- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-06-11
كلما تمضي الأيام والسنون، أُصبح اكثر إيماناً بالقضية، بفلسطين التحرير والعودة والحرية... التصق أكثر بتفاصيلها. أصبح أكثر عشقاً لكل ما يرتبط بها. تغدو الأغاني الوطنية تراتيل سماوية. أشعر بصورتي تتحوّل إلى علم وجسدي إلى خريطة وتراب مقدسي. أتلمس جدران الأزقة في المخيمات بمتعة أكبر، أمشي في زواريب شاتيلا وعين الحلوة بعزة أكبر، أنظر إلى الشهداء وكأنهم يستشهدون كل يوم... هكذا كان فرانكو فونتانا يعيش القضية.
هي القضية التي وحّدت أحرار العالم ضد الظلم، هو الوطن الذي تقمص قلوب العاشقين من الشرق والغرب، قلب العالم النابض بجميع اللغات: العربية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية... فلسطين التي دفعت فرانكو فونتانا، المناضل الايطالي الى الالتحاق بصفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1977، مقاتلاً ضد العدو الإسرائيلي في الجناح العسكري للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، قبل ان يعود الى إيطاليا بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982.
حمل ذكرياته عام 1982 وغادر كالطير المهاجر الذي يرحل واعداً حبيبته بالعودة يوماً، وعاد منتصف أيار الفائت ليبحث عن الذكريات والوجوه التي واكبت أيام حداثته الثورية، عرف بعضها وعرفه البعض وحزن لغياب آخرين، بإشارات وكلمات بسيطة... وقف بعزة أمام أحدهم مذكراً به بعربية ركيكة وإشارة حازمة بيده مردداً: «يلا رفاق يلا رفاق»، فيرد عرفتك يا جوزيف (الأسم الحركي لـفرانكو).
تستفزه التفاصيل بشكل مضحك، فحين يحضر صحن الحمص، يسأل عن الشاي، وحين يحضر الشاي يسأل عن الزيتون، هذه مائدته الثورية المفضّلة، عرفها سنوات في جبال وأودية وكهوف جنوب لبنان في السبعينيات مع الرفاق، يتناول حبة الزيتون وينظر إليها بشغف الناظر الى اللؤلؤ قبل ان يلتهمها بنهم. حين كنت أوصله مرة الى مركز الدراسات الفلسطينية كان ينظر الى الطرق والأبنية مردداً بحزن: «ليست هذه بيروت، لقد تغيّرت كثيراً»، يصمت قليلاً ويضيف: «لكن مخيماتها لم تتغير، زادت ظلمة النهار فيها فقط». زار روضة جمعية النجدة الاجتماعية في مخيم شاتيلا، وحين رأى الأطفال رمى بنفسه بينهم، وأخذ يلاعبهم بمتعة طفل لا يريد ان يكبر أبداً...قصد مقبرة المجزرة، ووقف بإجلال وصمت أمام أضرحة الشهداء وأخذ يتأمل الفناء الخالي وكأنه ينظر للمرة الأخيرة إلى لوحات أسطورية في متحف تاريخي.
عاش فونتانا سبعة عقود مفعمة بالثورة ضد الطغيان، وصل الى لبنان يوم النكبة في 15 أيار ورحل يوم النكسة في 5 حزيران 2015، وكأن القدر مصرّ ان يدخله على سكة تواريخ مفصلية لقضية عاش ومات في أحضانها.
بقلم / سامر مناع
هي القضية التي وحّدت أحرار العالم ضد الظلم، هو الوطن الذي تقمص قلوب العاشقين من الشرق والغرب، قلب العالم النابض بجميع اللغات: العربية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية... فلسطين التي دفعت فرانكو فونتانا، المناضل الايطالي الى الالتحاق بصفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1977، مقاتلاً ضد العدو الإسرائيلي في الجناح العسكري للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، قبل ان يعود الى إيطاليا بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982.
حمل ذكرياته عام 1982 وغادر كالطير المهاجر الذي يرحل واعداً حبيبته بالعودة يوماً، وعاد منتصف أيار الفائت ليبحث عن الذكريات والوجوه التي واكبت أيام حداثته الثورية، عرف بعضها وعرفه البعض وحزن لغياب آخرين، بإشارات وكلمات بسيطة... وقف بعزة أمام أحدهم مذكراً به بعربية ركيكة وإشارة حازمة بيده مردداً: «يلا رفاق يلا رفاق»، فيرد عرفتك يا جوزيف (الأسم الحركي لـفرانكو).
تستفزه التفاصيل بشكل مضحك، فحين يحضر صحن الحمص، يسأل عن الشاي، وحين يحضر الشاي يسأل عن الزيتون، هذه مائدته الثورية المفضّلة، عرفها سنوات في جبال وأودية وكهوف جنوب لبنان في السبعينيات مع الرفاق، يتناول حبة الزيتون وينظر إليها بشغف الناظر الى اللؤلؤ قبل ان يلتهمها بنهم. حين كنت أوصله مرة الى مركز الدراسات الفلسطينية كان ينظر الى الطرق والأبنية مردداً بحزن: «ليست هذه بيروت، لقد تغيّرت كثيراً»، يصمت قليلاً ويضيف: «لكن مخيماتها لم تتغير، زادت ظلمة النهار فيها فقط». زار روضة جمعية النجدة الاجتماعية في مخيم شاتيلا، وحين رأى الأطفال رمى بنفسه بينهم، وأخذ يلاعبهم بمتعة طفل لا يريد ان يكبر أبداً...قصد مقبرة المجزرة، ووقف بإجلال وصمت أمام أضرحة الشهداء وأخذ يتأمل الفناء الخالي وكأنه ينظر للمرة الأخيرة إلى لوحات أسطورية في متحف تاريخي.
عاش فونتانا سبعة عقود مفعمة بالثورة ضد الطغيان، وصل الى لبنان يوم النكبة في 15 أيار ورحل يوم النكسة في 5 حزيران 2015، وكأن القدر مصرّ ان يدخله على سكة تواريخ مفصلية لقضية عاش ومات في أحضانها.
بقلم / سامر مناع