- تصنيف المقال : تقارير
- تاريخ المقال : 2020-07-03
في تطوير النظام السياسي من داخله
[■ يضم النظام السياسي الفلسطيني جسمين: منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، التي تأسست في أيار (مايو) 1964؛ والسلطة الفلسطينية التي تأسست في تشرين الأول (أكتوبر) 1993، بقرار من الدورة 12 للمجلس المركزي لمنظمة التحرير، كَلَّفت بموجبه اللجنة التنفيذية للمنظمة بتشكيل مجلس السلطة الفلسطينية في المرحلة الإنتقالية لاتفاقات أوسلو.
رأت السلطة الفلسطينية النور في تموز (يوليو) 1994، واستكملت مؤسساتها وأجهزتها في السنوات التي تلت، وهي – مبدئياً – أحد المكونات الرئيسية لمنظمة التحرير، لكنها في الواقع العملي، تقدمت عليها بدورها، ومكانتها، وصلاحياتها. ومن هنا المفارقة التي تعايشنا معها، واعتدنا عليها: المنظمة التي يُفترض أن تكون عنوان النظام السياسي بكل مكوناته، بما فيه السلطة الفلسطينية، ليست هكذا في الواقع العملي، ما جعلنا نتكلم – بتلقائية - عن جسمين يتشكل منهما نظامنا السياسي: المنظمة والسلطة، وليس عن جسم واحد هو المنظمة، بكل ما ينتمي إليه.
فيما يلي، سنتقدم بعدد من الإقتراحات لإعادة صياغة العلاقة بين المنظمة والسلطة، بما يستجيب للتطورات التي طرأت عليهما ومؤسساتهما، من جهة؛ وما يسمح بالتعاطي مع النتائج السياسية المترتبة على انتقال الإستعمار الاستيطاني إلى مرحلة الضم، من جهة أخرى:]
· أولاً- منظمة التحرير الفلسطينية
1-■ النظام السياسي الفلسطيني، فيما خص منظمة التحرير، هو نظام برلماني بحسب النظام الأساسي، فالمجلس الوطني (المستوى التشريعي) ينتخب اللجنة التنفيذية (المستوى التنفيذي)، كما ينتخب – بالصفة – رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي، عضواً في التنفيذية. اللجنة التنفيذية مجتمعة، تنتخب رئيسها، وتوزع المهام ومسئولية الدوائر على أعضائها. المجلس الوطني في دورة انعقاده العادي (مرة سنوياً) ينظر بالتقرير السنوي للجنة التنفيذية، كما – وبشكل منفصل – بالتقرير السنوي للصندوق القومي، وبالموازنة العامة للمنظمة.
2-■ في الدورة 17 للمجلس الوطني (تشرين الثاني/ نوفمبر 1984)، وبعد اجتيازها لمراحل وصيغ عدة، رسا المجلس المركزي على صيغته المعروفة، تشكيلاً واختصاصاً، وتحددت صلاحياته، لتشمل: 1- اتخاذ القرارات والمسائل التي تطرحها عليه اللجنة التنفيذية في إطار مقررات المجلس الوطني؛ 2- مناقشة وإقرار الخطط التنفيذية المقدمة إليه من اللجنة التنفيذية؛ 3- متابعة اللجنة التنفيذية لقرارات المجلس الوطني؛ 4- الإطلاع على خط سير عمل دوائر المنظمة وتقديم التوصيات اللازمة بذلك إلى اللجنة التنفيذية، ما يعني ممارسة عمل رقابي لأعمال دوائر المنظمة.
بهذا، يكون المجلس المركزي قد تحول إلى مؤسسة مستقرة من مؤسسات المنظمة، بمرجعية مكتب رئاسة المجلس الوطني في قضاياه الإجرائية والعملية، وبنظام انعقاد دوري، وبواقع دورة واحدة كل 3 شهور (لم يطبق في أي من فترات عمل المجلس المركزي)، علماً أنه، بدءً من جلسته الأولى في أيار (مايو) 1985، وحتى يومنا، أي طيلة 35 عاماً، انعقد في 30 دورة، آخرها في آب (أغسطس) 2018.
■ رغم تمتع المجلس المركزي بدور واسع في اتخاذ القرارات، وبتحديد السياسات، حيث يُحظى البيان السياسي الصادر عن اجتماعاته بقوة إلزام (كما جرى مع قرارات المجلس في دورته الـ 27، عندما حُسم الأمر بعد سجال)، فإن قرارات المجلس الوطني بقيت تشكل سقفاً له، لا يملك صلاحيات تعديلها، أو تعطيلها، أو إلغائها.
المجلس الوطني في دورته الـ 23 – 2018، أحدث تغييراً جوهرياً على المركز القانوني للمجلس المركزي، فمنحه صلاحياته في الحالات التي تستوجب ذلك، دون تحديد أو حصر لهذه الحالات، ما يعني –من الزاوية التطبيقية– أن المركزي بات يتمتع بصلاحيات الوطني، ما يشكل نقلة مهمة في النظام السياسي الفلسطيني، كونه يضع المركزي على سوية الوطني في المرجعية ومسألة اتخاذ القرار.
3-■ بالعودة إلى التأسيس (1964)، يتبيَّن أن المجلس الوطني تمتع بحيوية ملحوظة، واضطلع بدور ملموس في الملفات السياسية والقضايا الداخلية، حتى انطلاق مفاوضات واشنطن في مسارها الفلسطيني – الإسرائيلي في مطلع العام 1992، إن بانتظام انعقاد دوراته، معززة بدورات المجلس المركزي بدءً من العام 1985؛ أو بأهمية القرارات والبرامج الصادرة عنه في توجيه القيادة الفلسطينية. وإذا حصرنا الموضوع بوتيرة الإجتماعات في الفترة ما بين مطلع 1964 ونهاية 1991 (28 سنة، هي نصف عمر المنظمة من التأسيس وحتى يومنا)، نكون أمام اللوحة التالية:
أ) في فترة التأسيس الأولى 1964-1968، عقد المجلس الوطني 4 دورات (1964، 65، 66، 68)، أي بواقع دورة واحدة سنوياً كمتوسط.
ب) في الفترة الممتدة من التأسيس الثاني 1969، وحتى حرب 1982، وعلى امتداد 14 سنة، عقد المجلس الوطني 12 دورة (من الخامسة وحتى الخامسة عشرة + دورة استثنائية لم تحمل رقماً)، أي بمتوسط دورة واحدة كل سنة وشهرين.
ج) في الفترة بين الدورة 16 للمجلس الوطني (الجزائر)، وحتى انعقاد مؤتمر مدريد للسلام – 1991، عقد المجلس 5 دورات (آخرها الدورة 20 في الجزائر)، على امتداد 9 سنوات، بمتوسط دورة واحدة كل سنتين.
خلال هذه الفترة 1985-1991، عقد المجلس المركزي 10 دورات، أي بمتوسط دورة واحدة كل سنة وخمسة شهور.
■ بدءاً من مفاوضات واشنطن – 1992، مروراً بأوسلو – 1993، وإقامة السلطة الفلسطينية – 1994، وحتى يومنا – 2020، أي على امتداد النصف الثاني – 28 سنة – من عمر المنظمة، منذ أن تأسست (قبل 56 سنة)، عقد المجلس الوطني 3 دورات، أي بواقع دورة واحدة كل 9 سنوات و 4 شهور. علماً أن الدورة 22، لم تكن دورة عادية أو استثنائية، بل اندرجت ضمن ما يطلق عليه في النظام الأساسي للمنظمة تسمية «المجلس المشترك»، الذي يتشكل من عضوية رئاسة المجلس الوطني + اللجنة التنفيذية + من يتمكن من المشاركة من أعضاء المجلس الوطني. وبحث المجلس المشترك بملء الشواغر في عضوية التنفيذية الناجمة عن وفاة ثلث أعضائها.
خلال هذه الفترة (1992-2020) عقد المجلس المركزي 20 دورة، أي بمعدل دورة كل سنة وخمسة شهور، إنما بوتيرة غير منتظمة، فالدورة 28 انعقدت بعد انقضاء 3 سنوات على سابقتها، بينما انتظم المركزي في 3 دورات خلال 7 شهور من العام 2018(!)■
· ثانياً- السلطة الوطنية الفلسطينية
1-■ النظام السياسي الفلسطيني، فيما خص السلطة الوطنية، هو نظام برلماني – رئاسي مختلط، بحسب القانون الأساسي، فالمجلس التشريعي هو السلطة التشريعية المنتخبة، ومجلس الوزراء (الحكومة) هو الأداة التنفيذية والإدارية العليا التي تضطلع بمسؤولية وضع البرنامج الذي تقره السلطة التشريعية موضع التنفيذ، وفيما عدا ما لرئيس السلطة الوطنية، المنتخب من الشعب، من اختصاصات تنفيذية يحددها القانون الأساسي، تكون الصلاحيات التنفيذية والإدارية من اختصاص مجلس الوزراء.
■ في هذا السياق، وتأكيداً على صيغة النظام البرلماني – الرئاسي المختلط، نشير – كمثال عن آلية عمل هذه الصيغة – إلى موضوعي التشريع والحكومة، لأهميتهما:
· في التشريع ثمة علاقة تبادلية بين المجلس التشريعي ورئيس السلطة، لكن الكلمة الفصل تعود إلى التشريعي. في هذا الإطار يصدر رئيس السلطة القوانين بعد إقرارها من التشريعي، وله أن يردها، غير أن التشريعي يقرها بثلثي أعضائه في المرة الثانية. وللرئيس أن يصدر قرارات لها قوة القانون في غير أدوار انعقاد المجلس، على أن تُعرض على التشريعي في أول جلسة تعقد بعد صدور هذه القرارات، وإذا لم يقرها المجلس زال ما كان لها من قوة القانون.
· في موضوع الحكومة، يختار رئيس السلطة رئيس الوزراء، ويكلفه تشكيل الحكومة، وله أن يقيله ويقبل استقالته، ولكن إذا فشل رئيس الحكومة في الحصول على ثقة المجلس التشريعي وجب على رئيس السلطة استبداله بآخر. من جهة ثانية، فإن رئيس الحكومة مسئول أمام رئيس السلطة عن أعماله وعن أعمال حكومته، ولكن رئيس الحكومة وأعضاء حكومته مسؤولون مسئولية فردية وتضامنية أمام المجلس التشريعي، الذي يتمتع أيضاً بصلاحية إقرار الموازنة، والتصويت على الحساب الختامي لميزانية السلطة■
ثالثاً- تحويل المجلس المركزي إلى برلمان
1-■ تقوم هيكلية منظمة التحرير على جسمين تشريعيين، باتا بعد الدورة 23 للمجلس الوطني، يتمتعان –عملياً- بنفس الصلاحيات في اتخاذ القرارات، وفي مجال التشريع: الوطني + المركزي، تنبثق عن الجسم الأول، لكن أيضاً عن الثاني – إذا اقتضى الأمر – هيئة تنفيذية عليا: اللجنة التنفيذية. وبدوره، فإن المجلس المركزي، باتخاذه قرار إنشاء السلطة الوطنية، بات، إلى جانب المجلس الوطني، يُشكل مرجعية السلطة بمستوييها التشريعي (المجلس التشريعي)، والتنفيذي (رئاسة السلطة + الحكومة).
■ غير أن هذه الترسيمة، فيما خص موقع المجلس الوطني في النظام السياسي، ودوره في المراجعة والتقييم ورسم السياسات..، منذ أن بدأت تطبيقات أوسلو قبل ما يقارب ثلاثة عقود، هي ترسيمة نظرية، لم تنطبق على دورتين من أصل ثلاث عقدها المجلس الوطني منذ ذلك الحين، فالدورتان لم تنعقدا من أجل مراجعة السياسة العامة وتقييمها ورسم توجهات المرحلة المقبلة، بل جاءتا للوفاء بالتزامات مقطوعة مسبقاً، أو فرضت نفسها بالأمر الواقع، وحده المجلس الوطني يملك صلاحيات البت بها. هذا ما ينطبق حرفياً على الدورة 21-1996، التي التأمت للمصادقة على اتفاقات أوسلو + تعديل الميثاق الوطني؛ كما ينطبق حرفياً على «المجلس المشترك» المنعقد بوظيفة ملء الشواغر في عضوية التنفيذية، التي بدونها تفقد شرعيتها، والذي أُلصقت به لاحقاً، تسمية الدورة 22 للمجلس الوطني.
■ أما الدورة 23، فقد تميَّزت عن سابقتيها، مستعيدة تقاليد العمل التي سادت المجلس الوطني قبل مرحلة أوسلو، حيث جمعت الدورة 23 ما بين السياسي بالقرارات المهمة الصادرة عنها، سيما في موضوع الإنفكاك عن أوسلو؛ وبين التنظيمي بانتخاب اللجنة التنفيذية + الأعضاء المستقلين في المجلس المركزي + القرار بختامية الدورة 23 لدورات المجلس الوطني بصيغته الحالية، بعد أن تجاوز مدة ولايته القانونية منذ فترة طويلة؛ والدستوري، بمنح المركزي صلاحيات الوطني، تحسباً لنشوء ظرف يستدعي اتخاذ قرارات تتجاوز صلاحيات التنفيذية، فيضحى الإحتكام إلى المركزي هو الحل، إذا ما تمتع بالصلاحيات اللازمة. وهذا ما حصل.
2-■ ما تقدم يضعنا أمام المشهد التالي: بعد أن تحوَّلت السلطة الفلسطينية منذ انقلاب 14/6/2007 الذي عطَّل أعمال التشريعي، إلى نظام رئاسي يُدار بالمراسيم، ونقل مركز ثقل النظام السياسي من البرلماني- الرئاسي المختلط، إلى مؤسسة الرئاسة التي باتت تستتبع الحكومة بشكل كامل، فضلاً عن اللجنة التنفيذية؛ وفي ظل غياب المجلس الوطني الذي «اسْتُقيل» من دوره، فأحال صلاحياته إلى المجلس المركزي، الذي بات الوحيد القادر على لعب دور المرجعية العليا للمستوى التنفيذي المتمثل باللجنة التنفيذية + حكومة السلطة (بعد إلغاء الفصل بين رئاستي السلطة والحكومة الذي اقترحناه فيما سبق).
غير أن هذا لا يمكن أن يحصل – على افتراض توفر الإرادة السياسية على مستوى مركز القرار – إلا بالتوازي مع إحداث تطوير عميق على أوضاع المركزي، يتمثل باعتماد نظام عمل آخر، وتحديد صلاحيات تلتقي وتلك العائدة إلى أي جسم برلماني جدير بهذه التسمية، في رسم الخط السياسي العام، وفي مجال التشريع، والمتابعة، والمحاسبة إن اقتضى الأمر للمستوى التنفيذي بشقيه: التنفيذية + حكومة السلطة.
■ تحويل المركزي إلى برلمان ومرجعية عليا، في نظام سياسي يستعيد شكله البرلماني ويعيد تفعيله، يستدعي صياغة جديدة لدور اللجنة التنفيذية وتشكيلها، كسلطة تنفيذية عليا مسئولة أمام المركزي (كونه يقوم مقام المجلس الوطني حتى إشعار آخر) عن متابعة الوضع الفلسطيني بكل قضاياه، وعن منظمة التحرير بجميع مؤسساتها، وبكل مكوناتها، بما فيه السلطة الفلسطينية. كما أن تحويل المركزي إلى برلمان من حيث الدور والصلاحيات التي يمارسها عملياً، يقتضي إعادة تشكيله بوجهة التمثيل الشامل للحالة الفلسطينية، سياسياً وجغرافياً، مع كل ما يستتبعه ذلك من تطوير لأساليب العمل وآلياته.
■ هذه النقلة النوعية في هندسة النظام السياسي، وتعزيز صلاحيات مؤسساته، ورفع سوية العلاقات والتفاعل فيما بينها، يقوم على الإبقاء على الهيكل القيادي المعمول به، مع تبسيطه (والتبسيط ميزة في هذا السياق، وليس مثلبة)، واختصار المسافة الفاصلة بين مكونات قمة الهرم، وبين القمة والمستويات الوسيطة، وتوسيع صلاحيات الهيئات القائمة، الخ.. وسوف يترتب على هذه النقلة فتح ورشة عمل واسعة، لإنجاز مفرداتها، هي إلى إعادة البناء أقرب.
ويبقى أن يُقال، إن المقترح المقدم هو أسهل المتاح لتفعيل الوضع القيادي، مع الحفاظ على وحدته وتماسكه، لأن خلاف ذلك يضعنا أمام إحتمالين: إما إبقاء الأمور على ما هي عليه، مع بعض الإجراءات التحسينية التي تحاذر المساس بجوهر المعادلة المتحكمة بالنظام السياسي، وهذه وصفة مؤكدة لاستمرار وتسارع حال التآكل في المؤسسة الفلسطينية؛ أو الإقدام على تبني صيغ غير مدروسة بعد بالقدر المطلوب، على غرار تشكيل «مجلس تأسيسي» للدولة الفلسطينية، أو غيرها من الإقتراحات التي لم ينعقد الشرط بعد للأخذ بها، وهي – في كل الأحوال – لا تقدم حلولاً سريعة وواقعية لتطورات سياسية متسارعة، سوف تتفاقم سلبياتها علينا، ما لم نسارع إلى قطع الطريق عليها، بالتدبير الدستوري التنظيمي المناسب■
حزيران (يونيو) 2020