- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-04-27
يتصدر مخيم اليرموك الحدث مجددا مع تطورات تستعيد ذاكرة النكبة. كانت لهذا المخيم الملاصق لدمشق مكانته المحورية التي أكسبته صفة "عاصمة اللجوء"، بما يعني أن مأساته الراهنة ستبقى غائرة الأثر في خبرات اللاجئين الفلسطينيين، لكنها تفرض مراجعة الإستراتيجيات الفلسطينية أيضا.
نكبة فلسطينيي سوريا
ظل اللجوء الفلسطيني في سوريا حتى سنوات قليلة مضت أفضل حالا مقارنة مع الأوضاع في بلدان عربية، منها لبنان مثلا. فقد حظي الذين شردتهم نكبة 1948 إلى سوريا وتضاعفت أعدادهم لتناهز ستمائة ألف، بشروط حياة أفضل نسبيا مما وجده أقرانهم في دول أخرى في المحيط، حتى ساد الانطباع بأنهم يتمتعون بالامتيازات ذاتها المتاحة للسوريين أنفسهم ضمن سقف الحقوق السياسية والمدنية القائم.
وبغض النظر عن تجاذبات العلاقة عبر المراحل بين الحكم السوري والأطراف الفلسطينية، فقد حافظت تجمعات الفلسطينيين داخل سوريا على استقرارها، وشكل مخيم اليرموك مع الوقت حالة اندماج نسبية مع التوسع الحضري الجنوبي لدمشق بنسيجها الديمغرافي، دون أن يعني ذلك أن المواصفات كانت مثالية في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في أنحاء البلد.
كان لهذا التداخل الفلسطيني مع النسيج السوري العام ثمنه عندما تعذر عزل المخيمات عن سياق الواقع الملتهب بدءا من سنة 2011. تحول مخيم اليرموك إلى مأوى إنساني للنزوح السوري، ثم وجد المخيم ذاته مع الوقت على خطوط التماس في منطقة حساسة جنوب العاصمة.
تدحرجت الأوضاع من حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فبلغت ذروتها مع حصار اليرموك وتجويع سكانه على النحو الذي فاق التصور. ذاع الحديث عن "نكبة اليرموك"، في إقرار ضمني بأن النكبة ما زالت تتواصل، وأن إطارها الزماني يتجاوز وقائع سنة 1948، بينما يتخطى إطارها المكاني حدود فلسطين.
برهنت العواصف التي اجتاحت المخيمات في سوريا على أن الوضعية المؤقتة التي أنتجتها النكبة في تجمعات اللاجئين لا يمكن أن تؤول إلى استقرار مضمون. كما اتضح أن تجمعات اللاجئين، بل العديد من بؤر الشتات الفلسطيني، تبقى هشة وقد تعصف بها تطورات أو تلاعبات يصعب تخمينها.
عواصف في ذاكرة اللجوء
تستحضر الذاكرة الجمعية الفلسطينية مسارا ممتدا من وقائع إعادة التهجير التي ألمت بتجمعات الفلسطينيين في الخارج. تختزن ذاكرة اللجوء مواسم المحنة في لبنان، التي أفنت مخيمات عدة عبر عقود ثلاثة، مثل تل الزعتر وصبرا ونهر البارد، دون أن تنجو المخيمات الباقية من فصول المذابح والهجمات والتدمير والحصار.
وجاء الغزو العراقي للكويت سنة 1990 وخيم العاقبة على قرابة نصف مليون فلسطيني استقروا عقودا في دولة تميزت بتطور حالة شعبية فلسطينية بين أكنافها إلى حد نشوء فصائل فاعلة انطلاقا منها. تشرد فلسطينيو الكويت بين عشية وضحاها، وكانوا الحلقة الأضعف بالمقارنة مع المكونات السكانية الأخرى، فتلاشت تجمعاتهم في شمال غرب الخليج إلى غير رجعة.
ثم اكتشف الفلسطينيون بعد سنوات قليلة من ذلك أن بلدا فسيحا مثل ليبيا قد ضاق بهم ذرعا، فدفعت بهم مغامرات العقيد القذافي إلى الصحراء عند الحدود المصرية. أوحت القيادة الليبية وقتها أنها تريد بخطوتها تلك إظهار عجز اتفاقيات أوسلو عن استيعاب المشردين.
ثم أدت التفاعلات التي أعقبت احتلال العراق سنة 2003 إلى تفكيك التجمعات الفلسطينية هناك، التي تعود في بواكير نشأتها إلى زمن النكبة. تحولت مساكن الفلسطينيين المتواضعة في بغداد إلى وجهة لتفريغ إحباطات المجتمع العراقي في زمن الاحتراب الطائفي، وإلى عنوان رمزي لتصفية حسابات متأخرة مع النظام السابق. وبتأثير ضربات قاسية تلقوها، هام فلسطينيو العراق على وجوههم في الصحراء، فنصبوا خيامهم بمحاذاة سوريا والأردن في ظروف بالغة البؤس في انتظار منافيهم في أسكندنافيا وأميركا اللاتينية بعد إيصاد الحدود العربية في وجوههم.
أما في مصر التي لجأ إليها خلال موسم الديمقراطية القصير فلسطينيون نضحت بهم بلدان عربية، فقد انتهى الحال فيها إلى مطاردات ضارية للفلسطينيين وافتعال القضايا بحقهم في ظل أجواء تحريضية جارفة.
أكدت متوالية التهجير هذه أن سِفْر الخروج الفلسطيني لم تَنقضِ صفحاته بعد، فاللاجئ الفلسطيني ما زال يحمل متاعه باحثا عن مأوى في أقاصي الأرض.
اليرموك يقرع النواقيس
تقرع مأساة اليرموك النواقيس وتثير الهواجس الكامنة في تجمعات اللاجئين الفلسطينيين، ليس في سوريا وحدها وحسب، بل في بلدان الطوق المحيطة بفلسطين جميعا. وعندما يقع اليرموك في بؤرة الضوء، فلا ينبغي لذلك أن يواري الواقع في مخيمات متناثرة من درعا جنوبا حتى حندرات في الشمال السوري، إذ تختزن تجارب مأساوية وتشهد صنوفا من التهجير أو النزوح أو الحصار. يعني هذا أن الوجود الفلسطيني العريض في سوريا آئل إلى التفكيك والبعثرة في الجغرافيا، ضمن ملابسات حافلة بالترويع والمآسي التي تذوب في بحر المأساة السورية.
إنها المعادلة الهشة التي أنتجتها نكبة 1948، مع واقع غير آمن لتجمعات اللاجئين على مقربة من وطنهم. وكما يتضح اليوم من خلال المأساة الفلسطينية في سوريا، فإن تجمعات اللجوء وبؤر الشتات هي المكون الأضعف في المعادلات المحلية، بما جعلها عرضة للاهتزاز أو الاستهداف أو التلاعبات. فلا يبدو مفهوما حتى اليوم مثلا، أن يؤدي تسلل مجموعة مسلحة سنة 2007 إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، إلى تدمير شامل للمخيم وتشريد ثلاثين ألفا من اللاجئين.
ومع الافتقار إلى شروط التأمين الإستراتيجي، تتكبد التجمعات الفلسطينية أعباء مضاعفة في موسم الاضطرابات العربية، في زمن تتفكك فيه الدول وتتشظى فيه المجتمعات وتنزوي فيه القصة الفلسطينية إلى الصفحات الداخلية.
وأسوة بالحال مع تجارب سابقة عصفت بتجمعات اللجوء والشتات، فإن الغائب في ما يجري هو "إستراتيجية اليرموك الفلسطينية"، التي يُفترض أن تسعى لدرء المخاطر عن المخيمات، واحتواء الأضرار الناشئة، والتعامل مع مضاعفات التهجير المتواصل.
فبعيدا عن البلاغات الإعلامية والمواقف الاستعراضية ووفرة المعربين عن القلق، يجري تفكيك وجود فلسطيني عريض استقر في بلد عربي محاذٍ لفلسطين مدة ثلثي قرن، دون أن تستنفر الساحة الفلسطينية قواها وتجمع كلمتها على خيارات محددة. تتفرق المواقف وتتعارض الروايات وتتبعثر الجهود، ولا تنهض إستراتيجية جامعة إزاء مأساة فلسطينيي سوريا.
من يسعى لتشخيص المعضلة لا يسعه أن يتجاهل غياب الإرادة السياسية لدى الجهات الرسمية الفلسطينية وتعطيلها المؤسسات الوطنية الجامعة حتى إشعار آخر. هي معضلة ظلت ملموسة في مواسم العدوان على غزة أيضا، وفي مواجهة الهجمة الصامتة على القدس، وفي الرد على الاستيطان والجدار، وحتى في مقارعة تطرف القيادة الإسرائيلية.
ما قد يلفت الانتباه أن مأساة فلسطينيي سوريا تتواصل، بينما يستمر التصفيق لدولة فلسطينية تعجز عن حماية مواطنيها أو توفير مأوى لهم أو نسج شبكة أمان للنازحين. كشفت مجريات اليرموك مجددا أن حصد الاعترافات الدولية يجري لصالح كيان رمزي لم ينهض على أرض الواقع بعد، وأن رعاياه لا يجدون له عنوانا يستقبلهم أو سقفا يستظلون به، ولا حتى من ينتشلهم من قعر المتوسط أحيانا.
لكن الأزمة تتخذ أبعادا أعمق من مسألة الدولة، باستبعاد اللاجئين والمخيمات وبؤر الشتات من أولويات المشروع الرسمي. منحت الرسمية الفلسطينية بخطابها عبر مراحل التسوية، الانطباع بأن منطقها مع ملف اللاجئين هو أنه مسألة أعباء ديموغرافية بحاجة إلى تصريف عبر البلدان، وليس قضية شعب يطالب بحقه في العودة إلى أرضه ودياره.
اليرموك وضرورات المراجعة
تفرض مأساة اليرموك أولوية مراجعة المنطق السياسي الفلسطيني ليعبر عن واقع القضية وشعبها. ومما ينبغي تأكيده أيضا أن أي مسعى لحل قضية فلسطين لن ينجح إذا تجاوز ملف اللاجئين، ولن يكون حل القضية عادلا أو ممكنا بتجاوز حق العودة.
لا يُعقل أن يظل الموقف الفلسطيني مكتوفا إزاء مسار تفكيك المخيمات، فلا أقل من اجتراح أداء فلسطيني مغاير، وتطوير خطاب مسموع عالميا يربط المآسي الجارية بمنشأ قضية اللاجئين، ويقود حملة ضغوط على هذا الأساس مشفوعة بتحركات عملية. إذ لا تقتصر النكبة على تهجير الفلسطيني من أرضه وداره، بل تشمل أيضا منعه من العودة إليهما.
فالنكبة واقع مستمر يفرض على اللاجئ خوض مغامرات البحث عن وجهات جديدة عبر العالم، وركوب المخاطر التي أغرقت مئات الفلسطينيين في أعماق المتوسط في شهور معدودة، وما كان ذلك في الأساس إلا من مضاعفات حرمانهم من حقهم في العودة إلى أرضهم وديارهم. فما ينبغي أن يُقال للعالم أيضا إن الفلسطيني يُحرَم العودة إلى مدينته أو قريته التي لا تبعد عنه أكثر من نصف ساعة برا، بينما يُرغَم على اجتياز القارات في ظروف بائسة بحثا عن مأوى.
لا غنى عن وضع مأساة اليرموك وقضية اللجوء الفلسطيني في سياق القضية العام، واعتبارها عاملا ضاغطا على الأطراف كافة يملي عليها البحث عن مسالك لاستيعاب الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم أو قريبا منها مؤقتا، دون أن يكون ذلك على حساب أي من الحقوق الفلسطينية الثابتة.
يجدُر بتطورات اليرموك أن تعيد قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى مربعها الأول، وأن تكشف عن تفاعلات متواصلة للنكبة في عقدها السابع. فلا ينبغي النظر إلى الفصول التي تعاقبت على تجمعات اللاجئين وبؤر الشتات بصفة معزولة عن سياقها، فهي حلقات مترابطة في سلسلة النكبة الممتدة، وهو منظور واقعي يعين على تقدير المآلات أيضا.
لا يمكن اختزال النكبة الفلسطينية في واقعة الاقتلاع التي تمت سنة 1948، فقد أسست هذه المأساة لمحنة اللجوء الفلسطيني المتواصلة وما زالت شواهدها حية في النطاق الجغرافي المحيط بفلسطين. وما لم تُعالَج القضية الجوهرية فسيبقى شعب فلسطين يكابد فصولا متلاحقة من المآسي عقودا قادمة.
مفتاح العودة
قد ينجح المُنهَكون في الوصول إلى بر آمن، فينشغلون ابتداء بمأوى يلوذون به، لكنهم لا يسدلون الستار على قضيتهم، بل يرفعون مفتاح العودة مجددا من المنافي القاصية ويعلنون تمسكهم بفلسطين.
تنتصب تجربة اللجوء الفلسطيني إلى أوروبا برهانا على ذلك، فمحطات التهجير المتعاقبة لم تفلح في طي صفحة القضية في وعي ثلث مليون فلسطيني توزعوا على الشتات الأوروبي.
برهنت الشواهد على أن عيش اللاجئ الفلسطيني ضمن شروط آمنة وحرة، لم يقنعه بإسقاط حقه بالعودة، بل أنعش مطالبه وشجعه على تفعيل جهوده، ومنحها زخما عمليا بعد تحرره من أعباء الارتحال المتجدد. ثم إن الحفاظ على الحق ليس نافلة، بل ركيزة لتكوين هوية الفلسطيني في بيئة الشتات الجديدة، فلا أقل من أن يحتمي بخصوصيته في الاستجابة لتحدي الهوية الثقافية، علاوة على ما يتيحه الاستقرار المكاني من فرصة التفرغ لحمل القضية والعمل لأجلها في بيئة نشطة.
تدفق عشرات الألوف من الفلسطينيين إلى أوروبا منذ اندلاع الحرائق في سوريا، ومن المرجح أن تتضاعف أعدادهم في القارة خلال شهور معدودة، لكن ذلك لن يكون الشوط الأخير من قضية اللجوء الفلسطيني. إنه استئناف نسبي لتجارب سابقة، من قبيل النزوح الفلسطيني من لبنان في موجات قصدت أوروبا منذ مطلع الثمانينيات. عثر اللاجئون في محطاتهم الجديدة على مواقع لهم في حمل قضيتهم، وأعلنوا تشبثهم وتمسك أجيالهم الجديدة بحق العودة.
لن ينجح منطق تصريف اللاجئين الفلسطينيين إلى أصقاع العالم في تصفية قضيتهم على المدى البعيد. فما يملكه اللاجئ هو حقه الذي لن يجد ما يقنعه بالتنازل عنه، بينما تظل مطالبته بالعودة عنوان قضيته
نكبة فلسطينيي سوريا
ظل اللجوء الفلسطيني في سوريا حتى سنوات قليلة مضت أفضل حالا مقارنة مع الأوضاع في بلدان عربية، منها لبنان مثلا. فقد حظي الذين شردتهم نكبة 1948 إلى سوريا وتضاعفت أعدادهم لتناهز ستمائة ألف، بشروط حياة أفضل نسبيا مما وجده أقرانهم في دول أخرى في المحيط، حتى ساد الانطباع بأنهم يتمتعون بالامتيازات ذاتها المتاحة للسوريين أنفسهم ضمن سقف الحقوق السياسية والمدنية القائم.
وبغض النظر عن تجاذبات العلاقة عبر المراحل بين الحكم السوري والأطراف الفلسطينية، فقد حافظت تجمعات الفلسطينيين داخل سوريا على استقرارها، وشكل مخيم اليرموك مع الوقت حالة اندماج نسبية مع التوسع الحضري الجنوبي لدمشق بنسيجها الديمغرافي، دون أن يعني ذلك أن المواصفات كانت مثالية في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في أنحاء البلد.
كان لهذا التداخل الفلسطيني مع النسيج السوري العام ثمنه عندما تعذر عزل المخيمات عن سياق الواقع الملتهب بدءا من سنة 2011. تحول مخيم اليرموك إلى مأوى إنساني للنزوح السوري، ثم وجد المخيم ذاته مع الوقت على خطوط التماس في منطقة حساسة جنوب العاصمة.
تدحرجت الأوضاع من حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فبلغت ذروتها مع حصار اليرموك وتجويع سكانه على النحو الذي فاق التصور. ذاع الحديث عن "نكبة اليرموك"، في إقرار ضمني بأن النكبة ما زالت تتواصل، وأن إطارها الزماني يتجاوز وقائع سنة 1948، بينما يتخطى إطارها المكاني حدود فلسطين.
برهنت العواصف التي اجتاحت المخيمات في سوريا على أن الوضعية المؤقتة التي أنتجتها النكبة في تجمعات اللاجئين لا يمكن أن تؤول إلى استقرار مضمون. كما اتضح أن تجمعات اللاجئين، بل العديد من بؤر الشتات الفلسطيني، تبقى هشة وقد تعصف بها تطورات أو تلاعبات يصعب تخمينها.
عواصف في ذاكرة اللجوء
تستحضر الذاكرة الجمعية الفلسطينية مسارا ممتدا من وقائع إعادة التهجير التي ألمت بتجمعات الفلسطينيين في الخارج. تختزن ذاكرة اللجوء مواسم المحنة في لبنان، التي أفنت مخيمات عدة عبر عقود ثلاثة، مثل تل الزعتر وصبرا ونهر البارد، دون أن تنجو المخيمات الباقية من فصول المذابح والهجمات والتدمير والحصار.
وجاء الغزو العراقي للكويت سنة 1990 وخيم العاقبة على قرابة نصف مليون فلسطيني استقروا عقودا في دولة تميزت بتطور حالة شعبية فلسطينية بين أكنافها إلى حد نشوء فصائل فاعلة انطلاقا منها. تشرد فلسطينيو الكويت بين عشية وضحاها، وكانوا الحلقة الأضعف بالمقارنة مع المكونات السكانية الأخرى، فتلاشت تجمعاتهم في شمال غرب الخليج إلى غير رجعة.
ثم اكتشف الفلسطينيون بعد سنوات قليلة من ذلك أن بلدا فسيحا مثل ليبيا قد ضاق بهم ذرعا، فدفعت بهم مغامرات العقيد القذافي إلى الصحراء عند الحدود المصرية. أوحت القيادة الليبية وقتها أنها تريد بخطوتها تلك إظهار عجز اتفاقيات أوسلو عن استيعاب المشردين.
ثم أدت التفاعلات التي أعقبت احتلال العراق سنة 2003 إلى تفكيك التجمعات الفلسطينية هناك، التي تعود في بواكير نشأتها إلى زمن النكبة. تحولت مساكن الفلسطينيين المتواضعة في بغداد إلى وجهة لتفريغ إحباطات المجتمع العراقي في زمن الاحتراب الطائفي، وإلى عنوان رمزي لتصفية حسابات متأخرة مع النظام السابق. وبتأثير ضربات قاسية تلقوها، هام فلسطينيو العراق على وجوههم في الصحراء، فنصبوا خيامهم بمحاذاة سوريا والأردن في ظروف بالغة البؤس في انتظار منافيهم في أسكندنافيا وأميركا اللاتينية بعد إيصاد الحدود العربية في وجوههم.
أما في مصر التي لجأ إليها خلال موسم الديمقراطية القصير فلسطينيون نضحت بهم بلدان عربية، فقد انتهى الحال فيها إلى مطاردات ضارية للفلسطينيين وافتعال القضايا بحقهم في ظل أجواء تحريضية جارفة.
أكدت متوالية التهجير هذه أن سِفْر الخروج الفلسطيني لم تَنقضِ صفحاته بعد، فاللاجئ الفلسطيني ما زال يحمل متاعه باحثا عن مأوى في أقاصي الأرض.
اليرموك يقرع النواقيس
تقرع مأساة اليرموك النواقيس وتثير الهواجس الكامنة في تجمعات اللاجئين الفلسطينيين، ليس في سوريا وحدها وحسب، بل في بلدان الطوق المحيطة بفلسطين جميعا. وعندما يقع اليرموك في بؤرة الضوء، فلا ينبغي لذلك أن يواري الواقع في مخيمات متناثرة من درعا جنوبا حتى حندرات في الشمال السوري، إذ تختزن تجارب مأساوية وتشهد صنوفا من التهجير أو النزوح أو الحصار. يعني هذا أن الوجود الفلسطيني العريض في سوريا آئل إلى التفكيك والبعثرة في الجغرافيا، ضمن ملابسات حافلة بالترويع والمآسي التي تذوب في بحر المأساة السورية.
إنها المعادلة الهشة التي أنتجتها نكبة 1948، مع واقع غير آمن لتجمعات اللاجئين على مقربة من وطنهم. وكما يتضح اليوم من خلال المأساة الفلسطينية في سوريا، فإن تجمعات اللجوء وبؤر الشتات هي المكون الأضعف في المعادلات المحلية، بما جعلها عرضة للاهتزاز أو الاستهداف أو التلاعبات. فلا يبدو مفهوما حتى اليوم مثلا، أن يؤدي تسلل مجموعة مسلحة سنة 2007 إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، إلى تدمير شامل للمخيم وتشريد ثلاثين ألفا من اللاجئين.
ومع الافتقار إلى شروط التأمين الإستراتيجي، تتكبد التجمعات الفلسطينية أعباء مضاعفة في موسم الاضطرابات العربية، في زمن تتفكك فيه الدول وتتشظى فيه المجتمعات وتنزوي فيه القصة الفلسطينية إلى الصفحات الداخلية.
وأسوة بالحال مع تجارب سابقة عصفت بتجمعات اللجوء والشتات، فإن الغائب في ما يجري هو "إستراتيجية اليرموك الفلسطينية"، التي يُفترض أن تسعى لدرء المخاطر عن المخيمات، واحتواء الأضرار الناشئة، والتعامل مع مضاعفات التهجير المتواصل.
فبعيدا عن البلاغات الإعلامية والمواقف الاستعراضية ووفرة المعربين عن القلق، يجري تفكيك وجود فلسطيني عريض استقر في بلد عربي محاذٍ لفلسطين مدة ثلثي قرن، دون أن تستنفر الساحة الفلسطينية قواها وتجمع كلمتها على خيارات محددة. تتفرق المواقف وتتعارض الروايات وتتبعثر الجهود، ولا تنهض إستراتيجية جامعة إزاء مأساة فلسطينيي سوريا.
من يسعى لتشخيص المعضلة لا يسعه أن يتجاهل غياب الإرادة السياسية لدى الجهات الرسمية الفلسطينية وتعطيلها المؤسسات الوطنية الجامعة حتى إشعار آخر. هي معضلة ظلت ملموسة في مواسم العدوان على غزة أيضا، وفي مواجهة الهجمة الصامتة على القدس، وفي الرد على الاستيطان والجدار، وحتى في مقارعة تطرف القيادة الإسرائيلية.
ما قد يلفت الانتباه أن مأساة فلسطينيي سوريا تتواصل، بينما يستمر التصفيق لدولة فلسطينية تعجز عن حماية مواطنيها أو توفير مأوى لهم أو نسج شبكة أمان للنازحين. كشفت مجريات اليرموك مجددا أن حصد الاعترافات الدولية يجري لصالح كيان رمزي لم ينهض على أرض الواقع بعد، وأن رعاياه لا يجدون له عنوانا يستقبلهم أو سقفا يستظلون به، ولا حتى من ينتشلهم من قعر المتوسط أحيانا.
لكن الأزمة تتخذ أبعادا أعمق من مسألة الدولة، باستبعاد اللاجئين والمخيمات وبؤر الشتات من أولويات المشروع الرسمي. منحت الرسمية الفلسطينية بخطابها عبر مراحل التسوية، الانطباع بأن منطقها مع ملف اللاجئين هو أنه مسألة أعباء ديموغرافية بحاجة إلى تصريف عبر البلدان، وليس قضية شعب يطالب بحقه في العودة إلى أرضه ودياره.
اليرموك وضرورات المراجعة
تفرض مأساة اليرموك أولوية مراجعة المنطق السياسي الفلسطيني ليعبر عن واقع القضية وشعبها. ومما ينبغي تأكيده أيضا أن أي مسعى لحل قضية فلسطين لن ينجح إذا تجاوز ملف اللاجئين، ولن يكون حل القضية عادلا أو ممكنا بتجاوز حق العودة.
لا يُعقل أن يظل الموقف الفلسطيني مكتوفا إزاء مسار تفكيك المخيمات، فلا أقل من اجتراح أداء فلسطيني مغاير، وتطوير خطاب مسموع عالميا يربط المآسي الجارية بمنشأ قضية اللاجئين، ويقود حملة ضغوط على هذا الأساس مشفوعة بتحركات عملية. إذ لا تقتصر النكبة على تهجير الفلسطيني من أرضه وداره، بل تشمل أيضا منعه من العودة إليهما.
فالنكبة واقع مستمر يفرض على اللاجئ خوض مغامرات البحث عن وجهات جديدة عبر العالم، وركوب المخاطر التي أغرقت مئات الفلسطينيين في أعماق المتوسط في شهور معدودة، وما كان ذلك في الأساس إلا من مضاعفات حرمانهم من حقهم في العودة إلى أرضهم وديارهم. فما ينبغي أن يُقال للعالم أيضا إن الفلسطيني يُحرَم العودة إلى مدينته أو قريته التي لا تبعد عنه أكثر من نصف ساعة برا، بينما يُرغَم على اجتياز القارات في ظروف بائسة بحثا عن مأوى.
لا غنى عن وضع مأساة اليرموك وقضية اللجوء الفلسطيني في سياق القضية العام، واعتبارها عاملا ضاغطا على الأطراف كافة يملي عليها البحث عن مسالك لاستيعاب الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم أو قريبا منها مؤقتا، دون أن يكون ذلك على حساب أي من الحقوق الفلسطينية الثابتة.
يجدُر بتطورات اليرموك أن تعيد قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى مربعها الأول، وأن تكشف عن تفاعلات متواصلة للنكبة في عقدها السابع. فلا ينبغي النظر إلى الفصول التي تعاقبت على تجمعات اللاجئين وبؤر الشتات بصفة معزولة عن سياقها، فهي حلقات مترابطة في سلسلة النكبة الممتدة، وهو منظور واقعي يعين على تقدير المآلات أيضا.
لا يمكن اختزال النكبة الفلسطينية في واقعة الاقتلاع التي تمت سنة 1948، فقد أسست هذه المأساة لمحنة اللجوء الفلسطيني المتواصلة وما زالت شواهدها حية في النطاق الجغرافي المحيط بفلسطين. وما لم تُعالَج القضية الجوهرية فسيبقى شعب فلسطين يكابد فصولا متلاحقة من المآسي عقودا قادمة.
مفتاح العودة
قد ينجح المُنهَكون في الوصول إلى بر آمن، فينشغلون ابتداء بمأوى يلوذون به، لكنهم لا يسدلون الستار على قضيتهم، بل يرفعون مفتاح العودة مجددا من المنافي القاصية ويعلنون تمسكهم بفلسطين.
تنتصب تجربة اللجوء الفلسطيني إلى أوروبا برهانا على ذلك، فمحطات التهجير المتعاقبة لم تفلح في طي صفحة القضية في وعي ثلث مليون فلسطيني توزعوا على الشتات الأوروبي.
برهنت الشواهد على أن عيش اللاجئ الفلسطيني ضمن شروط آمنة وحرة، لم يقنعه بإسقاط حقه بالعودة، بل أنعش مطالبه وشجعه على تفعيل جهوده، ومنحها زخما عمليا بعد تحرره من أعباء الارتحال المتجدد. ثم إن الحفاظ على الحق ليس نافلة، بل ركيزة لتكوين هوية الفلسطيني في بيئة الشتات الجديدة، فلا أقل من أن يحتمي بخصوصيته في الاستجابة لتحدي الهوية الثقافية، علاوة على ما يتيحه الاستقرار المكاني من فرصة التفرغ لحمل القضية والعمل لأجلها في بيئة نشطة.
تدفق عشرات الألوف من الفلسطينيين إلى أوروبا منذ اندلاع الحرائق في سوريا، ومن المرجح أن تتضاعف أعدادهم في القارة خلال شهور معدودة، لكن ذلك لن يكون الشوط الأخير من قضية اللجوء الفلسطيني. إنه استئناف نسبي لتجارب سابقة، من قبيل النزوح الفلسطيني من لبنان في موجات قصدت أوروبا منذ مطلع الثمانينيات. عثر اللاجئون في محطاتهم الجديدة على مواقع لهم في حمل قضيتهم، وأعلنوا تشبثهم وتمسك أجيالهم الجديدة بحق العودة.
لن ينجح منطق تصريف اللاجئين الفلسطينيين إلى أصقاع العالم في تصفية قضيتهم على المدى البعيد. فما يملكه اللاجئ هو حقه الذي لن يجد ما يقنعه بالتنازل عنه، بينما تظل مطالبته بالعودة عنوان قضيته