- تصنيف المقال : الجالية الثقافي
- تاريخ المقال : 2015-05-30
صلاح بوسريف*
تجربةٌ شعرية لاَفِتَةٌ، للشَّاعِرَة الفلسطينية، جُمانَة مصطفى. لم أقرأ لها من قَبْل، ولم أتعرَّف على تجربتها، لأنَّ الكثير من الكتابات والأعمال الشِّعرية، المنشورة في عدد من البُلْدان العربية، لا تَصِلُ المغربَ، كما لا يَصِل المغرب إلى غيره من البلاد العربية، وهذه من مُفارَقات هذا الواقع العربي المُحْتَقِن.
في عَمَلَيْها الشِّعْرِيَيْن الصَّادِرَيْن عن «الأهلية للنشر والتوزيع»، «لنْ أقول ما رأيتُ» (2012) و«اعْتَدْتُ ألاَّ يرانِي أحد» (2015)، ثَمَّة أفُق شِعريّ مفتوح على المُغامَرة والتَّجْريب. لم أُحِسّ أنني أمام شاعرة تكتب لأوَّل مَرَّةٍ، أو أمام لُغَة وصُوَر، تَثْوِي فيها رَعَشَاتُ الأصابع التي تبحثُ عن لَفْظٍ، أو عِبارة شارِدَةٍ، أو تسْعَى لِمُحاكاةِ تعبيرات، أو صُوَرٍ سابِقَةٍ، بل أنَّ جُمانة مصطفى، تَكْتُبُ، في أفقِ تَرْويض أصابعها على المُخْتَلِف والمُغايِر، وعلى اخْتِبار اللغة، ليس في ما تَقُولُه، بل في أنْ تَقُولَ ما تُريدُهُ، وما يَفْتَحُ الشِّعْرَ على الوجُود، وعلى ذَلك الجُرْح الأبَدِيّ الذي هو الشِّعرُ، ذَاتُه، حين يصيرُ كامِناً في الأشياء الصغيرة، أو في فرادةِ هذا العالَم الذي لن يتكرَّر، بتعبير الشَّاعرة.
الشَّاعِر، ليس مَجْبُولاً، بالضَّرُورَة، على صَيْدِ اللُّؤْلُؤ، أو مُطارَدَةِ الوُعُول في الأحْراش النَّائيَة من هذا الوجود، فمُهِمَّة الشَّاعِر الأولى، هي أنْ يخرج بالكلام، عن سياقِ الضَّرورة، أي ألاَّ يكون مُجْبَراً على مُحاكَاة الآخرين، أو السَّيْر في الطُّرُق نفسها التي عَبَروها، لأنَّ الوَعْي الجَمالِيَّ، حين يكون مفتوحاً على المجهول لا على السَّائِد والمعروف، يخرج باللغة عن السياقات المُشْتَرَكَة ويَشْتَق من هذا المُشْتَرَك، ما ظلَّ مَنْسِياً، أو كامِناً في قاعِ اللغة ذاتِها.
يسمح لي هذا أنْ أعتبر جمانة مصطفى من الأجيال الفلسطينية التي أنْصَتَتْ لمحمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهما من الشُّعراء المُؤثِرِين، في الشِّعر الفلسطيني، بشكل خاص، لكنَّها، كانت وهي تَسْتَمتِع بشعرهما، تنتقي لُغَتَها وصُوَرَها ومن حَصافَة وذَكاء رؤيتها، وأعني تحديداً، من عيْنَيْها اللَّتيْنِ تَلْتَقِطان بَقايا الصُّوَر والأشياء، لا الصُّوَر والأشياء ذاتها، وهذا، في ذاته، تعبير عن تفادي فائِض اللغة وفائض الكلام، الذي غالباً ما يُفْضِي إلى تكرار العالَم واسْتِعادَتِه من دون طَائلٍ، أو من دون فائدةٍ شعريةٍ وجماليةٍ.
