بعد عقود من الصراع، وأكثر من عقدين من مفاوضات التسوية؛ تبلور تيار مركزي كبير فلسطيني وإسرائيلي وعربي ودولي، يقوم على فكرة ان أصل أي تسوية يجب ان تتبنى برنامج حل الدولتين، حتى ان مجلس الأمن أصدر قراراً بذلك عندما تبنى خطة طريق بوش للحل، وتحول خيار الدولتين إلى مبدأ لابدّ من المجاهرة بقبوله علنياً من قبل كل سياسي إسرائيلي يتطلع للوصول إلى كرسي الحكم، ساعدهم كثيراً على ذلك العمومية وعدم الوضوح فيما يتعلق بحقوق الدولة الفلسطينية وحدودها، وفضفاضية شعار حل الدولتين سمح بقبوله حتى من قبل رموز اليمين طالما ان تبنيه نظرياً يمنحهم الشرعية والقبول الدولي دون ان يختبر حقيقة مواقفهم، وفي نفس الوقت يمكنهم من استخدامه كمظلة شرعية لاستمرار سياساتهم الاستيطانية لقتله من الداخل وتفريغه من مضمونه.
هذا ما رمى إليه نتنياهو عندما وجد ان لا مفر من تبني مبادئ التسوية حسب الإجماع الدولي، فأعلن في خطابه الأول في "بار ايلان" قبوله بمبدأ الدولة الفلسطينية، لكنه في ذات الجملة أفرغها عبر شروطه من كل مضمون، واضطر العالم حينها ان يقبل بخدعة نتنياهو.
في "الليكود" كما في أحزاب اليمين الإسرائيلي الأخرى، أعربوا عن تحفظات واعتراضات خجولة من كسر نتنياهو لأحد أهم طابوهاتهم "لا لدولة فلسطينية غربي النهر" كونهم فهموا جوهر فلسفة ودوافع نتنياهو، باعتباره أمراً اضطرارياً لابدّ منه لتأمين سلطتهم وحماية مشروعهم.
اليوم تحول مبدأ حل الدولتين الى شعار تتبناه كل الأحزاب الإسرائيلية باستثناء حزب "البيت اليهودي" كشعار للترويج السياسي والعلاقات العامة، وأيضاً بدوافع فوبيا الديموغرافيا والدولة الواحدة، حيث يشعر كل حزب ان خياراته للحل محصورة بين خيارين: خيار الدولة الواحدة أو خيار الدولتين، في ظل حالة دولية لا تقبل بمبدأ الرفض، وفي نفس الوقت لا تطالب بترجمات للقبول وتكتفي فقط بإعلان القبول المبدئي.
منذ ان وصل باراك لرئاسة الحكومة عام 1999 فهمت كل القيادات الاسرائيلية تدريجياً ان لا مناص من القبول بمبدأ حل الدولتين، فهم ذلك شارون لاحقاً عندما اضطر للانشقاق عن "الليكود" على خلفية تصويت مؤتمر "الليكود" ضد الدولة الفلسطينية، وفهم الأمر نتنياهو في خطاب "بار ايلان"، وجميعهم تبنوا فلسفة باراك ان القبول بحل الدولتين لا يفرض عليهم التوصل حتماً لحل الدولتين، إنما يمنحهم مكانة أفضل في إدارة الصراع وكسب الوقت وتعزيز التهويد والاستيطان دونما معارضة أو رفض حقيقي من المجتمع الفلسطيني والعربي والدولي، ويوفر المزيد من الحماية للمشروع الصهيوني.
الحكومات الإسرائيلية استخدمت شعار حل الدولتين كستار دخاني للتمويه وللتغطية على حقيقة مشاريعهم الفعلية على الأرض، مشاريع تتشارك الأحزاب في مبادئها الأساسية وتختلف في مآلاتها، تتشارك في رفض عودة اللاجئين ورفض العودة لحدود 1967 وتتمسك بالقدس والكتل الاستيطانية والسيادة الاسرائيلية على المعابر والحدود والمياه؛ الأمر الذي يفرغ الدولة الفلسطينية من مكوناتها الرئيسية، وعملياً يجعل من الاستحالة بمكان قيامها لاستحالة القبول الفلسطيني بالمطروح اسرائيلياً؛ الأمر الذي يخلد عملياً مخرجات استمرار الأمر الواقع، وهو ما تخشى نتائجه بعض الأحزاب وبعض النخب الإسرائيلية، فهي إذ تشترك في كل ما ينزع صفة الدولة عن الدولة الفلسطينية، لكنها تختلف مع "الليكود" بزعامة نتنياهو في مآلات استمرار الوضع الراهن، الذي يهدد حسب تقديراتهم يهودية الدولة وينذر بالانفجار وبتسونامي سياسي دولي يعزل اسرائيل ويفرض مقاطعتها ويملي عليها ارادته.
الخيار الثالث
إذا كانت خيارات الحل المطروحة إما خيار الدولتين أو خيار الدولة الواحدة؛ فإن الأحزاب والحكومات الاسرائيلية التي تتبنى نظرياً خيار الدولتين تسير عملياً باتجاه خيار عملي ثالث تحت أجنحة خيار الدولتين، خيار ثالث متعدد ومختلف السيناريوهات بحسب اختلاف الأحزاب، لكنها جميعها نتاج رفض الإقرار الفعلي بدولة الـ 67 وعاصمتها القدس، ونتاج "عقيدة اللاحل لدي نتنياهو" حسب الكاتب انطوان شلحت، خيار ثالث يبدأ من انسحابات أحادية منسقة، وحلول مؤقتة، وأمر واقع يفضي الى نهاية حل الدولتين ويستبدله على الأقل مرحلياً بعودة الحضور الأردني تحت شعارات إدارية وإنسانية "لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
فهو إذاً الخيار الحقيقي العملي لكل الأحزاب تقريباً رغم اخفائه وعدم الافصاح عنه، ولكل مسوغاته ومبرراته، فحزب "العمل" و"المستقبل" والنخب العسكرية والسياسية التي تتفق بوقاحة ان الشريك الفلسطيني غير ناضج للحل وتعلن انها ستجرب مرة أخرى العودة للعبة المفاوضات لكنها تستدرك انه في حال فشلها بسبب التعنت الفلسطيني، فإن العالم سيقبل بحلول مؤقتة لا تقطع الطريق على حل الدولة الفلسطينية (بمعاييرهم) مستقبلاً، ومن بين أبرز البدائل المطروحة الانسحاب أحادي الجانب المنسق مع السلطة الفلسطينية.
بينما نتنياهو، المرشح الأوفر حظاً حتى اللحظة لتشكيل الحكومة القادمة، يعلن رفضه التام لأي انسحاب أحادي، سواء منسق أو غير منسق، بمسوغ ان أي انسحاب سيكون تنازلاً مجانياً للفلسطينيين، وأن أي منطقة سينسحب منها الجيش ستسيطر عليها حماس، ويستذكر نتائج الانسحاب الأحادي من غزة كدليل على خطورته.
بيد ان نتنياهو يخفي تحت مسوغاته السبب الحقيقي لرفضه الانسحابات الأحادية الجانب، والكامن في موقفة الأيديولوجي الرافض للتنازل عن "أراض إسرائيلية"، لا سيما تلك التي تتصف بالكثافة السكانية الفلسطينية، نتنياهو الذي يرفض حل الدولة الواحدة ويرفض عملياً حل الدولتين؛ بل يسعي لتقويضه نهائياً، يبني له خياراً ثالثاً على طريقته ووفق أيديولوجيته، خيار يقوم على تقديس الأمر الواقع والمزيد من كسب الوقت الذي يعني المزيد من الاستيطان ومن قدرة الواقع المتشكل على تقويض حل الدولتين باتجاه ان الفلسطينيين سيتعلمون التأقلم مع حلول واقعية تأمن لهم استمرار الحياه، فمثلما اضطرهم الواقع الاحتلالي على مدار عقود طويلة من تقديم التنازلات عن المطالبة بفلسطين الكاملة وعن المطالبة بقرار التقسيم والتنازل عن حدود الـ 48 عندما قبلوا بتبادل الأراضي؛ فلماذا يتوقفون اليوم عن التنازل؟ ولماذا لن يجبرهم واقع الاستيطان والتهويد والتغيير الديموغرافي في الضفة عن التنازل أيضاً عن دولة الـ 67؟، وهو يراهن في ذلك على الحالة العربية والفلسطينية بما تشهده من ضعف وتشرذم وانقسام وتحول اسرائيل الى جزء مهم من المنظومة الإقليمية المتشكلة على خلفية الصراعات الإقليمية المذهبية وارتدادات ربيع العرب.
أطلس للدراسات

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف