- تصنيف المقال : شؤون عربية ودولية
- تاريخ المقال : 2015-08-15
جاءت الاحتجاجات كنتيجة طبيعية لتراكمات الاخفاق والتراجع في كافة المجالات منذ سنة 2003، بعد أن تصدّرت القوى والأحزاب الدينية المشهد السياسي في العراق
صادق البرلمان العراقي (11/8) وبأغلبية ساحقة، على حزمة الإصلاحات التي أعلنها رئيس الوزراء حيدر العبادي، إلى جانب «ورقة إصلاح برلمانية» مكمّلة. واعتبر سليم الجبوري رئيس البرلمان العراقي أن حزمتي الإصلاح الحكومية والبرلمانية «تمثل انعطافة في التطبيق في فكر الدولة الحديثة»، بعد أن شهدت الجلسة «تحولاً من الروتين السياسي»، وذلك بفضل جموع المتظاهرين التي خلقت «مدرسة جديدة تقوم على أساس الإرادة والتحدي والثبات».
وكان العبادي أقدم على اتخاذ حزمة إصلاحات إدارية ومالية واقتصادية يمكن أن تمهّد الطريق لانقلابٍ على نظام المحاصصة الطائفية والإثنية المعمول به منذ الاحتلال الأميركي عام 2003، شريطة أن يتمّ المضي بها حتى النهاية، والحاقها بحزم أخرى تكرّس نهجاً جديداً في الحكم.
وشملت الحزمة الإصلاحية عزل نواب رئيسي الجمهورية والوزراء، وتقليص الوزارات عبر إلغاء بعضها ودمج أخرى، واستبدال عدد من الوزراء. كما تضمنت عدم خضوع أصحاب المناصب العليا، من وكلاء ومستشارين ورؤساء هيئات، لنظام المحاصصة، واختيار بدلاء لهم على أساس الكفاءة، ومنح رئيس الوزراء صلاحيات إضافية تخوله تكليف أو إعفاء المديرين العامين، وتشكيل لجنة برئاسته لاختيار الكوادر الإدارية.
وتضمنت الحزمة، التي أقرها مجلس الوزراء بالإجماع (9/8)، تقليص مخصصات كبار المسؤولين وخفض عديد حراسهم، وإعادة هيكلة نفقات الدولة وإيراداتها، ومعالجة التهرب الضريبي، و«إلغاء المخصصات الاستثنائية لكل الرئاسات والهيئات ومؤسسات الدولة والمتقاعدين منهم»، و«فتح ملفات الفساد السابقة والحالية.. على أن يتمّ «كشف الذمم المالية لكبار المسؤولين ومتابعة ومراقبة مداخيل هؤلاء، وما إذا كانت هناك مداخيل غير شرعية لهم».
وكانت مدن عراقية عدة، أبرزها بغداد، شهدت تظاهرات حاشدة خلال الأيام الماضية، للمطالبة بتحسين مستوى الخدمات لا سيما الماء والكهرباء، ومكافحة الفساد ومحاسبة المقصّرين في دوائر الدولة. وقد بدأت هذه الموجة الاحتجاجية بتظاهرة في ساحة التحرير ببغداد (31/7)، قامت بها القوى الديمقراطية والمدنية (علمانيون، مثقفون، وناشطون)، قبل أن تنزل القوى الدينية إلى الشارع، سواء في بغداد أم في مدن الجنوب والفرات الأوسط.
وتلقّت مطالب المتظاهرين دعماً في غاية الأهمية تمثل في دعوة المرجع الديني السيد علي السيستاني (7/8)، الذي يتمتع بتأثير وازن في السياسة العراقية، العبادي إلى أن يكون «أكثر جرأة وشجاعة» ضد الفساد، وذلك عبر اتخاذ «قرارات مهمة وإجراءات صارمة في مجال مكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية».