هذا الاقتصاد في اللغة، هو أحَدُ مُضْمَراتِ تجربة جمانة مصطفى. ولعلَّ اشْتِغالَ حاسَّة البَصَر عندها، هي ما يضع اللغة والكلام، في مواجهة هذا الشَّظَف الشِّعري الذي به تكتُب. تَوالي الصِّوَر وتجاوُباتِها وما يَحْدُث من تقاطُعٍ بينها، هي ما يُتِيح الغِنَى الدَّلالي في الدِّيوانيْن، وما يسمح بابْتِعاد النَّصّ الشِّعريّ عندها، عن «القصيدة»، باعتبارها إنشاداً، وقابِلِيَةً للغناء، لأنَّها، سواء أكانت واعيةً بهذا الدَّال، أو غير واعية به، فهي تَكْتُب، وتنتصر للدَّال الخَطِّيّ، والصَّوْتُ عندها ليس مُهَيْمِنا، أو دَالاًّ مركزياً، أو هو «الدَّال الأكبر»، كما عند هنري ميشونيك، ومَنْ اخْتاروا أن يسيروا في طريقه، من دون أن ينتبهوا لأهمية دَالَيّْ الصورة والخيال.
ليس في الدِّيوانَيْن، ألفاظ كبيرة وكثيرة، أو حقول معجمية شاسِعَة، ومفتوحة على دوالّ لا نهائية، فالشاعرة، اسْتَعاضَتْ عن هذا الكثير الواسع، من الألفاظ والمفردات، بالتَّراكيب والصُّوَر ذات الأفق الشِّعريّ المفتوح. لا يمكن حَصْر النص عند جمانة في معنىً مُحَدَّدٍ، ثَمَّة تَصَدُّعات، وشقوق، تخلقها الشَّاعرة في هذه التراكيب والصُّوَر، تَنْأَى بها عن المِساحات المُتاحَة، وتَجُرّ النص إلى المُحْتَمَل والشَّارِد.
فالشاعرة تحتفي في الدِّيوانيْن، معاً، بالأشياء النَّاقِصَة بما لا يكتمل أو يصل إلى مراحِل نُضْجِه، فالاكتمال عندها انتهاء مَوْتٌ، واسْتِنْفاد لِفرادة الأشياء، وما تَحْفَل به من شُقوقٍ وتَشَظِّياتٍ. حتَّى «القلب» يمُوت، رغم ما قد نُضْفِيه عليه من مُتَعِ الحياة (نَسْقِيهِ، نُشَمِّسُه، نُغَنِّي لَه) لـ (يَصِيرَ لائقاً بالفَرَح)، حالما، يتهاوَى ويَسْقُط من يَدِنا، كما تَسْقُط الثِّمارُ النَّاضِجَةُ التي تَفْقِد حياتَها، أو نُسْغَها وهي عالِقَة في نَزَق الرِّيحِ.
لا يمكن البحث عن مَعْنًى، أو «فكرة» في الديوانيْن، لأنَّ الشاعرة، ببساطةٍ، لا تقول، بل تُعيد ترميمَ الكُسُور، بل إنَّها تُعيد تَشْقِيق المَشْقُوقِ، وتَفْتِيق الشَّظايا، بمُضاعَفَة تَفْتيتِها، لأنَّ هذا التَّفْتِيت، هو اسْتِعادَةٌ للأشياء، في تَخَلُّقِها، وفي ما بَدَتْ عليه، قَبْل أن تَلُمَّها، وتَلحَمَها يَدِ الشَّاعِر. لا شاعِر يَرْغَبُ أنْ يكونَ العالَم هو نفسُه، كما يبدو للآخرِين. لهذا، كانت يَدُ الشَّاعِر، هي اليَدُ التي تعبَثُ بمعنى الوُجود، بآلِهَتِه، كما تَعْبَثُ بتماثيله التي ستظل في حاجةٍ لذلك الزلزال الذي يُعيدها إلى طينها الأول، «تمثال أرْهَقَه الوُقوف. يَلُومُ تأخُّرَ الزُلْزال».
في الشِّعر الفلسطينيّ، دائماً ما نبحثُ عن تَمَثُّلاتِ الأرض والوطنِ، والرَّغْبَة في الحرية والتَّحرُّر، وهي من الثيمَات العامَّة التي أصبحت بمثابة التَّوقِيع الشَّخْصِيّ في هذا الشِّعر، أو هو ما صِرْنا نُسْقِطُه، نحن على هذا الشِّعر، حتى وهو لا يرغبُ أن يكون بهذا المعنى، أو يُحاوِل أن يَمْنَحَه بُعْداً كونياً، لا يبقى رهيناً بالفلسطينيين، في بُعْدِه «الأخلاقي»، بل أن يصيرَ قضيةَ كل البَشَر على الأرض، خصوصاً، حين يكون هذا الشَّعْب، أو هذا الإنسان، هو المُحْتَلّ الوحيد المُتَبَقِّي على الأرض، رغم ما تَدَّعِيه الديمقراطيات العريقة، من حقّ الإنسان، في أن يكون له وطن وشمس وقَمَر.
فجمانة مصطفى، حين تتَّخِذ من الغابة، ومن أسْر النَّمِر في قفصٍ، يضيق على خَطْوِه، أو زَئيره، ومن السَّجَّان، والحرية التي تُؤخَذُ بِجُرُعاتٍ، وحتَّى من الحب، ومن النملة والغراب، والدبابير والنحلة، «موضوعاً» لها، فهي تخرج بهذا الموضوع، عن السياقات التي خرجَتْ منها، أو ارتبطَتْ بها، لتقول شيئاً آخر، يفيض عن هذا السياق نفسه، ويتجاوَزُه. فما نعتبره، نحن، مَنْ نوجَد خارِجَ «القضية»، بمعناها الحياتيّ اليومي، واجباً نضالياً، في دعم الفلسطينيين، باعتبار الروابط المتينة التي تجمعُنا بهم، أو تجمعُهُم بنا، فنحن، لا نَعِي، ولا نعيش هذه القضية في تفاصيلها التي أصبحت أكبر مِنَّا جميعاً. ولهذا، فالشاعر الفلسطيني اليوم، بعكس سابقيه، أصبح أكثر تعبيراً عن هذه القضية، حين ذَوَّتَها، وجعلها صورةً، وانعكاساً لِمُجْمَل التناقُضات التي يعيشها، في ذاتِه نفسِها، أو في هذا «القفص الكبير»، الذي مهما اتَّسَع فهو يضيق عن زئير النمرة، وعن انشراح الغابة، التي ملأها «القَتَلة»، وعن المدينة التي باتتْ مكاناً لـ«الجشع» و«السّعار» و«الغش» و«القسوة»، حيث بات أجمل ما في المدينة «المقبرة العظيمة»!
أليس في هذا ما يَفْضَحُ وضْعَ الإنسان في هذا «القفص» الذي لا يرغبُ أحد ممن يعتبرون القَنْصَ شريعَةَ العَصْر، أو حمايةً للنفس من «إرهاب المُحْتَل»، أن يعترفَ بهذا «البيت الناقص»، الذي لا يمكن لِشَرْط الحياة فيه أن يكْتَمِل، أو هو مُكْتَمِل، وفق العُرْف «الإنساني» بنَقْصِه هذا؟
ليس من الضروري، أبداً، أن يتكلَّم الشَّاعر، بكلامِ السِّياسيِّ والمُؤرِّخ وعالم الاجتماع نفسه، فالشَّاعر له لِسان يعرف كيف يفْتَح شُقوقَه، لِتَتَشَرَّب كل ما يجري في الوجود من تناقُضات وتَصَدُّعاتٍ، وما يمكن أن يطرأ فيه من تزوير وتحريفٍ للمفاهيم، أو من ازْوِرارٍ باللغة عن معناها، وتحويل الضحية إلى جلاَّد، والجلاد إلى ضَحِيَّة. فجمانة مصطفى هي شاعرة، عَرَفَتْ كيف تَنْكَأ جراحاتِها أو تَفْتَحُها، بوضع نفسها في سياق مأساة عامَّة، تتجاوز القَفَصَ لِتُدِينَ الغابَةَ كامِلَةً، رغْم ما يجري على بعض وحيشها من إبادَةٍ.
في كتابة جُمانة، نَفَسٌ نيتْشَوِيّ، من خلاله تتبَدَّى شَذريات كاتب آخر، هو إميل سيوران. بما يجمع بين الاثنيْن من نقد للعالم والإنسان، ولِما أصاب الوُجودَ من دُوَّار، نتيجة هذه المأساة، أو الملهاة الإنسانية الكبيرة التي تجري على حوافِّه، فهي تَنْتَقِد، لكن بِمِشْرَط الجَرَّاح، الذي يعرف كيف يَلأمُ الجُرْحَ، في ما هو يَضَع يَدَه على ما أصاب الرُّوحَ، لا الجِسْمَ وَحْدَه من انْجِراف. وهذا، في التجربة الشعرية الفلسطينية الجديدة، جُرْأةٌ في الرؤية، وفي تحويل شعرية النص من بلاغَة الظَّاهِر، إلى بلاغة الخَفِيّ، أو المُتَخَتِّر في قاعِ النصّ، وفي قرارة شعريته، التي تضع المعنى الجمالي، في سياقه الذي كان انْتُزِعَ منه، لِصالح غيره، مما يمكن أن يكون كلام السياسي أو المُؤرِّخ وعالِم الاجتماع.
ولا يفوتُني، هنا، أن أُشير إلى وجود علاقة عجيبةٍ بين طريقة جمانة في الكتابة، وفي رؤيتها الشِّعرية، وبين الشَّاعِر المغربي الراحل أحمد بركات، الذي كان من جيلي، ومات مبكراً. فحين كنتُ بصدد قراءة ديوانَيْ جمانة، كانت تجربة بركات تفرض نفسَها عليَّ، لا يعني هذا أنَّ جمانة أخذت عن أحمد بركات، أو حتَّى قرأتْه أو عرفتْ بوجوده، فهو لم ينتشر بما يكفي، وحتَّى في المغرب، كثيرون من لا يعرفون تجربة هذا الشَّاعر، في عمقها، وفي خصوصيتها، فالعام، أو الإعلاميّ، غالباً، هو ما يحكم علاقة القارئ بكثير من التجارب الشِّعرية، التي تحتاج لقراءاتٍ متأمِّلَة، فاحِصَةٍ، وتعرف كيف تخترق الأفق الجمالي للنص، وتُزيل عنه بعض الضَّباب الذي يَلُفُّه.
هذا التَّقاطُع، بين جمانة وبركات، هو من قَبيل استشعار المأساوي في وُجودنا، أي في سياقه الأنطولوجي، وهذا هو ما يمكن أن يجعل الشَّاعِريْن، معاً، يتقاطعان في بعض مكونات تجربتهما، مع وجود الفَرْق دائماً، أو هذا التوقيع الذي يتميَّز به كل واحد منهما، والمسافة التي فَصَلَتْ بين الاثنين.
*كاتب مغربي
تجربةٌ شعرية لاَفِتَةٌ، للشَّاعِرَة الفلسطينية، جُمانَة مصطفى. لم أقرأ لها من قَبْل، ولم أتعرَّف على تجربتها، لأنَّ الكثير من الكتابات والأعمال الشِّعرية، المنشورة في عدد من البُلْدان العربية، لا تَصِلُ المغربَ، كما لا يَصِل المغرب إلى غيره من البلاد العربية، وهذه من مُفارَقات هذا الواقع العربي المُحْتَقِن.
في عَمَلَيْها الشِّعْرِيَيْن الصَّادِرَيْن عن «الأهلية للنشر والتوزيع»، «لنْ أقول ما رأيتُ» (2012) و«اعْتَدْتُ ألاَّ يرانِي أحد» (2015)، ثَمَّة أفُق شِعريّ مفتوح على المُغامَرة والتَّجْريب. لم أُحِسّ أنني أمام شاعرة تكتب لأوَّل مَرَّةٍ، أو أمام لُغَة وصُوَر، تَثْوِي فيها رَعَشَاتُ الأصابع التي تبحثُ عن لَفْظٍ، أو عِبارة شارِدَةٍ، أو تسْعَى لِمُحاكاةِ تعبيرات، أو صُوَرٍ سابِقَةٍ، بل أنَّ جُمانة مصطفى، تَكْتُبُ، في أفقِ تَرْويض أصابعها على المُخْتَلِف والمُغايِر، وعلى اخْتِبار اللغة، ليس في ما تَقُولُه، بل في أنْ تَقُولَ ما تُريدُهُ، وما يَفْتَحُ الشِّعْرَ على الوجُود، وعلى ذَلك الجُرْح الأبَدِيّ الذي هو الشِّعرُ، ذَاتُه، حين يصيرُ كامِناً في الأشياء الصغيرة، أو في فرادةِ هذا العالَم الذي لن يتكرَّر، بتعبير الشَّاعرة.
الشَّاعِر، ليس مَجْبُولاً، بالضَّرُورَة، على صَيْدِ اللُّؤْلُؤ، أو مُطارَدَةِ الوُعُول في الأحْراش النَّائيَة من هذا الوجود، فمُهِمَّة الشَّاعِر الأولى، هي أنْ يخرج بالكلام، عن سياقِ الضَّرورة، أي ألاَّ يكون مُجْبَراً على مُحاكَاة الآخرين، أو السَّيْر في الطُّرُق نفسها التي عَبَروها، لأنَّ الوَعْي الجَمالِيَّ، حين يكون مفتوحاً على المجهول لا على السَّائِد والمعروف، يخرج باللغة عن السياقات المُشْتَرَكَة ويَشْتَق من هذا المُشْتَرَك، ما ظلَّ مَنْسِياً، أو كامِناً في قاعِ اللغة ذاتِها.
يسمح لي هذا أنْ أعتبر جمانة مصطفى من الأجيال الفلسطينية التي أنْصَتَتْ لمحمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهما من الشُّعراء المُؤثِرِين، في الشِّعر الفلسطيني، بشكل خاص، لكنَّها، كانت وهي تَسْتَمتِع بشعرهما، تنتقي لُغَتَها وصُوَرَها ومن حَصافَة وذَكاء رؤيتها، وأعني تحديداً، من عيْنَيْها اللَّتيْنِ تَلْتَقِطان بَقايا الصُّوَر والأشياء، لا الصُّوَر والأشياء ذاتها، وهذا، في ذاته، تعبير عن تفادي فائِض اللغة وفائض الكلام، الذي غالباً ما يُفْضِي إلى تكرار العالَم واسْتِعادَتِه من دون طَائلٍ، أو من دون فائدةٍ شعريةٍ وجماليةٍ.
هذا الاقتصاد في اللغة، هو أحَدُ مُضْمَراتِ تجربة جمانة مصطفى. ولعلَّ اشْتِغالَ حاسَّة البَصَر عندها، هي ما يضع اللغة والكلام، في مواجهة هذا الشَّظَف الشِّعري الذي به تكتُب. تَوالي الصِّوَر وتجاوُباتِها وما يَحْدُث من تقاطُعٍ بينها، هي ما يُتِيح الغِنَى الدَّلالي في الدِّيوانيْن، وما يسمح بابْتِعاد النَّصّ الشِّعريّ عندها، عن «القصيدة»، باعتبارها إنشاداً، وقابِلِيَةً للغناء، لأنَّها، سواء أكانت واعيةً بهذا الدَّال، أو غير واعية به، فهي تَكْتُب، وتنتصر للدَّال الخَطِّيّ، والصَّوْتُ عندها ليس مُهَيْمِنا، أو دَالاًّ مركزياً، أو هو «الدَّال الأكبر»، كما عند هنري ميشونيك، ومَنْ اخْتاروا أن يسيروا في طريقه، من دون أن ينتبهوا لأهمية دَالَيّْ الصورة والخيال.
ليس في الدِّيوانَيْن، ألفاظ كبيرة وكثيرة، أو حقول معجمية شاسِعَة، ومفتوحة على دوالّ لا نهائية، فالشاعرة، اسْتَعاضَتْ عن هذا الكثير الواسع، من الألفاظ والمفردات، بالتَّراكيب والصُّوَر ذات الأفق الشِّعريّ المفتوح. لا يمكن حَصْر النص عند جمانة في معنىً مُحَدَّدٍ، ثَمَّة تَصَدُّعات، وشقوق، تخلقها الشَّاعرة في هذه التراكيب والصُّوَر، تَنْأَى بها عن المِساحات المُتاحَة، وتَجُرّ النص إلى المُحْتَمَل والشَّارِد.
فالشاعرة تحتفي في الدِّيوانيْن، معاً، بالأشياء النَّاقِصَة بما لا يكتمل أو يصل إلى مراحِل نُضْجِه، فالاكتمال عندها انتهاء مَوْتٌ، واسْتِنْفاد لِفرادة الأشياء، وما تَحْفَل به من شُقوقٍ وتَشَظِّياتٍ. حتَّى «القلب» يمُوت، رغم ما قد نُضْفِيه عليه من مُتَعِ الحياة (نَسْقِيهِ، نُشَمِّسُه، نُغَنِّي لَه) لـ (يَصِيرَ لائقاً بالفَرَح)، حالما، يتهاوَى ويَسْقُط من يَدِنا، كما تَسْقُط الثِّمارُ النَّاضِجَةُ التي تَفْقِد حياتَها، أو نُسْغَها وهي عالِقَة في نَزَق الرِّيحِ.
لا يمكن البحث عن مَعْنًى، أو «فكرة» في الديوانيْن، لأنَّ الشاعرة، ببساطةٍ، لا تقول، بل تُعيد ترميمَ الكُسُور، بل إنَّها تُعيد تَشْقِيق المَشْقُوقِ، وتَفْتِيق الشَّظايا، بمُضاعَفَة تَفْتيتِها، لأنَّ هذا التَّفْتِيت، هو اسْتِعادَةٌ للأشياء، في تَخَلُّقِها، وفي ما بَدَتْ عليه، قَبْل أن تَلُمَّها، وتَلحَمَها يَدِ الشَّاعِر. لا شاعِر يَرْغَبُ أنْ يكونَ العالَم هو نفسُه، كما يبدو للآخرِين. لهذا، كانت يَدُ الشَّاعِر، هي اليَدُ التي تعبَثُ بمعنى الوُجود، بآلِهَتِه، كما تَعْبَثُ بتماثيله التي ستظل في حاجةٍ لذلك الزلزال الذي يُعيدها إلى طينها الأول، «تمثال أرْهَقَه الوُقوف. يَلُومُ تأخُّرَ الزُلْزال».
في الشِّعر الفلسطينيّ، دائماً ما نبحثُ عن تَمَثُّلاتِ الأرض والوطنِ، والرَّغْبَة في الحرية والتَّحرُّر، وهي من الثيمَات العامَّة التي أصبحت بمثابة التَّوقِيع الشَّخْصِيّ في هذا الشِّعر، أو هو ما صِرْنا نُسْقِطُه، نحن على هذا الشِّعر، حتى وهو لا يرغبُ أن يكون بهذا المعنى، أو يُحاوِل أن يَمْنَحَه بُعْداً كونياً، لا يبقى رهيناً بالفلسطينيين، في بُعْدِه «الأخلاقي»، بل أن يصيرَ قضيةَ كل البَشَر على الأرض، خصوصاً، حين يكون هذا الشَّعْب، أو هذا الإنسان، هو المُحْتَلّ الوحيد المُتَبَقِّي على الأرض، رغم ما تَدَّعِيه الديمقراطيات العريقة، من حقّ الإنسان، في أن يكون له وطن وشمس وقَمَر.
فجمانة مصطفى، حين تتَّخِذ من الغابة، ومن أسْر النَّمِر في قفصٍ، يضيق على خَطْوِه، أو زَئيره، ومن السَّجَّان، والحرية التي تُؤخَذُ بِجُرُعاتٍ، وحتَّى من الحب، ومن النملة والغراب، والدبابير والنحلة، «موضوعاً» لها، فهي تخرج بهذا الموضوع، عن السياقات التي خرجَتْ منها، أو ارتبطَتْ بها، لتقول شيئاً آخر، يفيض عن هذا السياق نفسه، ويتجاوَزُه. فما نعتبره، نحن، مَنْ نوجَد خارِجَ «القضية»، بمعناها الحياتيّ اليومي، واجباً نضالياً، في دعم الفلسطينيين، باعتبار الروابط المتينة التي تجمعُنا بهم، أو تجمعُهُم بنا، فنحن، لا نَعِي، ولا نعيش هذه القضية في تفاصيلها التي أصبحت أكبر مِنَّا جميعاً. ولهذا، فالشاعر الفلسطيني اليوم، بعكس سابقيه، أصبح أكثر تعبيراً عن هذه القضية، حين ذَوَّتَها، وجعلها صورةً، وانعكاساً لِمُجْمَل التناقُضات التي يعيشها، في ذاتِه نفسِها، أو في هذا «القفص الكبير»، الذي مهما اتَّسَع فهو يضيق عن زئير النمرة، وعن انشراح الغابة، التي ملأها «القَتَلة»، وعن المدينة التي باتتْ مكاناً لـ«الجشع» و«السّعار» و«الغش» و«القسوة»، حيث بات أجمل ما في المدينة «المقبرة العظيمة»!
أليس في هذا ما يَفْضَحُ وضْعَ الإنسان في هذا «القفص» الذي لا يرغبُ أحد ممن يعتبرون القَنْصَ شريعَةَ العَصْر، أو حمايةً للنفس من «إرهاب المُحْتَل»، أن يعترفَ بهذا «البيت الناقص»، الذي لا يمكن لِشَرْط الحياة فيه أن يكْتَمِل، أو هو مُكْتَمِل، وفق العُرْف «الإنساني» بنَقْصِه هذا؟
ليس من الضروري، أبداً، أن يتكلَّم الشَّاعر، بكلامِ السِّياسيِّ والمُؤرِّخ وعالم الاجتماع نفسه، فالشَّاعر له لِسان يعرف كيف يفْتَح شُقوقَه، لِتَتَشَرَّب كل ما يجري في الوجود من تناقُضات وتَصَدُّعاتٍ، وما يمكن أن يطرأ فيه من تزوير وتحريفٍ للمفاهيم، أو من ازْوِرارٍ باللغة عن معناها، وتحويل الضحية إلى جلاَّد، والجلاد إلى ضَحِيَّة. فجمانة مصطفى هي شاعرة، عَرَفَتْ كيف تَنْكَأ جراحاتِها أو تَفْتَحُها، بوضع نفسها في سياق مأساة عامَّة، تتجاوز القَفَصَ لِتُدِينَ الغابَةَ كامِلَةً، رغْم ما يجري على بعض وحيشها من إبادَةٍ.
في كتابة جُمانة، نَفَسٌ نيتْشَوِيّ، من خلاله تتبَدَّى شَذريات كاتب آخر، هو إميل سيوران. بما يجمع بين الاثنيْن من نقد للعالم والإنسان، ولِما أصاب الوُجودَ من دُوَّار، نتيجة هذه المأساة، أو الملهاة الإنسانية الكبيرة التي تجري على حوافِّه، فهي تَنْتَقِد، لكن بِمِشْرَط الجَرَّاح، الذي يعرف كيف يَلأمُ الجُرْحَ، في ما هو يَضَع يَدَه على ما أصاب الرُّوحَ، لا الجِسْمَ وَحْدَه من انْجِراف. وهذا، في التجربة الشعرية الفلسطينية الجديدة، جُرْأةٌ في الرؤية، وفي تحويل شعرية النص من بلاغَة الظَّاهِر، إلى بلاغة الخَفِيّ، أو المُتَخَتِّر في قاعِ النصّ، وفي قرارة شعريته، التي تضع المعنى الجمالي، في سياقه الذي كان انْتُزِعَ منه، لِصالح غيره، مما يمكن أن يكون كلام السياسي أو المُؤرِّخ وعالِم الاجتماع.
ولا يفوتُني، هنا، أن أُشير إلى وجود علاقة عجيبةٍ بين طريقة جمانة في الكتابة، وفي رؤيتها الشِّعرية، وبين الشَّاعِر المغربي الراحل أحمد بركات، الذي كان من جيلي، ومات مبكراً. فحين كنتُ بصدد قراءة ديوانَيْ جمانة، كانت تجربة بركات تفرض نفسَها عليَّ، لا يعني هذا أنَّ جمانة أخذت عن أحمد بركات، أو حتَّى قرأتْه أو عرفتْ بوجوده، فهو لم ينتشر بما يكفي، وحتَّى في المغرب، كثيرون من لا يعرفون تجربة هذا الشَّاعر، في عمقها، وفي خصوصيتها، فالعام، أو الإعلاميّ، غالباً، هو ما يحكم علاقة القارئ بكثير من التجارب الشِّعرية، التي تحتاج لقراءاتٍ متأمِّلَة، فاحِصَةٍ، وتعرف كيف تخترق الأفق الجمالي للنص، وتُزيل عنه بعض الضَّباب الذي يَلُفُّه.
هذا التَّقاطُع، بين جمانة وبركات، هو من قَبيل استشعار المأساوي في وُجودنا، أي في سياقه الأنطولوجي، وهذا هو ما يمكن أن يجعل الشَّاعِريْن، معاً، يتقاطعان في بعض مكونات تجربتهما، مع وجود الفَرْق دائماً، أو هذا التوقيع الذي يتميَّز به كل واحد منهما، والمسافة التي فَصَلَتْ بين الاثنين.
*كاتب مغربي