرى غرب رام الله، يبدو أنه ضحية تفكك أسري أو فقر، قبل الحديث عن الجنس بين الرجل والمرأة، ليزيل الانطباع عن تكرار الحديث عن اللون الذي بات معروفا في نصوص روائية عدة، منها ما نقش مكانة مرموقة في سجل الروايات المميزة (مثل موسم الهجرة على الشمال للطيب صالح) أي الرجل العربي/الشرقي الذي يتميز بالفحولة، المتربي في مجتمع محافظ، والمرأة الغربية الشبقة المولعة به، مع شعور بنوع من (الانتقام فوق السرير)، من الغرب المستعمر الذي قتل ونهب بلادنا، وهذا (الانتقام) ليس سوى محاولة هروب وتبرير وعلامة ضعف؛ ربما مردّها الشعور بالذنب، لأن الدين والتربية المحافظة لها رأيها القطعي المجرّم والمحرّم لهذا العمل، وأيضا فإن البطل في ذاك اللون من الروايات يدرك أن المرأة الغربية تنظر إلى العلاقة بمنظار الاستمتاع الجسدي، والتجربة، لأن مقياس نظرتها ونظرة مجتمعها لمسألة الجنس خارج الزواج مختلف عن نظرة المجتمع العربي، ولن ينتابها أي شعور بأن العربي انتقم أو تفوّق...ابتعدت الرواية أو حاولت عن إعطاء هذا الانطباع ومحاولة اعتبار الجنس بابا من أبواب الجاسوسية والإيدز، و(الدراسة) عن كثب، بل ابتدأت الحديث عن عالم الجنس بأسلوب مستفز يظهر بعض الفتية (مفعولا بهم) من الرجل الأجنبي!
ومع ذلك فإن (شبهة) تأثر عبّاد بالطيب صالح حاضرة وبطريقة معاكسة؛ أي أن بطل الطيب صالح "مصطفى سعيد" قد ذهب إلى الغرب للدراسة وهناك كانت له مغامراته الجنسية-النسائية (الانتقامية)، أما رواية عبّاد فهي تتحدث عن قدوم الغربيات إلى هنا ليمارس الشباب العرب معهن الجنس بنفس عقلية مصطفى سعيد!
والملاحظ أن عبّاد في الصفحات التالية أسرف أو أسهب في الحديث عن الجنس، والعلاقات بين الشبان الفلسطينيين والنساء الشقراوات الغربيات، فهل يمكن النظر إلى النص على أنه يلامس ما يعرف بالأدب الإيروسي(الإيروتيكي)؟
للواقعية فإن هذه (الشبهة) قائمة في نص رواية رام الله الشقراء لأن الرواية صغيرة الحجم، وكان موضوع الجنس حاضرا فيها بنسبة كبيرة، تطغى على غيرها.
وأيضا فإن فكرة الرواية تقوم على رسائل متبادلة بين شاب وفتاة، يتمتعان بقدر كبير من الثقافة السياسية والاجتماعية، ولديهما حس وطني، هو الدافع لمثل هذه الرسائل فكيف
يقبلان أن يتحدثا (ولو مراسلة) عن العلاقات الجنسية بهذه الطريقة؟ ألا تقوم فكرة الرواية على انتقاد الخروج على العادات والتقاليد والابتعاد عن المفاهيم الوطنية الأصيلة بسبب (الفرنجة) وأموالهم وحضورهم الكثيف؟ فهل هذه المراسلات التي تسرف في وصف ممارسة الجنس، تصنّف على أنها (حفاظ) على ما يتباكى المتراسلان عليه؟ مع أنها(الفتاة) في ص42 طلبت منه ألا يصدر بذاءات أخرى، وطبعا لم يتوقف الحديث الجنسي منه ولا منها بطبيعة الحال في الصفحات/الرسائل التالية بل على العكس تماما...أم لعل الأمر مقصود ومتعمد، وهو أن الملتزمين أخلاقيا ووطنيا من الشباب والبنات أصابهم (غبار) التغيير الذي حل في رام الله؟
ويظهر في النص أننا بتنا حقل تجارب ودراسة، وأنابيب اختبار للغربيين، في شتى مؤسساتنا، وحتى حياتنا الخاصة؛ ومن الرسائل قصة (عمر) الفلسطيني مع (أوليفيا/أوليف) الغربية الإيطالية صاحبة العربية الركيكة، وعيشها معه في شقة أدخلت بصماتها (الفنية) عليها، وكيف كانت العلاقة الحميمة بينهما، وكيف علمته احتساء أنواع الخمور، ثم
تركته بلا سابق إنذار...ودخل (عمر) في حالة تيه، لأنه ليس مثل صاحبه (رشدي) ينظر للأمر على أنه علاقة عابرة وأوقاتا للتسلية والمتعة تمر وتنقضي، فأصيب بصدمة لأنه
استنتج أنه ربما كان من ضمن أطروحة الدكتوراه التي قالت له بأنها تعدها.
وفي كلتا الحالتين فإن الأجنبيات ربما يقمن بأبحاث على الشبان الفلسطينيين، لصالح مؤسسات غربية أو إسرائيلية، تشمل كل شيء، ابتداء من طريقة التفكير، وليس انتهاء
بالأداء فوق السرير، ونجحن في إدخال ما هو محرّم شرعيا ووطنيا في الوعي الجمعي الفلسطيني، الخمر والعلاقات غير الشرعية، سواء لدى من ينظر للأمر كمتعة عابرة، أو
من ينسجم معه ويعتبره حياة جديدة بلون (أشقر) داخل مجتمعه...إنه التغيير الذي يطال كل شيء، ويدخل كل ما كان خارج عالم الحسابات والأرقام والمساومات في أتونه، ويؤكد
أن:
"لا وجود للمسلّمات في رام الله، كل شيء قابل للمساومة، والمدينة عازمة على سحق كل قناعاتنا الرملية..." ص31
والتحوّل في رام الله فيه تناقض غريب عجيب، فأقدم استوديو تصوير قرب سينما الوليد(سابقا) سيتحول إلى محمص لبيع المكسرات(التسالي) فيما هناك تركيز مبالغ فيه على التراث فلسطينيا(بتمويل سخي من الغرب) بينما يركز الإسرائيلي على التاريخ.
وشخصيا لطالما لفتت نظري هذه المسألة فنحن ننشغل بلباس (تراثي) وأدوات زراعية تراثية، بينما (هم) ينشغلون بالحفريات ليثبتوا كذبتهم بأن لهم جذورا هنا...والرواية تتحدث
عمّا سأسميه (ترفا ثقافيا) وهو تمظهر في إدخال لوحة بيكاسو للعرض في رام الله، والحراسة المبالغ، بينما الموناليزا (الأهم والأجمل من لوحة مشوهة لبيكاسو)لم تحظ
بهذه الحراسة في مكانها هناك في الغرب، ويبدو الألم على المرسل الشاب "كم تقاضت شركات التأمين الإسرائيلية لضمان دخول وخروج آمن للوحة، وكيف يشعر فلسطيني معدم حين يعرف أن دخول اللوحة إلى رام الله كلّف قرابة الثلاثة ملايين دولار؟" ص89
هذه من التناقضات الكثيرة التي حفلت بها الرواية، في عالم رام الله، أو الضفة الغربية، ناهيك عن توظيف أو استباحة أشعار محمود درويش على نحو مبالغ فيه، لا يخلو من
التوظيف والاستغلال للأغراض الخسيسة(ص42).
ومن المشاهد الثقافية في رام الله الجديدة عرض الأغاني الثورية، لفرقة العاشقين أخذت تعرض على مسارح فخمة مثل أغنية "اشهد يا عالم علينا وعبيروت" حيث يعقب الشاب على سهرة صديقته على هذا الحفل "الأغاني الثورية حين تغنى على المسارح الفخمة أظنها تصبح من الحنين النخبوي" (ص109)...فلا شيء عاد له نفس الطعم ولا نفس المشاعر تجاهه من مظاهر الثقافة والفن والأدب في رام الله الجديدة.
الفتاة العاملة في الصحة تتلقى عرضا للعمل مع (Flagship)...يا إلهي، سأضطر للتذكير بأن الحديث عن هذا (الفلاج شيب) أي بارجة القيادة كان مفصلا في كتاب (حلم رام الله، بانجمين بارت) من ص140-ص142، ويوضح بارت أنه الذراع الصحي لـ (USAID) وهذه معفية من التسجيل لدى أي وزارة فلسطينية، وهو ما يمنحها حصانة لا مثيل لها...بالعودة إلى الوطنية الملتزمة المثقفة التي تريد العمل مع المارينز(كما يتهكم صديقها ردا على رسالتها) فهي في المقابلة سمعت من الموظفة "أنهم لا يقومون بشيء سوى مساعدة النساء في الكشف عن السرطان وبناء المستشفيات....حينها جال بخاطري أن أقول لها إن حماس في بداية الثمانينيات لم تكن تفعل شيئا سوى بناء المستشفيات، ولكنني ترددت" ص46+47.
ماذا تريد الرواية أن تقول غير ما هو معروف عن (ذلّ) التمويل الأجنبي؟ هل توحي بأن غياب حماس بسبب تجفيف (منابع تمويل الإرهاب بعد أحداث نيويورك وواشنطن) وما نجم عن الانقسام الفلسطيني، (يسد مكانه) هؤلاء (المارينز) لا تنظيم فلسطيني منافس، مثلما يفترض؟ وأن هؤلاء (الفلاج شيب) وغيرهم يتغلغلون في مجتمعنا عبر بوابات الأعمال
الخيرية، والأنشطة الصحية، ليفرضوا ثقافتهم ورؤاهم علينا؟ بالتأكيد نعم، فهم لا ينفقون الرزم الخضراء حبا فينا وشفقة علينا!
الرواية تحدثت عن عالم المناضلين الذين تاهوا ودخلوا عالم البزنس المموّل من (الفرنجة) كأحد تجليات الوضع الجديد الذي فرضته ثنائية توقف المقاومة وتدفق المال الأجنبي.
واستنكرت ما بات يعرف بكتابة (البروبوزال) وهي "وريقات محكومة بلغة ثابتة وتعابير جامدة وشروط حادة"(ص54) برواتب مرتفعة، لسحب الأموال من الممولين الأجانب، ومراعاة أذواقهم، وصياغتها وفق مخيالهم، لأن هذه الأموال هي شرط استمرار عمل المؤسسات!
ولكن ما المستقبل الذي يتوقعه الكاتب لرام الله؟ الفتاة تتوقع سيناريو مرعب غارق في السوريالية، ولكنه لا يخلو من رسائل الغضب والغيظ والإحباط، والتنبيه إلى الضياع
أو الوهم: "أتخيل دوما أن هنالك مكبرات صوت مهولة في سماء رام الله لا يراها أحد، وحين تسقط كل أوهامنا وتؤول إلى ركام، سيصدح من خلال هذه المكبرات مارد شيطاني يقول:نترككم الآن مع كوكب الشرق أم كلثوم، تغني الأطلال"، وتظل هي تردد وتعيد:كم بنينا من خيال حولنا" (ص106)
في النهاية وعلى لسان الفتاة تتحدث الرواية بألم حزين يشابه تنهيدة مهموم بثّ همه وحزنه أن رام الله "مبتورة وكل ما فيها مبتور، لا تكتمل فيها إلا أوهامنا" (ص126)...(بانجمين بارت ختم كتابه بالقول:
إنها المفارقة الأخيرة مات جنين دولة وولدت عاصمة صغيرة) مع إشارة عبّاد على لسانها إلى حب رام الله في ذات الصفحة...ولا يغيب عني السؤال منذ أن شرعت بقراءة الرواية وحتى آخر كلمة فيها:هل هذه الرواية تعبير عن الصدمة التي تصيب كثيرا من المتعلمين المنتقلين من مجتمع إلى آخر، بقدر ما هي في نفس الوقت تحذير وتنبيه و(فضح) لما يجري لشعب تحت الاحتلال، وما أحدثته أموال الفرنجة في مجتمعه من تشوهات مقززة؟
لم لا، فابن بلدة كفر راعي المحافظة جنوب مدينة جنين، والذي ترعرع وتربى وسكن في جنين، المدينة الأشبه بقرية كبيرة، حين انتقل للدراسة والعمل في رام الله وهو ابن الأسرة
المتدينة المحافظة، حمل نوعا من الثورة الحاملة لصبغة أدبية ثقافية على مدينة لو بقي في جنين، لما منحته معشار الذي منحته إياه رام الله بلا شك...وفي نفس الوقت هو
فلسطيني مثقف يخاف على شعبه ومجتمعه وأصدقائه، وراقب عن كثب أن الاستهداف كثيف يستوجب التنبيه ولو بصيغة الرواية!
وجدير بالذكر أن رام الله الشقراء ظلت في الإطار الوصفي، فلم يخرج أي حل أو اقتراح له قيمة لمعالجة ما طفحت به من سلبيات، سواء على لسان الشاب أو الفتاة، حتى تفكيره باستراتيجية وطنية لغربلة الأجانب، لم يقدم خطوطا عريضة لها...لقد ظل النص مفتوحا، وكان يكتفي بما يشبه (التبليغ) عن الخطر!
ولاحظنا أن رواية (حياة ممكنة-إسراء عيسى) وهي شابة في مثل سن عبّاد تقريبا، لم تحظ بالتناول ولا بكم المقالات التي حظيت بها رواية رام الله الشقراء مع أن حياة ممكنة حازت على جائزة
ديوان العرب، والسبب أن رواية إسراء عيسى كانت نصا إنسانيا ممتزجا بالهم الوطني، وما سببه الاحتلال من مآس في نابلس وغزة، بينما نص عبّاد يسلط الضوء على الهم الجمعي والأخطار الكبيرة المحدقة (بالأمن القومي)، وطبعا لأن نص عبّاد طافح بالحديث عن الجنس، وهذا (الجنس) أكثر ما يجذب القرّاء والكتبة...أنا مضطر للمقارنة بين رواية عبّاد ونظيرتها رواية إسراء لأن كلاهما من الروايات (الشبابية) بمعنى أنهما مما كتبه شباب، وهذا أمر جيد في ظل تراجع الكتاب والعزوف عن قراءة الكتب لصالح قراءة التغريدات، على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد كانت رواية إسراء غنية بالجماليات الفنية، وهذا ليس غريبا لأنها فنانة أساسا وخريجة كلية الفنون الجميلة.
رام الله الشقراء نص مثير للجدل، وهذا مما يحسب للكاتب عادة أكثر مما يؤخذ عليه، ولكنها تحتاج إلى ما يشبه النص المكمل أو الأكثر كثافة وتفصيلا...تماما مثلما فعل عبد الرحمن منيف في شرق المتوسط، مع فارق الموضوع وطبيعة المؤلف...وبانتظار النص المكمّل، سنظل نشعر بذعر مما حوت وحملت وستظل وخزات دبوسها المدبب تصيبنا بانتفاضة وقشعريرة، ولربما يزيد النص المنتظر ذعرنا أكثر!

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف