لا يختلف أحد مع حقيقة أن الوضع العربي العام في أسوأ حالاته نظرا للاقتتال الداخلي وللانشغالات ليس بهموم التطوير وتلبية الاحتياجات المتزايدة لقطاعات تزداد اتساعا من الجمهور العربي. وبديهي أن يترك هذا الحال أثره بشكل فاضح على الواقع الفلسطيني الذي يعاني ليس فقط من تردي الحال أصلا وإنما كذلك من تبعات الاحتلال الإسرائيلي الذي يقضم الحقوق العربية عمليا بشكل يومي ومتزايد. وفي ظل هذا الوضع جاء مؤتمر الدول المانحة لإعادة إعمار قطاع غزة من جهة والمسعى الفلسطيني في مجلس الأمن الدولي لنيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وجدولة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
وبنظرة واقعية بسيطة يمكن القول إن تحقيق الأهداف: كبيرها وصغيرها، يبدو أمرا يزداد صعوبة كلما كانت الظروف المحيطة أكثر تشابكا وتعقيدا. وبديهي أن إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب التي شكل القطاع فيها نموذجا للصمود من ناحية ومثالا على محدودية القوة الإسرائيلية مهما عظمت من ناحية أخرى، تبدو مهمة صعبة في ظل الانقسام الفلسطيني والتشرذم العربي. كما أن مهمة جدولة الانسحاب وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الأمم المتحدة، في ظل هذا الواقع تغدو أصعب. ولكن كل ذلك لم يحل دون اعتبار المهمتين ضرورة وطنية وقومية هناك حولهما ما يشبه الإجماع ولو بشكل نظري.
ومن الواضح أن مؤتمر الدول المانحة في القاهرة، ورغم تغيب إسرائيل عنه، منح الدولة العبرية دورا فائق الأهمية في إعادة إعمار القطاع من خلال اشتراطه توفير الأموال بخضوعها لكل من السلطة الفلسطينية وعبر آلية متفق عليها مع الأمم المتحدة. ولأسباب مختلفة، فإن للأمم المتحدة عموما، ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المنبثقة عنها خصوصا، مكانة لا يمكن تجاهلها في كل ما يتعلق بإعادة الإعمار. ولهذا سارعت كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة للاتفاق على آلية مراقبة حركة أموال ومواد إعادة إعمار القطاع. وبديهي أن هذه الآلية أعطت إسرائيل دور ضابط الحركة الأول القادر على التحكم ليس فقط في وتيرة إعادة الإعمار وإنما أيضا في وجهتها. وبسبب أن إسرائيل هي قوة الاحتلال المسيطرة على المعابر فإنها تغدو صاحبة القول الفصل في كل ما يتصل بإعادة الإعمار في القطاع.
وهناك الكثير من الدلائل على أن إسرائيل معنية بإعادة إعمار القطاع لأسباب تتعلق بمصلحتها هي قبل غيرها. وبعيدا عن الفائدة المباشرة التي تجنيها الدولة العبرية من التحكم بإعادة الإعمار ومرور موادها عبر المعابر الإسرائيلية هناك مصلحة سياسية وأمنية من الدرجة الأولى. فقط بينت الحرب الأخيرة لإسرائيل مدى فشل سياسة الحصار التي تنفذها منذ احتلال القطاع عام 67 وحتى أثناء السنوات الأولى من حكم السلطة الفلسطينية والتي تعاظمت بعد سيطرة حماس على القطاع عام 2007. وكانت الخلاصة المركزية في الأيام الأولى للحرب الأخيرة أن الحصار لم يضعف سيطرة حماس على القطاع ولم يقلل المخاطر بل إنه جند عموم أهالي القطاع ضد إسرائيل. واستخلصت قيادات رئيسية في الحكم والجيش الإسرائيلي أن خطر غزة ينبع أساسا من شعور أهلها بأن ليس لديهم ما يخسرونه. ولهذا بدأت قيادات إسرائيلية نافذة في عرض خطط لإنهاء الحصار المفروض على غزة بشكل يبعد عن الدولة العبرية الاتهامات الدولية من ناحية ويساعد في تقليص المخاطر من غزة وزيادة شعور أهلها بأن ليس لديهم ما يخسرونه.
غير أن هذه القناعة الإسرائيلية المتأخرة تصطدم بواقع أن المحيط العربي المعتدل صار أشد تقبلا لمحاصرة إسرائيل لحماس وأكثر معارضة لاستمرار التعنت الإسرائيلي تجاه التسوية. ورغم تكرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان الحديث عن فرص السلام مع الدول العربية إلا أن هذه الدول تعتبر السلطة الفلسطينية في رام الله وحكومة الوفاق الحالية مدخلا لأي حوار علني بهذا الشأن. لكن هذه الوجهة تصطدم بواقع أن القيادة الإسرائيلية الحالية غير مرتاحة لا لوقوف العرب إلى جانب السلطة الحالية ورئيسها محمود عباس ولا مرتاحة للموقف الدولي من ذلك. وهناك في إسرائيل من يستخلص منطقا جديدا لبلورة السياسة الواجب اتباعها مع تعقيدات الوضع العربي والفلسطيني تقوم على فكرة: تحسين حياة الفلسطينيين ورفض فكرة الدولة الفلسطينية. وقد وصف ليبرمان الرئيس عباس مؤخرا بأنه «لا سامي» ويريد «إشعال المنطقة» في إشارة لاعتباره إياه خطرا على الدولة العبرية بعد أن رفض سابقا اعتباره شريكا في السلام. كما أن تنامي خطر داعش دفع اليمين الإسرائيلي إلى تغذية مخاوف الإسرائيليين من الدولة الفلسطينية حيث أظهرت الاستطلاعات رفض 74 في المئة منهم للدولة الفلسطينية على حدود 67.
وفي هذا الحال يصعب تخيل كيف ستسير في الشهور القريبة خطوتان متعاكستان: إعادة إعمار قطاع غزة بالتعاون مع إسرائيل من ناحية واستصدار قرار أممي بجدولة إنهاء الاحتلال بالتصادم مع إسرائيل وأميركا أيضا. ربما أن أحدا في إسرائيل سوف يجد في منهج تعامل دافيد بن غوريون مع «الكتاب الأبيض» البريطاني في أواخر الثلاثينيات الذي قيد الهجرة اليهودية: «نعارض الكتاب الأبيض وكأن لا تحالف مع بريطانيا ونتحالف مع بريطانيا وكأن لا وجود لكتاب أبيض». وهكذا لأن لإسرائيل مصلحة في إعادة إعمار القطاع فسوف تحاول تحقيقها حتى وإن كانت تتعارض مع موقفها من السلطة الفلسطينية وخطواتها في الأمم المتحدة. وقد تجد الولايات المتحدة سبيلا لفك الاشتباك الإسرائيلي الفلسطيني في الأمم المتحدة عبر العودة لطاولة المفاوضات كما قد تجد إسرائيل في الخلافات الداخلية الفلسطينية سبيلا لحصر مراقبة إعادة إعمار القطاع بالأمم المتحدة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف