عندما خُيًر عمران، الماركسي الصلب والموقن بالحل الاشتراكي، في ما ان كان يفضل استكمال دارسته الجامعية في المانيا الاشتراكية ام فرنسا اختار فرنسا. ولما سأله مسؤول البعثات الجامعية عن السبب في الاختيار كان جوابه «لأنني اعشق منظر الغروب» ... واستطرد بأنه يشتهي رؤية غروب الرأسمالية بأم عينيه في احد اهم قلاعها! نلتقي عمران رواية «ابنة سوسلوف» الممتعة والمحيرة معاً: رواية عدن سبعينيات وثمانينات القرن الماضي. عدن التي يزدهر لينين وماركس و... سوسلوف، وفيها الجميع يبنون اليمن الديموقراطي الاشتراكي (الجنوبي)، ويحلمون بحرق المراحل. عدن التي تباهت بتقدميتها ليس فقط على رجعية اليمن الشمالي بل ورجعية العالم العربي بأسره. اليمن الجنوبي، كما يرسمه الروائي والمثقف اليمني حبيب عبد الرب السروري في هذه السردية، كان محلقا بأجنحة الوعد الاشتراكي الحتمي المنبعث من انقاض الإنهيار الحتمي للرأسمالية. ليس ثمة حدود للحلم ولا ليقين الانتصار الثوري القادم. لا تردد ولا مساومة فيما سيأتي به المستقبل. ثورية اليمن الجنوبي، والتي حفلت بها «المدرسة العليا للعلوم الماركسية» في عدن، في تلقينها للشبيبة الثورية الطالعة، فيها انجاز مركب، ذاك انها ستقود اليمن من الإقطاع الى الاشتراكية من دون المرور بحقبة الرأسمالية (بحسب حتميات المراحل الماركسية الكلاسيكية). الرأسمالية في انهيار وافول اصلا فلماذا المرور بها لتسريع الهبوط في جنة الاشتراكية.
سالم، رئيس «المدرسة العليا للعلوم الماركسية» هو احد اصلب المنظرين الايديولوجيين، وصار يلقب بـ «سوسلوف» تيمنا بأحد اهم منظري الماركسية اللينية في عقر دارها. نشاط سوسلوف اليمني دؤوب، وذكاؤه لامع، وخطابته مبهرة. إنه النموذج الجديد للجيل الثوري المندفع والمعبأ. درس في الاتحاد السوفياتي وعاد منظرا عميقا في الافكار الاشتراكية، وفي المُتع النسوية ايضا، وفي عدن طبق النوعين من التنظيرات! زوجته وابنته ايضا تندرجان في الصورة الزاهية لمشروع اليمن الجديد، وبطلنا عمران يقع في حب الابنة باهرة الجمال، فاتن، لكن بصمت متبادل بين الإثنين تنوب عن الكلام فيه نظرات عيون حارقة.
من ذورة التشاوف الايديولوجي يهوي سوسلوف ومعه عدن ومعهما فاتن وحلم النهوض الاجتماعي، لنصل مع هؤلاء جميعاً عشية انتفاضة اليمن ضد علي عبدالله صالح، وقد تحول هواء اليمن ومزاجها وانقلب منجلاً على مصحف. سوسلوف صار اصولياً، وابنته الفاتنة فاتن صارت داعية نشطة منقبة ولا تصافح الرجال. عمران الذي غادر للدارسة في فرنسا ولمراقبة الانهيار الرأسمالي عن كثب استمرأ باريس وبقي فيها عقودا. عندما عاد الى اليمن حاصرته المرارات من كل جانب. تحولت اليمن من عنفوان التطرف الماركسي إلى عنفوان التطرف الاصولي، من سوسلوف إلى الشيخ الزنداني. في الحالتين ظلت القبيلة هي القاسم المتحرك الاكبر.
في عدن الامس احتوت استمارة الانتماء الحزبي على سؤالين يجب الاجابة عليها من قبل كل عضو جديد: «الانتماء الطبقي» و»الانحدار الطبقي»، الاول يخص العضو والثاني يخص عائلته. عمران اجاب على الاول ب «طالب» وتبع ذلك بقوسين كتب بينهما «برجوازي صغير»، ثم احتار في السؤال الثاني لأن والده يملك مطعما شعبيا بسيطا وربما يكون من «الطبقة العاملة» او «البرجوازية الصغيرة». إن انطبق على والده الوصف الاول فإن ذلك يضعه على سلم الترقي الحزبي، اما ان وقع عليه الوصف الثاني فلسوف يفقد حظوظه بسبب الشك العميق الذي يحيط بكل ما هو برجوازي، صغير ام كبير. يقرر الحزب ان يشكل لجنة تذهب الى مطعم والد عمران لتحصي عدد ملاعق المطعم، فإن تجاوزت رقما محددا يصنف المطعم وصاحبه بالبرجوازية الصغيرة، وإن لم يتجاوز ذلك الرقم فمعنى ذلك ان انتماءه يكون اقرب الى «الطبقة العاملة». صنف المطعم ومعه والد الرفيق عمران ب « البرجوازي الصغير» ومع ذلك التصنيف انتهت آمال عمران بترقي السلم الحزبي، وظل في فرنسا ينتظر الانهيار المحتوم للرأسمالية.
في صنعاء اليوم استمارات الانتماء الحزبي استنسخت ما كان في عدن الامس. تغيرت اللغة والخطاب ونوعية الهوس وحسب. هنا تتصادم الاصوليات بكل انواعها وتتنافس في إراقة الدم الاكثر: القاعدية والسلفية والحوثية والشيعية. كل منها يتأبط استمارات الولاء والانتماء الطائفي والحزبي المتنافس في الضيق وتضييق ما هو ضيق.
لم تصمد التجربة الاشتراكية في اليمن الجنوبي الذي تقاتل ماركسيوه فيما بينهم وخاضوا حروبا طاحنة ارتد كل فرقائها الى اصولهم القبلية والجهوية واستعانوا بها ضد بعضهم البعض. كانت البنية القبلية والدينية والمناطقية (ولا تزال) اقوى بكثير من فاعلية اية ايديولوجيا. في الحقيقة نعثر على «بشائر» هذا المصير في الصفحات الاولى من الرواية وبشكل غير مباشر، وكأنها تؤشر إلى النتيجة المأساوية للمغامرة الماركسية في جنوب جزيرة العرب. نقرأ في بدايات الرواية كيف ان الشعارات الثورية والاشتراكية في اوائل «الوعي الثوري الماركسي في اليمن» كانت قد نُحتت على انغام والحان صوفية وشعبية سابقة، ولم تبتكر الحانها الخاصة. لقد تسلل الموروث العميق بقوة واحتل موقعا جينيا في الوارد الحديث. لم يكن ذلك اللحن الصوفي القديم سوى الترميز السرطاني لكل ما هو قديم إذ يقبع في خلفية الصورة الثورية والاشتراكية، ويظل يأكل من لحمها الحي حتى ينهيها مع الحرب الاهلية بين الرفاق، ثم انهيار التجربة كليا.
يستخدم حبيب السروري تقنيتين كرافعة للسرد. الاولى هي الاستعانة بمنصة شبه جديدة وآلية (قد تكون اشكالية) لسرد قصته، وهي نسبة جزء كبير من السرد إلى نصوص يكتبها على صفحته في الفيسبوك، او يقرأها من نصوص آخرين عاصروا ذات الاحداث. توفر التعليقات التي يتركها المؤلف على الفيسبوك ثم الحوارات او الردود عليها تسويغاً مُبطنا للإطالة في المُقاربة المباشرة التي لن تكون مقبولة لو جاءت على لسان الراوي، سواء أكان «عليماً» ام واحدا من شخوص الرواية. أما الثانية، وهي الاكثر اثارة وجدلا ربما، لكنها ذات دلالة مأساوية، فهي توجيه السرد إلى مُخاطب واحد هو ملاك الموت، عزرائيل، وإدارة حوار متخيل معه. ماتت الاشتراكية وبُعثت السلفية في اليمن وفي لحظة الموت تلك دخل «هادم الملذات ومفرق الجماعات»، وبدأ الراوي يقول ما يقول متخيلا ان ذلك الملاك اعطاه فرصة ليشرح لها ما مر فيه من تجارب خلال حياته.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف