فيصل علوش
تخشى بروكسيل من أن يؤدي الصدام مع «سيريزا» إلى تقوية جبهة معارضي القرار الأوروبي المركزي والعملة الموحدّة، من اليسار واليمين على حدّ سواء
تعهّد حزب «سيريزا» اليساري في اليونان،بقيادة السياسي الشاب أليكسيس تسيبراس (40 عاماً)، بإنهاء سياسة التقشف التي تسبّبت في «تهالك مؤسسات الدولة وإرباك ميزانياتها»، وذلك بعد صعوده إلى قمة السلطة، إثر فوزه الذي فاق التوقعات في الانتخابات (25/1)، تحت برنامج «رفض التقشف وشروط الدائنين الدوليين»، وإعطاء الأولوية لمعالجة الوضع الاقتصادي المتردّي لبلد يعيش أزمة بطالة خانقة.
وقد حصل «سيريزا» (وهو تكتل مكوّن من عدة أحزاب ومنظمات يسارية راديكالية)، على 36,3 % من الأصوات (149 مقعدًا من أصل 300)، في حين حصل حزب «الديموقراطية الجديدة»، الذي كان يقود الحكومة السابقة، المؤيدة لشروط الإنقاذ المالي الأوروبي (التقشف)، على 27,8 % من الأصوات (76 مقعدًا). وجاء في المركز الثالث حزب «الفجر الذهبي» (النازيون الجدد) بحصوله على 17 مقعدًا، تاركاً «الحزب الشيوعي» (التقليدي) خلفه بـ 15 مقعداً. وقد سخِر الأخير من انتصار «سيريزا»، معتبراً أنّه «يبيع المواطنين أوهاماً كبيرة، لن يكون قادراً على الإيفاء بها».
وكان «سيريزا» بحاجة إلى مقعدين آخرين فقط، ليحكم اليونان وحده. وقد اختار التحالف مع حزب «اليونانيون المستقلون» (يمين الوسط)، الذي فاز بـ13 مقعدًا، نظراً لاتفاقه معه على «أولوية رفض التقشف وشروط الإنقاذ»، على رغم اختلافهما على قضايا أخرى. وسيمكنّه هذا التحالف من موقف تفاوضي قوي مع بروكسيل وبرلين، حيال شروط الدائنين (الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي).
قضية شطب الديون
وقد تقرر إسناد حقيبة المالية في الحكومة اليسارية الجديدة، التي قُلّصت إلى 19 حقيبة فقط، إلى الأكاديمي يانيس فاروفاكيس، ليقود المفاوضات مع الدائنين الدوليين وفقاً لشروط جديدة للخروج من الأزمة المالية التي تعيشها اليونان منذ سنوات،في وقت لوّحت فيه أوروبا بعدم استعدادها لشطب ديون البلاد، ووعدت فقطبـ«إمكان إبرام تسويات، لا تغيّر من الترتيبات القائمة بشكل جوهري، وتقتضي مواصلة الإصلاحات التي باشرت بها أثينا».
وفي الوقت الذي قالت فيه قيادة «سيريزا» بأنها «لا تريد مبارزات» مع وأوروبا، بل تسعى إلى «علاقة جديدة تُبنى على الثقة والصدق»، إلا أنها شدّدت في المقابل على «استحالة تسديد الدين، وضخ استثمارات يحتاجها الاقتصاد للتعافي»، في الوقت عينه، بعدما بلغت نسبة الديون 175 % من الناتج الإجمالي. كما طالبت النخبة الأوروبية باحترام الديموقراطية وإرادة الشعب اليوناني، ورأت أن المطالبة بتسديد «جبل الديون» الموضوع على أكتاف الشعب اليوناني، «سيجعل نمو الاقتصاد أمرًا مستحيلاً».
وتمثل قضية شطب الديون مسألة بالغة الحساسية، وخصوصاً بالنسبة لبرلين، كما لمجمل حكومات اليورو التي تملك 60 % من ديون اليونان المقدّرة بحوالي 319 مليار يورو. في حين يملك صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي 16 % من هذه الديون، ويؤكدان أنه «من المستحيل، من الناحية القانونية»، أن يشطبا أي جزء من حصتهم.
وفي محاولة منها للضغط على «سيريزا»، تحدّثت برلين عن أن احتمال خروج اليونان من اليورو لا يزال واردًا، في حين ردّ الحزب اليساري بأنه «يريد البقاء في اليورو، وأن إخراج اليونان من هذا التكتل سيعني انهيارًا كاملاً له».
وحسب العديد من الخبراء، فإن مكمن الخطورة في هذه القضية هو في حال «تصلب وتمسّك كل طرف بموقفه»، حيث سيفضي ذلك، كتحصيل حاصل، إلى انسحاب اليونان من الاتحاد الأوروبي، بهدف «التملص من سداد ديونها»،في وقت لا زالت تعتمد فيه على المساعدات الخارجية لتسيير شؤونها المالية، فأثينا تعيش منذ العام 2010 بفضل مساعدات الدائنين الدوليين الذين تعهدوا بإقراضها 240 بليون يورو لقاء تبنّيها سياسة تقشف بالغة الصرامة. والخلاف في هذا الشأن أدى سريعاً إلى هبوط كبير في مؤشرات البورصة اليونانية وتراجعها بنحو 10 %. كما هدّدت وكالة التصنيف الائتماني «ستاندرد أند بورز» بخفض تصنيف اليونان «ب» من «مستقر» إلى «سلبي». والسؤال الذي بات يطرحه الخبراء هو؛ «إلى متى ستصمد اليونان على صعيد ماليتها، وهل ستكون قادرة في نهاية آذار (مارس) على دفع رواتب موظفي الدولة»؟.
الخيارات الصعبة
أمّا بالنسبة لعاصمة الاتحاد بروكسيل، فإنها تخشى من أن يؤدي الصدام مع «سيريزا»، وترك الخلافات تنفجر بينهما، إلى تقوية جبهة معارضي القرار الأوروبي المركزي والعملة الموحدّة، من اليسار واليمين على حدّ سواء، في عدد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها. وعلى ذلك، فهي تجد نفسها محشورة بين خيارين أحلاهما مرّ؛ إما المواجهة وما تحمله من عواقب على صعيد منطقة اليورو، كما أشرنا آنفاً، وإما تقديم تنازلات يصعب على بعض الدول، مثل ألمانيا، القبول بها!.
وكان عدد من البلدان الأوروبية تفاعل مع انتخابات اليونان كما لو أنها حدثٌ محلي، وفي مقدّمها إسبانيا التي تشهد صعود حزب شقيق لـ «سيريزا» يَعِدُ أيضًا بالتغيير. لذلك، كان صُنَّاع القرار الأوروبي في بروكسل يراقبون صعود «سيريزا» وزعيمه تسيبراس بفضول وقلق شديدين!. وقد حملت مهرجانات الاحتفال بالنصر في شوارع أثينا، شعارات العداء الواضح لسياسات برلين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي يُنظر إليها، كمهندسة لـ «كارثة إنسانية» تتجلى في بطالة تفوق الـ 27 %، وتتجاوز 50 % لدى الشباب.
وعلى رغم أن حكومة ميركل تجنبت التصريحات الصدامية، إلا أنها اعتبرت أن «شطب ديون اليونان، التي تملك قسمًا معتبرًا منها، يعتبر خطاً أحمر». وقد خيّم هذا «الخط الأحمر» الألماني على اجتماع وزراء مالية منطقة اليورو الذي أعقب الانتخابات اليونانية، ورأى البعض أنه كان له مفعول «السحر» على صانعي القرار الذين يقعون في دائرة نفوذ برلين المباشر!.
تسيبراس ذكّر ميركل بأن دولتها سبق لها واستفادت من إلغاء الجزء الأكبر من ديونها في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتتعافى من آثار الدمار والانهيار، ولا مبرر بالتالي لتشدّدها في رفض سياسات حزبه المناهضة للتقشف والمطالبة بشطب جزء كبير من الديون، والبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو في الوقت ذاته؟!.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف