أغلب الظن أن الاندفاع التركي نحو التدخل في الشمال السوري كان محكوماً بالشروط الأميركية، أي التزام أنقرة بأولوية قتال «داعش»
للمرة الأولى منذ تشكيل «التحالف الدولي» في مواجهة «داعش»، شرعت أنقرة أخيراً بتنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق، وترافق ذلك أيضاً مع قصف الطائرات التركية معسكرات في شمال العراق تابعة لحزب العمال الكردستاني، وذلك للمرة الأولى أيضاً منذ ثلاث سنوات على الأقل. وبالتزامن مع ذلك فتحت تركيا قاعدتي «إنجيرليك» وديار بكر أمام طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وجرى حديث عن إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية بطول تسعين كيلومتراً وعرض أربعين تحت شعار محاربة التنظيم الإرهابي.
وجاء قرار انضمام أنقرة للحملة ضد «داعش» غداة هجوم انتحاري يشتبه أن تنظيم الدولة الإسلامية يقف وراءه، أسفر عن مقتل 32 شخصاً في بلدة سوروتش جنوب شرق البلاد.
تحول جذري
وقد شكل هذا التحول في الموقف التركي انقلاباً كاملاً في سياسات تركيا الإقليمية، حيث امتنعت طوال الفترة الماضية عن محاربة التنظيم الإرهابي فعلياً، بل وغضّت النظر عن تسرب المقاتلين الأجانب والسلاح إليه عبر أراضيها. وقد ربط المراقبون هذا الانخراط التركي الجديد في سوريا بجملة من الرهانات الداخلية والإقليمية والدولية، لدى قيادة حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً الرئيس رجب طيب أردوغان .
وكان المتابعون قد تحدثوا فيما مضى عن «هدنة غير رسمية وغير معلنة» بين تركيا و«داعش»، رفضت تركيا بموجبها، وفي أكثر من مناسبة، الانضمام إلى التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم المتشدد في سوريا والعراق، ومنها معركة كوباني الشهيرة. وتضمنت الهدنة، حسب الأحاديث التي راجت، أن تغض تركيا الطرف عن نشاطات التنظيم على أراضيها، مادام عناصره يعملون بصمت ويلتزمون بعدم تنفيذ أية عمليات عدائية ضد الأتراك.
وعلى الرغم من موقف أنقرة الجديد، ما زال عدد من المحللين يستبعدون انهيار هذه الهدنة، في المدى القريب على الأقل، مرجّحين أن لا تتعدى الضربات العسكرية التركية التي ستوجّه للتنظيم المتشدد نطاق عملية «فركة إذن» تأديبية، في حين سيتلقى الضربات الرئيسة حزب العمال الكردستاني.
الأولويات التركية
امتناع أنقره السابق عن الانضمام إلى التحالف الدولي المناهض لتنظيم «داعش»، كان يتصل مباشرة بالاستراتيجية التركية المتبّعة في سوريا، والتي وضعت على رأس أولوياتها إزاحة النظام السوري، وليس محاربة الإرهاب و«الدولة الإسلامية». وكان من الواضح تصادم الأولوية التركية هذه مع أولوية أميركا (هزيمة «داعش» أولا). وعلى ذلك فقد كبحت الإدارة الأميركية سعي أردوغان ورغبته العارمة في فرض منطقة حظر جوي داخل الأراضي السورية في السابق.
وإلى ذلك، فلطالما أعربت أنقرة عن اعتقادها، (أو بالأحرى مخاوفها)، من أن تؤدي هزيمة «داعش» إلى خلق «فراغ على الأرض» في سوريا، يمكّن أكرادها وحدهم من سدّه، وبالتالي تعزّيز حضورهم المستقبلي في معادلات سوريا الداخلية، ومن ثمّ الإقليمية. وكان هذا أحد أسباب التحفظ التركي عن الانخراط العسكري المباشر سابقاً.
وطبعاً، لم تكن أنقرة راضية عن التقدم المطرّد الذي تحرزه وحدات «حماية الشعب» الكردية ضد «الدولة الإسلامية»، وخصوصاً بعد أن فرض هؤلاء حضورهم بشكل كبير بعد تحرير مدينة عين العرب (كوباني)، مستفيدين من الضربات الجوية للتحالف الغربي، وهو ما اعتبرته أنقرة تحدياً كبيراً لها وبداية لمرحلة جديدة من الحضور الكردي المستقل في الشأن الاستراتيجي للإقليم، في وقت يخضع فيه نحو نصف حدود سوريا مع تركيا التي يبلغ طولها 900 كيلومتر لسيطرة الأكراد.
ويخشى أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» من أن يشكل هذا التقدم، كسباً إضافياً للأقلية الكردية في تركيا، بعد المكاسب الانتخابية التي حققتها أخيراً، مما قد يدفعها إلى رفع سقف شروطها للقبول بالتسوية (أو المصالحة) التي يجري العمل بشأنها، أو معاودة تمردها العسكري الذي قاده حزب العمال الكردستاني لثلاثة عقود مضت. وفي المحصلة، تأمل القيادة التركية أن يفضي انخراطها المتأخر في محاربة «داعش» إلى لجم الاندفاعة الكردية في سوريا وتركيا في آن معاً، حتى لو أدى ذلك إلى تراجع «عملية السلام» مع الأكراد، أو إلى مواجهة عسكرية جديدة معهم، علماً أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يشاطران الموقف التركي في تصنيف الحزب الكردي كـ«منظمة إرهابية».
الرهان الداخلي
وإذ يسعى أردوغان من وراء ذلك كله، إلى تحسين موقف تركيا على الساحة الدولية عبر اتخاذ موقف أقوى من «داعش»، فإنه يطمح، في الوقت نفسه، أن يساعده ذلك في الخروج من الأزمة التي أوقعته فيها الانتخابات الأخيرة، التي شكلت انتكاسة له بعد أن فقد حزبه الغالبية في البرلمان، وحصل حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعدّ بمثابة الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، على نسبة الأصوات الكافية لدخوله البرلمان.
ويرجّح المراقبون أن يجد حزب الشعوب الديمقراطي نفسه محرجاً بعد الهجمات الكردية الأخيرة على عناصر من الشرطة والجيش التركي، فهو إما سيندّد بحزب العمال الكردستاني، الذي يقف خلف هذه الهجمات، داعياً إياه إلى وقف العنف، فيجازف بذلك بخسارة جزء من قاعدته الانتخابية الكردية، وإما سيتبنى خطاباً مؤيداً لحزب العمال الكردستاني، ليجازف بإغضاب الجماهير والطبقة السياسية التركية.
ويعوّل أردوغان، كما يبدو، على إجراء انتخابات مبكرة، ينهزم فيها الحزب الكردي ولا يتخطى حاجز العشرة بالمئة اللازمة للتمثل بالبرلمان، فتجيّر أصواته إلى الحزب الأكبر (كما ينص القانون الانتخابي التركي)، فتتعزّز فرص أردوغان وحزبه مرة أخرى. وينطلق هذا التعويل من الرهان على أن تؤجّج الحملة العسكرية التركية ضد أكراد سوريا ومقاتلي «حزب العمال الكردستاني»، المشاعر القومية التركية، فتجسر مؤقتاً على الأقل، شرخ العلاقات بين «حزب العدالة والتنمية» من جهة، و«حزب الحركة القومية» اليميني و«حزب الشعب الجمهوري» اليساري من جهة أخرى، وأن يفضي ذلك إلى امتناع مؤيدي الحزب الأخير خصوصاً عن إعطاء أصواتهم للأكراد كي يتجاوزوا حاجز العــشرة بالمئة ـ كما فعلوا في الانتخابات الأخيرة - ما يعزّز فرص أردوغان وحزبه في أية انتخابات مبكرة.
الرهان الإقليمي
وإلى ذلك كله، فإن ما يقلق تركيا كذلك هو المآل الذي ستؤول إليها خريطة النفوذ الإقليميّ بعد الاتّفاق النوويّ الأميركيّ – الإيرانيّ. وتالياً، ضرورة التكيّف مع ظروف ما بعد الاتّفاق، من خلال تعزيز أوراق القوة التي بين أيديها، أو تلك التي بوسعها أن تحوز عليها، لموازنة القوّة المستجدّة، التي قد تحرزها طهران بعد الاتفاق المذكور.
وعلى ذلك، يغدو ملحّاً في نظر أنقرة، السعي لتوسّيع دوائر نفوذها جنوباً، على حساب دمشق والأكراد و«داعش» في آن معاً، إلى جانب سعيها، في الوقت نفسه أيضاً، لإعادة الدفء لعلاقاتها مع الولايات المتّحدة.
الرهان على واشنطن
على رغم صدور تقارير تتناول موافقة واشنطن على إنشاء منطقة حظر طيران على الحدود التركية ـ السورية، إلا أنه من الواضح التباين، وأحياناً التناقض، بين تصريحات المسؤولين الأميركيين والأتراك حيال هذا الأمر، فالتصريحات الأميركية تتحدث عن «منطقة خالية من داعش» فقط وليس أكثر!.
وأغلب الظن أن الاندفاع التركي نحو التدخل في الشمال السوري كان محكوماً بالشروط الأميركية، بعدما تخلى الأتراك عن كل شروطهم، للسماح للطيران الأميركي باستخدام قاعدة إنجيرليك الجوية، كما قال منسق التحالف الجنرال جون آلن. بمعنى التزام أنقرة بالاستراتيجية الأميركية المتمثلة بأولوية قتال «داعش»، مع هامش لقتال «حزب العمال الكردستاني».
وثمة من يقول بأن التفاهم بين الطرفين لا يتضمن حتى مثل هذا الهامش، في وقت يدرك فيه المسؤولون الأميركيون أن «المعركة الحقيقية التي يهرع إليها الأتراك في سوريا ليست ضد «داعش»، رغم ما جرى في سوروتش، لكنها معركة قبل كل شيء ضد الأكراد السوريين، والتصدي للخطر الداهم ببناء دولة كردية محتملة».
ولكن من شأن انخراط تركيا في محاربة «داعش»، وإعادة ترتيب أولوياتها لتتوافق مع الأولويات الأميركية، أن يعيد انعاش مجمل العلاقات بين البلدين الحليفين، بعد أن مرّت بمرحلة من التوتر الواضح، وفي هذا مصلحة تركية مباشرة على مختلف الصعد الداخلية والخارجية، وخصوصاً بعد توقيع الاتفاق النووي مع طهران!.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف