بدأ «مطبخ» الرئاسة يقدم نفسه علناً ويحل نفسه محل المؤسسة، ويزرع الفوضى في كل مكان. بحاجة إلى وقفة مسؤولة قبل فوات الأوان.
يبدو أن الأمور لا تسير في رام الله بالشكل السليم، وإن سياسة تهميش المؤسسة هي الطاغية، لصالح «المطبخ» الذي أخذ على عاتقه الحلول محل المؤسسة، ونعني بها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. والفرق بين المؤسسة وبين المطبخ واسع كبير.
فالمؤسسة هي هيئة منتخبة من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، وتقوم على أساس جبهوي، وتوافقي بين الفصائل الفلسطينية، فهي الإطار القيادي للجبهة الوطنية المتحدة ممثلة في م.ت.ف. هي التي ترسم السياسات العامة، وتشكل مرجعية لحكومة السلطة الفلسطينية، وتتخذ قراراتها بالتفاهم والتوافق والحوار. ورئيسها، كما هو متوافق عليه، لا يملك صلاحية اصدار القرارات، وصلاحية أن ينوب عن المؤسسة، فهو ليس «رئيساً» في نظام رئاسي، كما هو حال رئيس فرنسا أو الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بل هو «رئيس» هيئة سياسية، شكلت في الأساس حكومة المنفى للشعب الفلسطيني، وحتى حين تشكيلها يتم التشاور في الأسماء، لتأتي الانتخابات في المجلس الوطني لتكريس ما يتم التوافق حوله. ولذلك لم يسجل أنه سبق وأن لجأت اللجنة التنفيذية إلى التصويت، أو أن لجأ رئيسها إلى إصدار قرارات أو مراسيم بالنيابة عنها، حتى في زمن الرئيس عرفات.
أما «المطبخ»، فهو صيغة غير شرعية للالتفاف على الشرعية، وفي الوقت الذي تعقد فيه المؤسسة اجتماعاتها علناً، يعقد «المطبخ» اجتماعاته سراً، وفي الوقت الذي تعلن فيه المؤسسة قراراتها بالبيانات السياسية العلنية، يلجأ «المطبخ» إلى تسريب مواقفه وخلق أجواء تمهد لتمرير سياساته. وفي الوقت الذي تمارس فيه المؤسسة دورها بالشفافية المطلوبة، يلجأ «المطبخ» إلى الغموض، ادراكاً منه أن تشكيله يشكل في حد ذاته مخالفة للأسس والمبادئ، خاصة مبادئ التوافق الجبهوي ومبادئ الشراكة الوطنية والعلاقات الديمقراطية، وتجاوزاً وانتهاكاً فظاً للأعراف والتقاليد، وتمرداً على القوانين والأنظمة. «المطبخ» في أساسه غير شرعي، وخطورة الأمر أن المنحى الذي تحاول أن تتبعه المقاطعة هو احلال «المطبخ» بدلاً من المؤسسة، وهنا، على الجميع أن يقرع جرس الخطر.
* * *
· أقرت اللجنة التنفيذية تشكيل حكومة فلسطينية جديدة، تأخذ على عاتقها إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية، وفك الحصار عن القطاع، وإعادة إعمار ما دمره العدوان، والتحضير لانتخابات شاملة، رئاسية، وتشريعية (لمجلس تشريعي ووطني)، وفق التمثيل النسبي الكامل. أقرت أيضاً أن تكون حكومة وحدة وطنية، تتمثل فيها القوى كافة، وأن تكون بتوافق ورضا الجميع. أقرت إجراء حوار وطني جديد، ودعوة الإطار القيادي المؤقت الذي يضم كل الفصائل، خارج م.ت.ف وداخلها، للبت بتشكيل الحكومة الجديدة، وتكليفاتها، وتوفير الأجواء الضرورية لانجاح مهماتها، بعدما أثبتت التجربة فشل حكومة رامي الحمدلله، بعد أكثر من سنة، على إنجاز المطلوب منها. قرار الحكومة الجديدة، وفق الأسس المذكورة أعلاه، قرار جماعي اتخذته اللجنة التنفيذية. فجأة، وبعد حوالي أسبوع على اتخاذ القرار، يلجأ «المطبخ» إلى الإعلان، دون العودة إلى اللجنة التنفيذية، عن التعديل الحكومي المحدود، بديلاً لحكومة جديدة، وكأن القضية ليست قضية إنهاء الانقسام، وما يلي ذلك من مهام بل هي قضية تعديل حكومي لتوفير الانسجام بين الحمدلله ووزرائه.
· مازال قرار وقف التنسيق الأمني، كما اتخذه المجلس المركزي في دورته الأخيرة معطلاً، السبب أن الأجهزة الأمنية لم تتبلغ حتى الآن بالقرار السياسي، لا عبر الحكومة ورئيسها (الحمدلله) ولا عبر رئيس السلطة نفسه، وهذا يعني أن التنسيق الأمني مازال مستمراً مع سلطات الاحتلال، في انتهاك فاقع لقرارات المجلس المركزي. وهذا يعني أن «المطبخ» أخذ على عاتقه رسم سياسة بديلة للسياسة التي رسمها المجلس المركزي. وبدلاً من الذهاب إلى سياسة تدويل القضية والحقوق الوطنية، عبر المؤسسات الدولية، لنزع الشرعية عن الاحتلال، وعزل دولة الاحتلال، وبدلاً من اتخاذ الإجراءات لاستنهاض الحالة الشعبية وتطوير أساليب وآليات المقاومة الشعبية وصولاً إلى إعلان العصيان الوطني، مازال «المطبخ» يراهن على العودة إلى المفاوضات، يترقب بلهفة ولادة المشروع الفرنسي إلى مجلس الأمن، وإنجاز الاتفاق النووي الإيراني بما يعيد «الراعي الأميركي» إلى محاولاته المعروفة لإحياء المفاوضات.
· كذلك مازال قرار مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي معطلاً، في الوقت الذي تتسع فيه عالمياً سياسة مقاطعة إسرائيل اقتصادياً وثقافياً وأكاديمياً، فكيف نطالب الآخرين بالمقاطعة ونحن نتردد، بل نستنكف، عن المقاطعة في خدمة مصالح فئوية ضيقة لبضعة سماسرة وتجار ومستفيدين من التعامل الاقتصادي مع الاحتلال ومشاريعه. «المطبخ» هو الذي يعطل قرار المقاطعة، خوفاً من ردة الفعل الإسرائيلي، وحرصاً على مصالح قلة، على حساب المصالح الوطنية لهموم الشعب وقضيته وحقوقه المشروعة.
* * *
وفي خضم الانشغال بالقضايا الكبرى، والتلاعب بها، تصاب الحالة الفلسطينية بالمزيد من العطب.
فرد الفعل داخل حماس على مسألة الحكومة، يذهب بها نحو تعميق الانقسام، ونحو منحه أبعاداً إضافية، وتحاول بعض تياراتها النافذة، أن تتعلل بقضية التعديل الحكومي، لتعفي نفسها من أية التزامات نحو مسألة إنهاء الانقسام، ولتبرر ذهابها بعيداً في المباحثات السرية مع الجانب الإسرائيلي، لصالح هدنة طويلة الأمد، مع تسهيلات إدارية اقتصادية، يكون من مفعولها انفصال القطاع عن الضفة، ما يلحق ضربات تدميرية بالمشروع الوطني الفلسطيني. ولعل ما صدر عن بعض قادة حماس من تصريحات يوضح إلى أي مدى بدأ القطاع ينزلق بعيداً عن الضفة.
وتصم الأجهزة الأمنية، آذانها عن قرار المحكمة العليا بالتراجع عن إجراء مصادرة أموال مؤسسة «فلسطين الغد» بإدارة الدكتور سلام فياض، رئيس الحكومة السابق. المثير للسخرية أن فياض متهم بتبيض الأموال، ومتهم بالتعامل بالمال السياسي، ولسنا هنا في معرض الدفاع عن فياض فهو الأقدر للدفاع عن نفسه، لكننا هنا في معرض الدفاع عن القانون (تطاول الأجهزة الأمنية وقدرتها على تعطيل قرار أعلى سلطة قضائية، وتدخل الأجهزة الأمنية في السياسة وإلحاق الأذى بسمعة المنظمات الأهلية الفلسطينية الناشطة بما يخدم سياسة الاحتلال.
ويمكن لنا أن نستفيض في استعراض العديد من مظاهر العطب في السلوك السياسي الفلسطيني، بما في ذلك «إقالة» أمين سر اللجنة التنفيذية بمرسوم رئاسي وكأن اللجنة التنفيذية أصبحت مجرد دائرة من دوائر السلطة، تتبع لسطلة الرئيس، وسلطة مطبخه، وليست هي أعلى سلطة سياسية يومية، والقيادة اليومية للشعب الفلسطيني.
الأمور في رام الله لا تسير في الاتجاه الصحيح، والفوضى باتت هي العنوان، وتهميش المؤسسة باتت سياسة معلنة لا تقيم وزناً لا للرأي العام ولا لرأي الفصائل.
القضية باتت تحتاج إلى وقفة مسؤولة، قبل فوات الأوان

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف