أثار حادث تحطم مقاتلة أميركية من طراز "إف 35" في بحر الصين الجنوبي، تساؤلات بشأن القدرة على جمع حطام الطائرة قبل وقوعه في الأيدي الخطأ، خاصة في ظل وقوع العديد من الحوادث السابقة التي منحت الجيوش المتنافسة الفرصة لكشف التقنيات العسكرية التي يستخدمها خصومها.

والأربعاء الماضي، ألمح نيكولاس لينجو المتحدث باسم الأسطول السابع الأميركي إلى مخاوف من إمكانية وقوع الطائرة في أيدي الصين التي تدعي السيادة على معظم بحر الصين الجنوبي، وقال: "لا يمكننا التكهن بشأن نوايا بكين بخصوص هذا الأمر"، بحسب وكالة "رويترز".

وكانت البحرية الأميركية، أكدت، السبت، صحة الصور التي تُظهر تحطم المقاتلة "إف 35" أثناء هبوطها على متن حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون"، الاثنين الماضي.

ونقلت شبكة "سي إن إن" عن مسؤولين بالبحرية الأميركية قولهم، إن الطائرة جنحت على سطح حاملة الطائرات التي تزن 100 ألف طن، قبل أن تسقط في المياه أثناء عمليات روتينية لها، ما تسبب في إصابة الطيار و6 بحارة كانوا على متن السفينة بجروح.

مهمة صعبة

وترقد الطائرة "إف-35" التي تبلغ قيمتها 100 مليون دولار في قاع بحر الصين، في حادث لا يزال يكتنفه بعض الغموض، إذ لم تكشف البحرية الأميركية بعد عن مكان سقوط الطائرة على وجه الدقة، ولا حتى الوقت الذي تحتاجه لانتشال حطامها، في حين يتوقع الخبراء أن تستغرق العملية عدة أسابيع.

ويبدو أن مهمة البحرية الأميركية ليست سهلة في ضوء حوادث مشابهة سبق أن وقعت، وأشعلت سباقاً مع الزمن، ينصب التركيز الأكبر خلاله على التأكد من منع وقوع التقنيات العسكرية السرية في أيدي خصوم الولايات المتحدة.

وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها البحرية الأميركية لحوادث من هذا النوع، وهذا ثاني حادث سقوط لطائرة إف-35، التي تصنعها شركة "لوكهيد مارتن" في غضون شهرين تقريباً.

وفي أكتوبر الماضي، تحطمت غواصة هجومية تابعة لها، في جبل تحت المياه ببحر الصين الجنوبي أيضاً، ما تسبب في طرد قادتها.

وفي نوفمبر الماضي، تحطمت مقاتلة تابعة للبحرية البريطانية من طراز "إف 35" في البحر المتوسط، حيث تسابقت آنذاك الغواصات النووية البريطانية والروسية للوصول إلى حطام الطائرة، في ظل مخاوف من كشف أسرار المقاتلة الأكثر تطوراً في العالم، على غرار الرادار السري وأجهزة الاستشعار، التي توفر إمكانية التحليق بسرعة تفوق سرعة الصوت.

وفي عام 2019 تحطمت طائرة يابانية من نفس الطراز في المحيط الهادئ، ما أسفر عن مصرع الطيار، وتسبب اصطدام الطائرة خلال تحليقها بسرعة عالية جداً في جعل مهمة فرق الإنقاذ صعبة، ولم تستطع استرداد معظم أجزائها.

أما أنجح عملية انتشال حطام من الأعماق والتي تم تسجيلها في موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية، فحدثت عام 2019، عندما تم انتشال بقايا طائرة نقل تابعة للبحرية الأميركية من قاع البحر قبالة الفلبين، وكانت على عمق 5 آلاف و638 متراً تحت الماء.

السباق خلال الحرب الباردة

لم يكن التنافس خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي يقتصر على زيادة التسليح وتطوير المفاعلات النووية وتوسيع الانتشار العسكري، ففي صلب ذلك كان كل طرف ينتهز وقوع أية حوادث عسكرية للانقضاض على الحطام وتفكيك أسرار التقنيات العسكرية للطرف الآخر.

وخلال تلك الفترة التي استمرت حتى تفكك الاتحاد السوفيتي رسمياً عام 1991، طورت كل من واشنطن وموسكو قدرات متقدمة لعمليات جمع حطام الطائرات أو السفن الحربية أو الغواصات من قاع البحر، ونفذت كل منهما العديد من المهام بشكل سري.

إحدى أولى عمليات استرداد الحطام العسكري المعروفة حدثت عام 1966 في البحر الأبيض المتوسط، عندما تحطمت قاذفة أميركية تحمل 3 أسلحة نووية حرارية حية قبالة شاطئ بالوماريس في إسبانيا، حيث فقدت القوات الجوية الأميركية طائرة خزان من طراز "كيه سي -135"، وقاذفة قنابل استراتيجية من طراز "بي-52 ستراتوفورتريس" والأسلحة النووية التي كانت تنقلها، وانتهى الأمر بإحدى القنابل على عمق يزيد عن 2500 قدم في قاع البحر، وهو عمق بعيد جداً عن قدرة وصول الغواصين.

وسرعان ما حددت الغواصة الأميركية المأهولة "DSV Alvin"، موقع القنبلة، لكنها سقطت خلال عملية رفعها، ثم وُجدت القنبلة مرة أخرى على عمق 400 قدم، إلا أن عملية استعادتها تعثرت أيضاً، قبل أن ينجح الأمر في وقت لاحق بعد قرابة 3 أشهر من المحاولات.

الغواصة الأميركية
الغواصة الأميركية "إن آر 1" المتخصصة في انتشال الحطام العسكري من قاع البحار والمحيطات - hisutton.com

تطوير معدات انتشال الحطام

الحادث سلط الضوء على الحاجة إلى معدات بحرية مخصصة لاستعادة الحطام الحربي من قاع البحار، وطورت الولايات المتحدة بالفعل الغواصة "USS Halibut" لمثل هذه العمليات، وكانت أكثر مهامها شهرة، على الرغم من أنها كانت سرية للغاية، هي عملية "Ivy Bells" عام 1971، بهدف انتشال حطام صاروخ روسي في بحر أوخوتسك.

وبعد 3 سنوات وتحديداً عام 1974، عندما كانت الحرب الباردة على أشدها، بدأت وكالة المخابرات المركزية الأميركية خطة أكثر طموحاً، عبر مشروع "Azorian"، الذي سعى إلى البحث عن حطام الغواصة السوفييتية "ك 129" التي غرقت في ذلك الوقت قبالة هاواي في المحيط الهادئ، خاصة بعد أن فشلت محاولات البحرية السوفييتية في تحديد موقعها، وتمكنت الولايات المتحدة من انتشال بعض أجزائها المهمة، بما في ذلك غرفة الرموز.

إلا أن ذروة هذا السباق المحموم كانت عام 1976، عندما طورت الولايات المتحدة غواصة صغيرة الحجم تعمل بالطاقة النووية ويمكنها الزحف على طول قاع البحر، ولديها قدرات كبيرة في عمليات استعادة الحطام من تحت الماء.

ونجحت الغواصة التي عُرفت باسم "إن آر 1" في استعادة حطام مقاتلة من طراز "إف 14" تابعة للبحرية الأميركية بعد أن انزلقت من حاملة الطائرات "جون إف كينيدي" واستقرت على عمق 200 قدم تحت الماء.

بدورها سعت روسيا إلى مجاراة الولايات المتحدة في تطوير تقنياتها المتخصصة في استعادة الحطام، وفي عام 1995 تمكنت من إطلاق الغواصة "لوشاريك" التي تعمل بالطاقة النووية، وتعد المكافئ للغواصة الأميركية "إن آر 1".

وفي عام 2015 كشفت روسيا النقاب عن أحدث جيل من السفن القادرة على العمل في المياه العميقة، وتحمل اسم "BESTER DSRV" أو "AC-40"، ويبلغ طولها 40 قدماً، وتحتوي على نظام لرسو السفن يسمح لها بالارتباط بالغواصة المنكوبة وإنقاذ ما يصل إلى 18 غواصاً في المرة الواحدة.

وتتمتع الغواصة الروسية بوجود أذرع مناورة للأعمال الهندسية تحت الماء، تمكنها من استعادة الصواريخ أو أجزاء الطائرات أو غيرها من العناصر من قاع البحر.

الغواصة الروسية
الغواصة الروسية "Bester" المتخصصة في إنقاذ أطقم الغواصات المتعطلة في قاع البحر وانتشال الحطام - aoosk.ru

كنوز من الأسرار العسكرية

وعلى الرغم من أن بكين قالت إنها ليست مهتمة بحطام الطائرة الأميركية، موجهة الأنظار نحو قضية أخرى لخّصها المتحدث باسم الخارجية الصينية بدعوة الولايات المتحدة إلى المساهمة أكثر في السلام الإقليمي بدلاً من "استعراض القوة في كل منعطف"، إلا أن بعض الخبراء شككوا في النوايا الصينية وذهبوا إلى مسار آخر تماماً.

وقال بيتر ليتون خبير الطيران العسكري بجامعة جريفيث الأسترالية، إن الصينيين يتمتعون بتاريخ طويل من "القدرة على أخذ شيء ما من الخارج، وإجراء هندسة عكسية له، ليكون هذا بالتأكيد منجم ذهب بين أيديهم"، في إشارة إلى اعتماد بكين على التقنيات الأجنبية في تطوير صناعاتها ومنتجاتها، وهو الأمر الذي لا يزال يُشكل أحد جوانب الصراع مع الولايات المتحدة المتعلقة بحقوق الملكية.

وفي تقرير نشرته الجمعة، نقلت شبكة "بي بي سي" البريطانية عن خبيرة الدفاع، آبي أوستن، قولها إن الوقت الطويل نسبياً المتوقع أن تستغرقه عملية البحث عن حطام الطائرة الأميركية، سيؤدي إلى انتهاء صلاحية بطارية "الصندوق الأسود"، وبالتالي سيكون من الصعب تحديد موقع الطائرة.

وأضافت: "من المهم للغاية أن تستعيد الولايات المتحدة حطام هذه الطائرة (إف-35) التي تعدّ بمثابة حاسوب طائر، لا سيما أنها مصممة للربط بين معدات أخرى، في ما يسمّيه سلاح الجو 'ربط أجهزة الاستشعار بأجهزة إطلاق النار".

واعتبرت أوستن أنه في ضوء عدم امتلاك الصين لهذه التقنية، على الأرجح ستسعى جاهدة إلى الوصول لحطام الطائرة قبل الأميركيين، لأن ذلك يمثل لها قفزة كبيرة للأمام.

وتابعت: "إذا تمكنوا من الوصول إلى قدرات الربط بين الشبكات التي تتمتع بها المقاتلة (إف-35)، فإن ذلك من شأنه تقويض فلسفة حاملات الطائرات من أساسها".

وبحسب الشبكة، فقد سبق أن انتشل الجيش الصيني الغواصة البريطانية "إتش إم إس بوسيدون" التي غرقت قبالة ساحل الصين الشرقي عام 2019.

وبينما لا يزال من غير الواضح مصير حطام الطائرة الأميركية، في ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن من استعادتها بشكل كامل، أو أن الصين ستدخل السباق وتضع يديها على بعض أجزائها، فإن هناك خيار آخر قد يتم اللجوء إليه، يتمثل في نسْف حطام الطائرة قبل أن الوصول إليه في عملية مباغتة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف