دون وجود رؤية سياسية واضحة للمستقبل فإن مشروع القناة الجديدة يمكن أن تتبخر فوائده، خاصة في ظل التوقعات المبالغ فيها لعوائد المشروع
دشّن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي (6/8)، مشروع قناة السويس الجديدة، بمشاركة العشرات من رؤساء وملوك ووزراء ومسؤولين يمثلون أكثر من 70 دولة. ويبدو أن السلطات المصرية أصرّت على أن يكون التدشين في إطار احتفال أسطوري، وبحضور وفود رسمية عالمية، على نحو أعاد إلى الأذهان أحاديث المؤرّخين عن الحفل الذي نظّمه الخديوي إسماعيل عند افتتاح قناة السويس الرئيسية، بما في ذلك استخدام يخت «المحروسة» الملكي، الذي شارك في افتتاح القناة الأم قبل حوالي 150 عاماً، وذلك بغرض توجيه رسائل الى الداخل والخارج، مفادها أن «الدولة المصرية مازالت قويّة، وأنها قادرة على تنفيذ ما تطرحه من مشاريع».
وقد ينتقد اقتصاديون انفاق القاهرة 8 مليارات دولار لإنجاز مشروع طويل المدى، كان من الممكن التركيز على أولويات أخرى قبل تنفيذه. لكن يبدو أن النظام الحاكم في مصر، وبعد أكثر من سنة على توليه السلطة، تعامل مع المشروع الجديد بوصفه «رافعة» لمنحه مزيداً من الشرعية، ومساعدته في تثبيت أركان حكمه على نحو مباشر. ولم تخل كلمة السيسي في احتفال التدشين من دلالات سياسية مهمة، فاعتبر أن افتتاح القناة «خطوة واحدة من ألف خطوة، المصريون مطالبون بأن يكملوها»، وبأنه يمثل «انطلاقة لمشروعات جديدة، من أهمها مشروع تنمية قناة السويس». مثلما أكد كذلك على أن افتتاح القناة يشكل «رسالة انتصار على الإرهاب».
ولعلّ هذا ما يفسّر لماذا خطف هذا المشروع الأضواء من انجازات أخرى تحققت خلال الأشهر الماضية، رغم اتصالها المباشر بحياة المواطنين وتأثيرها فيها، ومن بينها حل مشكلة انقطاع الكهرباء في الصيف، بشكل سريع، ومواجهة أزمة المحروقات، التي كانت سببا دائما للسخط الشعبي في مصر، والتحسن الملحوظ الذي شهدته أزمة رغيف الخبز في الفترة الأخيرة.
وعود وتوقعات كبرى
وفي الواقع، حمل هذا المشروع الضخم وعوداً وتوقعات كبرى قادرة على أن تغير وجه مصر تماماً، إذا ما ترجمت إلى حقائق ملموسة على الأرض. فالقناة الجديدة ستعمل على زيادة حركة التجارة العالمية، بعد ازدواج الممر الملاحي مما يرفع طاقة القناة الاستيعابية إلى نحو 97 سفينة عملاقة في اليوم بدلاً من 49 سفينة. وتتوقع الحكومة المصرية أن ترتفع إيرادات العبور في القناة سنويا من 5,6 مليار دولار إلى أكثر من 12 مليار دولار بحلول عام 2023. وتشير بعض الأرقام إلى أن حجم الاستثمارات المتوقعة في البنية الأساسية وتطوير الموانئ بمنطقة محور قناة السويس الجديدة ستصل لنحو 150 مليار دولار.
وإلى جانب الرسائل السياسية المشار إليها أعلاه، فإن المشروع يكتسب أهمية قصوى بالنسبة إلى مستقبل مصر، باعتباره الحجر الأساس في خطط التنمية التي يراهن عليها النظام المصري لإحداث تغييرات جذرية على المستوى الاقتصادي، خصوصاً في ظل الحديث عن مشاريع أخرى، أكدت الدولة المصرية أن العمل سيبدأ بها فور تدشين المجرى الملاحي الجديد، وتتعلق خصوصاً بتطوير محور قناة السويس، وهو مشروع يهدف إلى تحويل منطقة القناة إلى مركز اقتصادي متكامل.
وقد أوضح السيسي هذا الامر في كلمته الافتتاحية، حين قال إن «تنمية منطقة القناة تستهدف إنشاء منطقة اقتصادية عالمية، تشمل عدداً من الموانئ والمدن الجديدة والمراكز اللوجستية والتجارية، وتحقق زيادة لمعدلات التبادل التجاري بين مصر وجميع دول العالم». وأضاف السيسي أن حزمة المشروعات هذه تستهدف «إنشاء شبكة قومية للطرق العملاقة، وتنمية زراعية تطمح لاستصلاح مليون فدان، وإنشاء عدد من المدن الجديدة لتسـتوعب الزيادة السكانية، بالإضافة إلى البدء في تدشين عدد من الموانئ، والتوسع والتنمية الصناعية من خلال تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة».
وربط السيسي بين هذا المشروع وبين عزم الدولة المصرية على «المضي قدماً في خطى الإصلاح السياسي والاجتماعي، لتحقيق أهداف وطموحات أبنائها في العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانيـة».
ويبدو أن الاصرار على إنجاز عمليات الحفر في «القناة الجديدة» خلال عام واحد، بدلاً من ثلاثة أعوام، وبرغم عدم وجود ضرورة اقتصادية لذلك، كما قال محللون اقتصاديون، استهدف طمأنة المستثمرين، وتغيير الصورة المتداولة عن البيروقراطية المصرية التي ضجّ المستثمرون بالشكوى منها. وأشار الرئيس المصري، في هذا الصدد، إلى أن عملية الحفر لم تجر في ظروف طبيعية، وانما في ظل مواجهة كبرى للجماعات المسلحة والفكر المتطرف.
الترويج الكبير للمشروع
بيد أن ذلك كله لم يمنع من وجود ملاحظات وانتقادات بشأن الترويج الزائد عن الحد لهذا المشروع، وبالتالي حجم التفاؤل (الذي قد يكون مبالغاً فيه أيضاً)، الذي بني على المشروع. ورأى مراقبون أن تأثير الإنجاز والحكم على نجاح المشروع يتوقف إلى حدّ كبير على الخطوات التي ستلي الافتتاح، وكيفية تعامل النظام مع هذا الإنجاز، وسبل استثمار الاحتفاء الشعبي به بشكل إيجابي.
وأشار هؤلاء إلى أن تاريخ مصر مليء بالإنجازات والإخفاقات، وذلك حين تعجز السلطات عن استثمار «لحظات» استثنائية في تاريخ الدولة والمجتمع المصريين. أو حين يجري العمل بالقطعة، أو بعدد من المشاريع التنموية الكبرى، ولكن من دون ترابط فيما بينها، ومن دون استنادها إلى رؤية مستقبلية استراتيجية شاملة. كما حدث عام 1956 عند تأميم القناة وبناء السد العالي وسط تأييد شعبي كبير، وما أعقبه من فشل في استغلال ذلك فكانت النتيجة حدوث نكسة حزيران / يونيو 1967، وحصل أمر مشابه عقب انتصارات تشرين الأول / أكتوبر 1973، حين لم يتم توظيف الانتصار العسكري لتحقيق انجازات أخرى، وتكرر الأمر نفسه حين أضاعت السلطات فرصة الأمل لدى المصريين في أعقاب ثورتي «25 يناير» و«30 يونيو».
وفي دعوة إلى استغلال حالة الاتحاد بين الشعب والسلطة، التي عكستها الاحتفالات بافتتاح قناة السويس الجديدة، طالب محللون وخبراء الرئيس السيسي بتبني مشروع سياسي كبير يوحد صفوف المصريين وينهي خلافاتهم، داعين في الوقت نفسه إلى استبعاد المتطرفين وكل من يرفع السلاح في وجه الشعب.
وحذر هؤلاء من أنه دون وجود رؤية سياسية واضحة للمستقبل فإن المشروع يمكن أن تتبخر فوائده، خاصة في ظل التوقعات المبالغ فيها أحيانا لعوائد المشروع. ولفت هؤلاء إلى أن حفر القناة تم بأموال مصرية، وهذا أمر جيد، لكن استكمال المشروع بتنمية محور القناة لا بد أن يكون باستثمارات خارجية، وهذه مسألة لن تحدث دون وجود استقرار سياسي بمصر.
إذاً، فالمعاني والدلالات الإيجابية لنجاح القناة الجديدة كثيرة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا بعد؟ كيف يمكن توظيف الأمل لدى المصريين بعد افتتاح القناة الجديدة؟ هل سيتم الاكتفاء بالمشاريع المحصورة بمحور القناة الجديدة، أم سيجري التوجه نحو بناء رؤية استراتيجية شاملة لمحاور تحرك مصر سياسياً واقتصادياً وثقافياً خلال الـ 20 أو 25 سنة المقبلة؟ ومثل هذه الرؤية لا بد أن تجمع طبعاً بين المشاركة السياسية ومحاربة الإرهاب والتنمية الشاملة، وصولاً إلى دور مصر في محيطها العربي والإفريقي والدولي؟!.
تواريخ مفصلية
* ـ 19 تشرين الثاني / نوفمبر 1869: افتتاح الخديوي إسماعيل لقناة السويس
* ـ 26 تموز / يوليو1956: جمال عبدالناصر يعلن تأميم قناة السويس
* ـ 5 حزيران / يونيو1975: أنور السادات يعلن إعادة فتح القناة للملاحة الدولية
* ـ 6 آب / أغسطس 2015: عبدالفتاح السيسي يفتتح مشروع قناة السويس الجديدة
قناة السويس الجديدة في أرقام
تعتبر قناة السويس الجديدة أحد أضخم المشاريع المصرية في القرن الحادي والعشرين على الإطلاق. وقد تولت الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة العمل والإشراف علي تنفيذ المشروع، الي جانب هيئة قناة السويس.
شارك أكثر من 43 ألف عامل في حفر وبناء القناة الجديدة، وانتهى العمل في بناء المشروع خلال عام واحد وبمعايير دولية، بشهادة الخبراء وأهل الاختصاص.
- يبلغ طول قناة السويس الأصلية 190 كيلو متر، ويبلغ طول القناة الجديدة 72 كيلو متر، منها 35 كيلو متر حفر جاف، و37 كيلو متر توسعة وتعميق للقناة الأصلية.
- شاركت في عمليات الحفر المائي نحو «45 كراكة» تمثل 75% من كراكات العالم، بينها أكبر ثلاث كراكات على مستوى العالم، وقام بأعمال التكريك تحالفين يضم شركات أمريكية وإماراتية وهولندية وبلجيكية. وصلت أعلى المعدلات في التكريك إلى 41 مليون متر مكعب في الشهر ، لتدخل موسوعة غينيس العالمية .
- أنجزت أعمال التكريك رفع 258 مليون م3 من الرمال المشبعة بالمياه في أكبر عملية تكريك في التاريخ تتم خلال عام واحد فقط.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف