- الكاتب/ة : مصطفى اللباد
- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-01-24
تبدو السعودية الآن مثل لاعب كبير يجلس إلى رقعة شطرنج الطاقة، إذ إن الهـبوط المتتالي في أسعار النفط خلال الشهور الست الماضية من 115 دولاراً للبرميل قبل ستة أشهر فقــط إلى ما يدور حول 40 دولاراً عند كــتابة هــذه الســطور، يظــهر بوضوح التأثير السعودي الكبير باعتبارها أكبــر مصدر للنفط في العالم. قد لا تبدو السعودية في أحسن أحوالها إقليمياً، فتحالفاتها في جوارها الجغرافي المباشر: العراق وسوريا واليمن لم تكلل بالنجاح؛ كما أن المفاوضات النووية بين إيران والغرب تؤرق صناع القرار فيها، لأنها قد تفتح الطريق أمام تقنين القيادة الإقليمية الإيرانية بضوء أخضر أميركي. وفوق ذلك، يغطي الغموض عملية انتقال السلطة المرتقبة في السعودية، ما يجعل الحديث عن صراعات الخلافة تشتعل في مراكز الأبحاث العالمية، بسبب الموقع السعودي المحوري في سوق الطاقة العالمي وتأثير التصارع المحتمل في أروقة السلطة السعودية على المصالح العالمية. وبرغم المؤشرات السلبية المذكورة، فإن النقلات السعودية المتتالية على رقعة شطرنج الطاقة هبوطاً بأسعار النفط تعيد التذكير بالورقة الاستراتيجية الأهم التي تملكها السعودية، أي قدرتها المؤكدة على التأثير سلباً وإيجاباً في الدول المصدرة للنفط والمستوردة له على حد سواء، داخل الشرق الأوسط وخارجه.
تقول التجربة التاريخية إن السعودية ساهمت في إسقاط الاتحاد السوفياتي السابق عندما رفعت انتاجها اليومي من اثنين مليون برميل إلى خمسة ملايين برميل خلال الثمانينيات من القرن المنصرم، ما هبط بأسعار النفط بقسوة، وأثر سلباً بالتالي على عوائد موسكو من النفط. وذلك بالتوازي مع ضغوط جيو - سياسية أميركية، قادت بالنهاية ضمن عوامل أخرى إلى سقوط الاتحاد السوفياتي. ويشرح جيمس نورمان ذلك بسلاسة في كتابه المعنون: «ورقة النفط: الحرب الاقتصادية العالمية في القرن الحادي والعشرين»، كيف أمكن للسعودية المساهمة في تشكيل موازين القوى العالمية باستخدام ورقة النفط.
النقلة السعودية وأهدافها
تحارب السعودية النفط الصخري الأميركي، الذي يهدد على المدى المتوسط وضعها الاستثنائي في سوق الطاقة العالمية، عبر دفعها أسعار النفط إلى الهبوط. ومرد ذلك أن تكلفة استخراج النفط الصخري العالية نسبياً (تتراوح ما بين خمسين وستين دولاراً للبرميل) تجعله غير مجد اقتصادياً، في حال هبطت أسعار النفط الدولية إلى ما تحت أسعار تكلفة استخراجه. كما أن سعر النفط المنخفض سيمنع الشركات الكبرى من تخصيص موارد أكبر للاكتشافات والأبحاث المتعلقة باستخراج النفط غير التقليدي، وهو أمر يصب في مصلحة المملكة على المدى الطويل. كما أن القراءة المتأنية لآليات العرض والطلب في السوق العالمي تقول إن ارتفاع الانتاج الأميركي العام 2014 الى مستوى 8,6 ملايين برميل يومياً مقارنة مع 7,4 ملايين برميل يومياً فقط العام 2013، قد قرع أجراس الإنذار في الدول الخليجية المصدرة للنفط. ولما كانت وكالة الطاقة الأميركية قد أعلنت توقعها أن يبلغ سقف الانتاج الأميركي من النفط الخام 9,3 مليون برميل يومياً خلال العام الجاري 2015، مقابل زيادة الطلب العالمي على النفط بمعدل تسعمئة ألف برميل يوميا فقط، بسبب تباطؤ معدلات النمو الصينية والمصاعب الاقتصادية في الاتحاد الاوروبي، فإن ذلك يعني أن هناك فائضاً في العرض بالسوق الدولية سيدفع بالأسعار إلى الأسفل في الأحوال كلها، وهو ما تريد الرياض قيادته والتحكم بوتيرته.
ستتضرر الدول المصدرة للنفط على المدى القصير جراء الهبوط في الأسعار، وبالذات تلك ذات التعداد السكاني الكبير مثل روسيا ونيجيريا وإيران وفنزويلا والعراق، في حين تملك دول الخليج العربية المصدرة للنفط احتياطات مالية ضخمة. على ذلك سيكون التأثير السلبي أكبر في إيران المتعرضة إلى عقوبات اقتصادية بسبب ملفها النووي، وروسيا الواقعة تحت عقوبات أخرى بسبب نزاعها مع أوكرانيا، وعلى فنزويلا التي تعاني من مصاعب داخلية، ويلعب النفط دور المسكن لشراء القبول الشعبي بمادورو خليفة شافيز. ولأن الدول الثلاث تتواجه مع واشنطن – كل لأسبابه – فقد أصابت السعودية بنقلتها على شطرنج الطاقة مجموعة خصوم في وقت واحد، وأظهرت بالتالي أهميتها الفائقة كحليف لواشنطن في المنطقة وفي سوق الطاقة العالمي.
تقدير الموقف الإيراني
سيتحتم على طهران، بسبب تراجع إيراداتها الناجمة عن هبوط أسعار النفط، أن تراجع الموازنة العامة للدولة وأن تشطب الحكومة الإيرانية نفقات اجتماعية للتغلب على العجز أو رفع أسعار الطاقة أو كلاهما معاً، وهو أمر سيقلل من الرضا الشعبي على حكومة روحاني. ويظهر التأثير السلبي في ملاحظة أن إيران عينت سعراً افتراضياً للنفط في الموازنة العامة مقداره اثنان وسبعون دولاراً. ثم ومع ظهور أزمة الأسعار، خفضته إلى خمسين دولارا للبرميل في الميزانية الجديدة، ثم عادت وعدلته إلى أربعين دولارا فقط للبرميل بعد تدحرج الأسعار إلى الأسفل. ويعتقد باحثون إيرانيون أن كل عشرة دولارات أقل في سعر النفط تعني خسائر سنوية إيرانية بمعدل 30 مليار دولار، ما يبرز التأثير السلبي في إيران بوضوح أكبر. من ناحية ثانية، سيضغط عامل أنخفاض أسعار النفط على المفاوض الإيراني في المفاوضات النووية المعقدة أكثر فأكثر، ويجعل أميركا مرتاحة أكثر فيها. ونظراً للتأثيرات السلبية المباشرة في طهران اقتصادياً وسياسياً وتفاوضياً، فلم تخف القيادة الإيرانية اتهامها المبطن والواضح للسعودية بالوقوف وراء الأزمة. وخلال استقباله للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في طهران، قال مرشد الثورة السيد علي خامنئي:
«أعداؤنا المشتركون يستخدمون النفط أداة سياسية ولهم بالتأكيد دور في الهبوط الحاد لأسعار النفط». بدوره، دان الرئيس الإيراني حسن روحاني «المؤامرة النفطية على إيران من بعض الدول»، وألغى وزير الخارجية الإيراني زيارته إلى الرياض أول من أمس في إشارة ذات مغزى.
نقلة إيران الممكنة
لا تستطيع إيران فعل الكثير في سوق الطاقة العالمية، فامتناعها عن تصدير النفط بغرض رفع الأسعار سيسبب لها خسائر أكبر من الحالية. كما أن طاقتها التصديرية المحدودة (2,5 مليون برميل يومياً) بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وغياب الاستثمارات في تحديث قطاعها النفطي، يجعل تأثيرها العملي في سوق الطاقة العالمي محدوداً. لذلك، لا يتبقى في الإمكان الإيراني سوى إجراءات سياسية لا نفطية، لمحاولة تعديل المسار في الأسعار الحالية. من ضمن هذه الإجراءات السياسية أن تنسق إيران بفعالية أكبر مع الدول النفطية المتضررة مثل روسيا ونيجيريا وفنزويلا والعراق، لتكوين «منتدى دولي» ضاغط في مواجهة المحور العربي الخليجي، مع ملاحظة أن تكلفته السياسية منخفضة وقدرته على التأثير الفعلي ستظل مقتصرة على الجانب الدعائي فقط. وربما تلجأ طهران وموسكو إلى القيام بمناورة بحرية مشتركة في مياه الخليج (قبالة الساحل السعودي) لتوجيه رسالة سياسية قوية إلى الرياض، لكن حسابات موسكو الدولية بالتصعيد أو التهدئة مع أميركا ستكون مُرجِحة في تنفيذ هذا الإجراء. وفي مروحة احتمالات الرد الإيراني الممكن الانسحاب من المفاوضات النووية مع الدول الست الكبرى ورهن العودة للمفاوضات بإنهاء حرب الأسعار، ولكن مع الاستمرار في التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتقليل الكلفة السياسية لهذا الإجراء. سيسبب خيار الانسحاب الإيراني من المفاوضات صدمة في الأسواق الدولية، وبالتالي سيرفع أسعار النفط مجدداً ويعيد زمام المبادرة إلى طهران مرة أخرى، لكنه قد يقفل الطريق أمام أوباما الضعيف في العودة إلى المفاوضات لاحقاً بسبب ضغوط الكونغرس الجمهوري عليه، ما يجعل الثمن السياسي كبيراً للغاية. على المقلب الآخر، لن تؤدي المفاوضات النووية القائمة على الأرجح إلى اتفاق شامل بسبب تعهد إيران غير المقيد زمنياً بتجميد البرنامج النووي طيلة فترة التفاوض بموجب اتفاق جنيف العام 2013، وهو ما يفقد طهران ميزة المبادأة في هذه المفاوضات ويجعل واشنطن مرتاحة فيها أكثر، وبالأخص مع تراجع مداخيل إيران من النفط. يحمل خيار الانسحاب من المفاوضات في طياته مخاطرة وعائدا كبيرين في آنٍ معاً، وفي النهاية لن تُجرى حسابات جدوى هذا الخيار ـ الانسحاب من المفاوضات ـ علناً على هذه الصفحة، وإنما سراً في مكتب المرشد بطهران!