عندما هممت في الكتابة عن بغداد، أرتأيت أن أربط الواقع والسائد مع الماضي والألق المنصرم لهذه المدينة التي كانت عاصمة الدولة العباسية، وامتدت لتكون عاصمة العراق في العصر الحديث، ومنذ الاحتلال البريطاني وما اعقبه من احتلال أميركي، إلى أن ساد نظام الميليشيات الطائفية حتى يومنا هذا.
بغداد، لم يظل من مكنونها العمراني والاجتماعي كما قالت أم كلثوم: "بغداد يا قلعة الأسود" سوى أشلاء تحمل اسما بلا مسمى، وحتى الماضي القريب، أنشدت لها فيروز استدراكا عاطفيا، وبصوتها الملائكي: "بغداد والشعراء والصور – ذهب الزمان وضوعه العطر".
أجل.. ذهب زمان بغداد في الألق الحضاري، مع أن بغداد تعرضت إلى أكثر من غزوة واستباحة في ماضي التاريخ، وهل ننسى غزو هولاكو – المغول، الذي جعل نهرها دجلة تختلط ماؤه بحبر الكتب والمؤلفات النفيسة التي رماها الغزاة في هذا النهر؟
أقول هذا، وأنا أسترجع قولاً من الماضي القريب، لشاعر استطرق أبوابها في الزمن السالف، ومن إحباطه المزمن قال: "بغداد دار لأهل المال طيبة ـ وللمساكين دار الضنك والضيق". وربما كان هذا الشاعر ذا رؤية استقرائية في حينه وفي الأجل المستقبلي أيضا"، حيث كان استطلاعه مصيباً.
منذ أكثر من عام ونصف عدت إلى بغداد، فوجدتها تبكي على خرائبها، في ذلك الحين استذكرت بيت الشاعر أحمد الصافي النجفي الذي عاش جل عمره في لبنان، بيد أنه لما وطأت قدماه أرض بغداد عائداً، أنشد بمرارة وحسرة: "يا عودة للدار ما أقساها ـ أسمع بغداد ولا أراها".
بغداد، لم تُعد بغداد منذ الاحتلال الأميركي وملاحقه السياسية التي استولت على السلطة، ومن خلال هذه السلطة انهمكت في الفساد من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها، وكأن مجيئها مع الاحتلال، انتقاماً من العراق الذي تفسخ نسيجه الاجتماعي إلى مستويات دنيا، فإذا كانت العاصمة بغداد بهذا التدني السياسي والاجتماعي، فإن باقي المحافظات لم تكن أحسن حالا" منها، ما عدا المحافظات الكردية التي أحسن المسؤولون الأكراد في تطويرها إلى مستوى يضاهي المدن الأوروبية. بل ان مدينة أربيل تتفوق حتى على بعض المدن الأوروبية. أقول كلامي هذا، وكاتب السطور في الوقت نفسه يعارض الانفصالية الكردية وسياسات تقطيع أوصال العراق، بهذه الفيدرالية أو الكونفيدرالية أو إنشاء الأقاليم، اعتماداً على ما تضمنه الدستور الذي أعده حقيقة، مستشار "المحافظين الجدد"، الصهيوني نوح فيلدمان.
لم يبق من بغداد الحضارة والعباسيين و"عيون المها بين الرصافة والجسر" شيء يُذكر، الأمر الذي جعل الجمهور البغدادي الأصيل، يعمد إلى الانزواء وإخفاء "بغداديته". ألم يقل الشاعر حسن المرواني كاتب أغنية الفنان كاظم الساهر، "نُفيت واستوطن الأغراب في وطني – ودمروا كل أشيائي الحبيبات".
2
يقول مرشح بغدادي في الانتخابات البرلمانية المنصرمة، بغداد مدينة دم، ولم تعرف الجوع في تاريخها إلا عندما كانت جيوش التتار تحاصرها، وهي اليوم محاصرة بالإهمال والتخريب وازالة المعالم.
يوم كنا ننتسب إلى بغداد، لم يكن البغداديون يعرفون نسبا لطائفة أو دين أو عنصر، وكان القادمون إليها يتبغددون، فينسون انتسابهم القديم، وتصبح بغداد عنوانهم في التأريخ.
بغداد في حاضرها الحزين، تجتاحها الميليشيات، وتحاصرها السيارات المفخخة، وضحاياها تتشظى أجسادهم على الأرصفة، كما هو حال الجثث الملقاة في الأماكن المنزوية، بتوصيف جثث مجهولة الهوية. وعلى هذا الواقع، فإن بغداد تعيش أياما من الخوف المستديم الذي لا يبشر الأفق القريب بزواله.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف