- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-06-27
بقلم: محمد قواص
لم يخضْ العرب حرباً ضد إسرائيل منذ 1973. مذّاك دخلت الأنظمة العربية، بلا استثناء، في منظومة السلم، سواء في إرهاصات مدريد، مروراً بأوسلو وكامب دايفيد ووادي عربة، وليس انتهاء بسياق المفاوضات بين سورية (حافظ وبشار) الأسد وإسرائيل. وما الصدامات الكبرى منذ اجتياح لبنان (1982)، إلا حروب إسرائيلية خيضت بقرارٍ إسرائيلي، وانتهت وفق أجندة إسرائيلية.
لا تهدد المنطقة العربية أمن إسرائيل بالمعنى الاستراتيجي للكلمة (إستراتيجيو إسرائيل تقلقهم الديموغرافية الفلسطينية أكثر من أي خطر آخر). تعاملت إسرائيل مع «حزب الله» و»حماس» بصفتهما أخطاراً تفصيلية تجري مقاربتها بأدوات أمنية وعسكرية، فيما يبدو المشروع النووي الإيراني دعائي لكلا الطرفين يسوّقانه في أسواقهما الدولية، خصوصاً أن إسرائيل سبّاقة في امتلاك سلاح نووي متقدم، بالنوع والكمّ، كفيل بتدمير إيران مرات عدة في حال راقَ للاحتمال أن يكون واقعاً.
تملكُ إسرائيل دعماً دولياً (غربياً وروسياً وصينياً إلخ...) جاهزاً للدفاع عنها والتصدي لأي تهديد حقيقي يستهدفها، كما تتمتع إسرائيل بغياب مشروع عربي نوعيّ مضاد، بالمعنى الوجودي العام، لا بل أن السقف العربي تحدَدَ منذ مبادرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، التي تبناها العرب في قمة بيروت (2002)، في ما عُرف بمبادرة الأرض مقابل السلم. والقول إن «الربيع العربي» مؤامرٌة هدفها نقل الفوضى إلى الداخل العربي لدفع الأذى الكامن عن إسرائيل، يستدعي تخيّل أن الجيوش العربية كانت تحاصرُ حيفا، فيما تل أبيب كانت على أبواب السقوط.
في المقابل، يُعتبرُ العالم العربي برمته من ضمن الخرائط الاستراتيجية الغربية من دون منازع منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. تحظى الأنظمةُ السياسية العربية، ما قبل وما بعد «الربيع العربي»، بعلاقات متينة مع العواصم الغربية. وحتى سعيّ روسيا حالياً للاحتفاظ بما يمكن الاحتفاظ به من نفوذ في سورية، يؤكدُ استثنائية الحدث، ليس في المنطقة العربية عامة، بل حتى في سورية نفسها، التي لطالما سعت لبناء علاقات متقدمة اقتصادية ودبلوماسية وسياسية مع العواصم الغربية، ولطالما كانت تستخدمُ علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي/ روسيا في خدمة الاقتراب أكثر من الغرب/ واشنطن.
باتت المنطقة العربية، لا سيما الخليجية، وفق مبدأ كارتر الشهير (1980) جزءاً من أمن الولايات المتحدة دفاعاً عن السوق النفطية وطرق الإمداد، فيما لم تستطع أي دولة كبرى أخرى التجرؤ على ملء الفراغ المزعوم الذي أحدثته الـ«أوبامية» الراهنة في ميادين المنطقة. وإذا ما كان من منافسة ما على النفوذ في الشرق الأوسط، فتُسجّل داخل عواصم الحلف الغربي نفسه، بين باريس وواشنطن في دول المغرب العربي مثلاً، أو في ما سجلته عقود بيع طائرات الرافال الفرنسية في الخليج مؤخراً إلخ...
أما القول إن هناك مؤامرةً غربية لإعادة رسم المنطقة، على ما سأمناه منذ عقود، فهو أمر لا يخضعُ لمعطيات ولا تسنِدُه براهين ولا يتأسسُ على منظومة مصالح جديدة لا تؤمنّها الخرائط القديمة. وإن كان من تفتيت يجري في المنطقة فهو ثمار همّة أهل المنطقة، على ما استوطنهم من طائفية ومذهبية وقبلية وتخلّف، على نحو جعل وحدتهم ترفاً لا يستحقونه. وأكثر ما يمكن هضمه في فرضية المؤامرة، أن ذلك الغرب لم يكن يمانعُ في تشجيع تيارات الإصلاح، لا سيما لدى منظمات المجتمع المدني، على ما يفعلُ في العالم أجمع، حتى داخل البلدان الغربية نفسها، لكن دينامية بيتية ذاتية تسبب انفجارها بما لا يمكن لبنى الأنظمة السياسية أن تحتمله، فكانت تلك الكارثة.
في غياب قوى كبرى منافسة لا يعتبرُ الغرب عبثَ المنطقة خطراً داهماً على مصالحه في العالم العربي. فإذا ما كان من اختلالات ما لتلك المصالح، فروسيا والصين وأي قوى أخرى ما زالت أبعد من أن تقيمَ تنافساً جديراً بالذكر، رغم ما تحاول موسكو تحقيقه من اختراقات. فأن يسيطرَ «داعش» على مناطق في سورية والعراق، فتخاصمها «النصرة» في سورية، فيما جماعات إيران تخوضُ المعارك ضد الطرفين (وزد على هذا العبث التشظي اليمني والليبي)، فتلك فوضى ميادين لا تُحدِثُ فرقاً كبيراً في حساب الخسائر والأرباح لدى واشنطن والعواصم الحليفة، وربما في تلك المحرقة ما يفني عفناً وما قد يُخرجَ دخاناً أبيض.
قد يختلطُ الأمر على المراقب للشأن العربي، لكن الغرب واضحٌ في مقاربته للساحات الساخنة بما لا يفرجُ إلا عن تأنٍ وبرودة، وعن سلوك لا يعكسُ عجالةً. لا تملك واشنطن مقاربة خاصة حيال أزمة اليمن، ولا تمسك ما يمكنه إحداث ما هو نوعيّ في المأزق الليبي. وتغيرُ طائرات التحالف الدولي ضد «داعش» في شكل انتقائي، ويكاد يكون مزاجياً، على مناطق في العراق من دون مناطق أخرى، كما تتدخلُ في سورية، في شكل نادر وطارئ، في ما هو عمليات أمنية أكثر من كونها حملات عسكرية. لا تغضب واشنطن من رفض بغداد لمشروع تسليحها للسنّة والأكراد من دون المرور بالحكومة العراقية، ثم تجهدُ بحرص لارتجال أعذارٍ لتبرير هزيمة الجيش العراقي أمام تقدم «داعش» في الرمادي، وتتحفظ بعتب المحب على شعار «لبيك يا حسين» لتحرير المدينة.
قد يبدو أن الولايات المتحدة غير قلقة من هذا العبث الكبير في سورية والعراق. لا شيء يهددُ مصالحها، لا شيء يهدد أمن إسرائيل. تتأمل الإدارة الأميركية حراكاً إقليمياً تركياً خليجياً قلب الموازين في سورية. تمتعضُ واشنطن هنا وتتحفظ هناك وقد تضع خطوطاً حمراً هنالك، لكنها لن تعتبرَ انهيار القواعد والثوابت كارثة، وقد لا يفاجئها سقوط دمشق وانهيار النظام. لسان حال واشنطن يذكّر بما نقل عن هارون الرشيد بعد تأمله سحابة في السماء فخاطبها أن «أمطري حيثُ شئتِ فخراجكِ عندي».
عن «الحياة» اللندنية
لم يخضْ العرب حرباً ضد إسرائيل منذ 1973. مذّاك دخلت الأنظمة العربية، بلا استثناء، في منظومة السلم، سواء في إرهاصات مدريد، مروراً بأوسلو وكامب دايفيد ووادي عربة، وليس انتهاء بسياق المفاوضات بين سورية (حافظ وبشار) الأسد وإسرائيل. وما الصدامات الكبرى منذ اجتياح لبنان (1982)، إلا حروب إسرائيلية خيضت بقرارٍ إسرائيلي، وانتهت وفق أجندة إسرائيلية.
لا تهدد المنطقة العربية أمن إسرائيل بالمعنى الاستراتيجي للكلمة (إستراتيجيو إسرائيل تقلقهم الديموغرافية الفلسطينية أكثر من أي خطر آخر). تعاملت إسرائيل مع «حزب الله» و»حماس» بصفتهما أخطاراً تفصيلية تجري مقاربتها بأدوات أمنية وعسكرية، فيما يبدو المشروع النووي الإيراني دعائي لكلا الطرفين يسوّقانه في أسواقهما الدولية، خصوصاً أن إسرائيل سبّاقة في امتلاك سلاح نووي متقدم، بالنوع والكمّ، كفيل بتدمير إيران مرات عدة في حال راقَ للاحتمال أن يكون واقعاً.
تملكُ إسرائيل دعماً دولياً (غربياً وروسياً وصينياً إلخ...) جاهزاً للدفاع عنها والتصدي لأي تهديد حقيقي يستهدفها، كما تتمتع إسرائيل بغياب مشروع عربي نوعيّ مضاد، بالمعنى الوجودي العام، لا بل أن السقف العربي تحدَدَ منذ مبادرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، التي تبناها العرب في قمة بيروت (2002)، في ما عُرف بمبادرة الأرض مقابل السلم. والقول إن «الربيع العربي» مؤامرٌة هدفها نقل الفوضى إلى الداخل العربي لدفع الأذى الكامن عن إسرائيل، يستدعي تخيّل أن الجيوش العربية كانت تحاصرُ حيفا، فيما تل أبيب كانت على أبواب السقوط.