تحفظات دستورية
وما خلا بعض التحفظات التي أشارت إلى تجاوزات دستورية تتخطّى صلاحيات رئيس الحكومة في بعض بنود «الحزمة» المقدّمة، وخصوصاً عزل نواب رئيس الجمهورية، الذي قدّر البعض أنها تحتاج إلى تعديل دستوري، وتحفظات أخرى أبداها نواب من ائتلاف «دولة القانون»، على خلفية إقصاء زعيمها (المالكي) من منصبه، على رغم أن الأخير أعلن تأييده ـ الظاهري على الأقل ـ لها، فقد قوبلت الإصلاحات عموماً بتأييد مختلف الكتل السياسية، بما فيها تلك الأطراف المتوقع تضررها منها، وذلك في ظل الضغوط الكبيرة التي تواجهها القوى السياسية من الشارع من جهة، ودعم المرجعية الدينية لهذه الإصلاحات من جهة أخرى.
وفي ضوء ذلك، قرر رئيس البرلمان سليم الجبوري تحويل الجلسة البرلمانية المخصصة لإقرار الإصلاحات إلى جلسة علنية، تمّ نقلها مباشرة على الهواء، وذلك للمرة الأولى بعدما كانت تبث مسجّلة. كما قرر أن يكون التصويت برفع الأيدي بدلاً من التصويت الإلكتروني، ليكون بإمكان المواطنين معرفة الرافضين والموافقين.
وقبل المصادقة عليها، تباينت الآراء والمواقف تجاه هذه الإصلاحات، فمنهم من اعتبر أنها جاءت في الوقت الصحيح. ومنهم من رأى أنها «على أهميتها تبقى بعيدة عن حل إشكالات البلاد في عمقها والتي تتمثل بمشاكل بنيوية». ومنهم من وصفها بأنها «عملية التفافية قام بها العبادي للتخلص من غريمه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي بقي يشاغب ويحرّض عليه». وبأن العبادي «سيستعمل هذه القرارات من أجل ترسيخ سلطاته على المسرح السياسي، وخصوصاً أنها تمنحه صلاحيات غير مسبوقة».
وقد ردّ العبادي على أصحاب الرأي الأخير معتبراً أن ما اتخذه من توجهات إصلاحية «لا ينبع من رغبة بالانفراد في السلطة ولا لتجاوز الأطر الدستورية، بل لتكريس دولة المواطنة وإبعاد الهيمنة الفردية والحزبية والطائفية على مفاصلها وعدم تكبيل مؤسسات الدولة بالمحاصصة المقيتة».
أبعاد وخلفيات الأزمة
وقد اعتبر مراقبون أن الاحتجاجات جاءت كنتيجة طبيعية لتراكمات الاخفاق والتراجع في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية منذ سنة 2003، بعد أن تصدّرت القوى والأحزاب الدينية (الشيعية) المشهد السياسي في العراق، في وقت انكشف فيه، على نحو بيّن، افتقار هذه القوى للخبرة في الحكم، فضلاً عن تخندقها ضمن أجندات طائفية ومشاريع إقليمية ضيقة.
وفيما رأى المراقبون أن الاصلاحات المقرّة «خطوة في الاتجاه الصحيح»، إلا أنهم شدّدوا في المقابل، على ضرورة أن تعقبها خطوات أخرى من أجل إصلاح النظام السياسي والاقتصادي ككل»، معتبرين أن العطب أصاب «العملية السياسية في العراق جرّاء فساد الطبقة السياسية، التي وصلت إلى الحكم على ظهر الدبابات الأميركية، وعملت ما بوسعها على «تقويض البني الدولتية والمجتمعية في العراق، من خلال تغليب مصالحها الشخصية، وارتباطاتها الإقليمية غير الخافية، فضلاً عن اعتمادها آليات المحاصصة والطائفية، التي كرّست الانقسام في المجتمع العراقي على أسس مذهبية وإثنية».
وعلى ذلك، فإن مهمة العبادي في تنفيذ إصلاحاته لن تكون سهلة، بل ستكون عملية بالغة الصعوبة والتعقيد، حسب المراقبين أنفسهم، وذلك نظراً لضخامة حجم الفساد وتغلغله في مختلف مفاصل الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك سلك القضاء، ناهيك عن تبوّء رموز الفساد مناصب عليا، رسمية وحزبية، توفّر لهم نفوذاً وسلطة قد يفوق نفوذ وسلطة العبادي نفسه.
وأشار المراقبون، في هذا السياق، إلى دور «الميليشيات الشيعية المسلحة وقياداتها، التي تتمتع بنفوذ واسع، وتتمتع بروابط قوية محلية وإقليمية». وساقوا على سبيل المثال، رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، حيث ثمة قناعة أكيدة لدى قطاعات واسعة من المتظاهرين بأنه المسؤول الأول عن استشراء الفساد في العراق طوال فترتي حكمه، مؤكّدين أنه أهدر خلال ثماني سنوات ما يصل إلى 800 مليار دولار لا يعلم أحد كيف صرفت.
وهنا يتساءل المراقبون عن خيارات العبادي المقبلة؛ وهل سيمضي بضرب نظام المحاصصة، واستبداله بنظام الكفاءات لقيادة الدولة حقاً، أم سيخضع لضغوط بعض القوى التي يمكن أن تعمل على إفراغ «الهبّة» الجماهيرية من محتواها وتحويلها باتجاهات أخرى مغايرة. ومن تلك القوى فصائل «الحشد الشعبي» وزعماؤها الذين دعموا التظاهرات أخيراً، لكنهم رفعوا شعارات تطالب بإسقاط البرلمان وتحويل نظام الحكم إلى رئاسي بدلاً من النظام البرلماني. وأشار المراقبون إلى ضغوط متوقعة سيتعرض لها العبادي، سواء من داخل حزبه أو من القوى الأخرى، أو من خارج الحدود.
و في هذا الصدد، دعا رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء حسن فيروز آبادي الشعب العراقي إلى «الحذر من مكائد الأعداء في الداخل والخارج»، وقال إن «بعض الأزمات في العراق مصطنع، والدعوة إلى التظاهر تتم بتحريض من مجموعات معروفة، ومن غير المسلمين أحياناً».
الخلاصة
وفيما أكدّت التحركات الاحتجاجية أن التذمر من الطبقة الحاكمة لم يعد مقتصراً على جمهور «السنة» أو «الأكراد»، بل بات يشمل معظم العراقيين، بمختلف مكوناتهم وأطيافهم، فقد خلص المراقبون إلى القول بأن حال العراق والعراقيين لن تتجه نحو التحسّن إلا عبر الخلاص من الطبقة السياسية الفاسدة، والتوجه نحو صياغة «عقد اجتماعي وسياسي جديد»، يؤسس لقيام عراق على أسس وطنية وديمقراطية، بعيداً عن المحاصصات الطائفية والمذهبية والإثنية والمناطقية.
بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي:
خطوة ايجابية.. يتوجب ترسيخها واستكمالها
أعلن الحزب الشيوعي العراقي ترحيبه بالقرارات الصادرة عن مجلس الوزراء، واعتبر أنها أتت «استجابة لرغبات ملايين العراقيين، وتعكس تفاعلاً مع التظاهرات الاحتجاجية التي عمّت مدن العراق».
وطالب الحزب باستكمال الإجراءات المعلنة بأخرى تحوّلها إلى توجه عام ثابت وراسخ، يشمل كل مرافق الدولة والمجتمع، وبضمنها ما يمتد الى حماية اقتصاد البلد من المافيات الطفيلية في مؤسسات الدولة وخارجها، التي هي امتداد وحليف لبيروقراطية رجال الحكومة وأجهزتها الإدارية، الذين كدّسوا المليارات نهباً وسلباً وتلاعباً وغشاً.
كما طالب الحزب باختيار هيئات تنفيذ ورقابة كفؤة ونزيهة ومهنية، لإنجاز المهمة في الوقت المحدد المناسب وبكفاءة عالية. إلى جانب التوجه نحو معالجات سياسية تنسجم مع ضخامة عملية الإصلاح الحقيقي وصعوبتها، وتتلخص في زعزعة نظام المحاصصة الطائفية الاثنية وإنهائه.
فؤاد محجوب