في المقابل، يُعتبرُ العالم العربي برمته من ضمن الخرائط الاستراتيجية الغربية من دون منازع منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. تحظى الأنظمةُ السياسية العربية، ما قبل وما بعد «الربيع العربي»، بعلاقات متينة مع العواصم الغربية. وحتى سعيّ روسيا حالياً للاحتفاظ بما يمكن الاحتفاظ به من نفوذ في سورية، يؤكدُ استثنائية الحدث، ليس في المنطقة العربية عامة، بل حتى في سورية نفسها، التي لطالما سعت لبناء علاقات متقدمة اقتصادية ودبلوماسية وسياسية مع العواصم الغربية، ولطالما كانت تستخدمُ علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي/ روسيا في خدمة الاقتراب أكثر من الغرب/ واشنطن.
باتت المنطقة العربية، لا سيما الخليجية، وفق مبدأ كارتر الشهير (1980) جزءاً من أمن الولايات المتحدة دفاعاً عن السوق النفطية وطرق الإمداد، فيما لم تستطع أي دولة كبرى أخرى التجرؤ على ملء الفراغ المزعوم الذي أحدثته الـ«أوبامية» الراهنة في ميادين المنطقة. وإذا ما كان من منافسة ما على النفوذ في الشرق الأوسط، فتُسجّل داخل عواصم الحلف الغربي نفسه، بين باريس وواشنطن في دول المغرب العربي مثلاً، أو في ما سجلته عقود بيع طائرات الرافال الفرنسية في الخليج مؤخراً إلخ...
أما القول إن هناك مؤامرةً غربية لإعادة رسم المنطقة، على ما سأمناه منذ عقود، فهو أمر لا يخضعُ لمعطيات ولا تسنِدُه براهين ولا يتأسسُ على منظومة مصالح جديدة لا تؤمنّها الخرائط القديمة. وإن كان من تفتيت يجري في المنطقة فهو ثمار همّة أهل المنطقة، على ما استوطنهم من طائفية ومذهبية وقبلية وتخلّف، على نحو جعل وحدتهم ترفاً لا يستحقونه. وأكثر ما يمكن هضمه في فرضية المؤامرة، أن ذلك الغرب لم يكن يمانعُ في تشجيع تيارات الإصلاح، لا سيما لدى منظمات المجتمع المدني، على ما يفعلُ في العالم أجمع، حتى داخل البلدان الغربية نفسها، لكن دينامية بيتية ذاتية تسبب انفجارها بما لا يمكن لبنى الأنظمة السياسية أن تحتمله، فكانت تلك الكارثة.
في غياب قوى كبرى منافسة لا يعتبرُ الغرب عبثَ المنطقة خطراً داهماً على مصالحه في العالم العربي. فإذا ما كان من اختلالات ما لتلك المصالح، فروسيا والصين وأي قوى أخرى ما زالت أبعد من أن تقيمَ تنافساً جديراً بالذكر، رغم ما تحاول موسكو تحقيقه من اختراقات. فأن يسيطرَ «داعش» على مناطق في سورية والعراق، فتخاصمها «النصرة» في سورية، فيما جماعات إيران تخوضُ المعارك ضد الطرفين (وزد على هذا العبث التشظي اليمني والليبي)، فتلك فوضى ميادين لا تُحدِثُ فرقاً كبيراً في حساب الخسائر والأرباح لدى واشنطن والعواصم الحليفة، وربما في تلك المحرقة ما يفني عفناً وما قد يُخرجَ دخاناً أبيض.
قد يختلطُ الأمر على المراقب للشأن العربي، لكن الغرب واضحٌ في مقاربته للساحات الساخنة بما لا يفرجُ إلا عن تأنٍ وبرودة، وعن سلوك لا يعكسُ عجالةً. لا تملك واشنطن مقاربة خاصة حيال أزمة اليمن، ولا تمسك ما يمكنه إحداث ما هو نوعيّ في المأزق الليبي. وتغيرُ طائرات التحالف الدولي ضد «داعش» في شكل انتقائي، ويكاد يكون مزاجياً، على مناطق في العراق من دون مناطق أخرى، كما تتدخلُ في سورية، في شكل نادر وطارئ، في ما هو عمليات أمنية أكثر من كونها حملات عسكرية. لا تغضب واشنطن من رفض بغداد لمشروع تسليحها للسنّة والأكراد من دون المرور بالحكومة العراقية، ثم تجهدُ بحرص لارتجال أعذارٍ لتبرير هزيمة الجيش العراقي أمام تقدم «داعش» في الرمادي، وتتحفظ بعتب المحب على شعار «لبيك يا حسين» لتحرير المدينة.
قد يبدو أن الولايات المتحدة غير قلقة من هذا العبث الكبير في سورية والعراق. لا شيء يهددُ مصالحها، لا شيء يهدد أمن إسرائيل. تتأمل الإدارة الأميركية حراكاً إقليمياً تركياً خليجياً قلب الموازين في سورية. تمتعضُ واشنطن هنا وتتحفظ هناك وقد تضع خطوطاً حمراً هنالك، لكنها لن تعتبرَ انهيار القواعد والثوابت كارثة، وقد لا يفاجئها سقوط دمشق وانهيار النظام. لسان حال واشنطن يذكّر بما نقل عن هارون الرشيد بعد تأمله سحابة في السماء فخاطبها أن «أمطري حيثُ شئتِ فخراجكِ عندي».
عن «الحياة» اللندنية