من الأهمية بمكان تأمين الانتقال من نظام المحاصصة إلى نظام ديموقراطي يأخذ بمعيار الكفاءة بدلاً من الولاء للطائفة أو المذهب أو القوة الحزبية والمحسوبيات
حسم البرلمان العراقي أمره، وأحال (17/8) تقرير لجنة تقصّي الحقائق بشأن سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم «الدولة الاسلامية» في حزيران (يونيو) من العام الماضي إلى القضاء، متحدّياً ضغوط الأطراف السياسية المعترضة والمتضررة من ذلك، ومنها كتلة «دولة القانون»، التي يتصدّر زعيمها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي قائمة المتهمين بالتورط في هذه القضية. وتضمن التقرير اتهامات الى ستة وثلاثين من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في البلاد، من بينهم، إضافة للمالكي، محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي، ورئيس الأركان السابق بابكر زيباري.
ومن شأن هذه الخطوة البرلمانية التي تطال مناصب قيادية حساسة في الدولة العراقية،، أن تساعد في إعادة الثقة إلى الحكومة العراقية، خاصة أنها ترافقت مع إجراءات «اصلاحية» في غاية الأهمية، اتخذها رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بغرض تقليص نظام المحاباة والمحسوبية في العراق، الذي تتصاعد فيه حالة الاستقطاب السياسي على أسس طائفية ومذهبية من جهة، والغليان الشعبي تجاه استفحال ظاهرة الفساد من جهة ثانية، والتهديدات الإرهابية من قبل تنظيم «داعش»، الذي يحتل نحو ثلث أراضي بلاد الرافدين من جهة ثالثة.
وكان العبادي أقرّ تقليص عدد أعضاء مجلس الوزراء ليصبح 22 عضواً، بدلاً من 33، حيث ألغى بعض الوزارات، ودمج عدد من الوزارات الأخرى. وكان ألغى من قبل مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الى جانب «تقليص شامل وفوري في أعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة». كما شجّع التحقيقات التي تجري بشأن الفساد. ثمّ ألغى كذلك مناصب المستشارين في الوزارات وقلّص عدد مستشاري الرئاسات الثلاث إلى خمسة لكل منها.
وبعد أن تعهّد رئيس البرلمان سليم الجبوري بعرض التقرير المتعلق بسقوط الموصل علناً في الجلسة البرلمانية، وقراءة الأسماء الواردة فيه، يبدو أن خلافات سياسية حادّة حالت دون ذلك. وأكد الجبوري، خلال مؤتمر صحافي عقده بعد إقرار التقرير، أنه أبلغ الكتل السياسية عدم استثناء أي من المتورطين، وبأنه «سيحال على القضاء كل من كان سبباً في سقوط الموصل». وكان ائتلاف المالكي هدد خلال جلسة البرلمان، بتعليق حضور نوابه الجلسات أو الاستقالة إذا «تضمن تقرير اللجنة اسم المالكي».
وقد وجّه بعض نواب كتلة المالكي اتهامات إلى التقرير بأنه «منحاز ومسيس ويفتقد أبسط شروط الحيادية والموضوعية»، إلا أن رئيس اللجنة التي أعدّت التقرير، حاكم الزاملي، أوضح في تصريحات صحافية، أن «التقرير تضمن أسباب سقوط المحافظة بالتفصيل، وأسماء المتهمين الذين يتحملون ذلك». وأضاف قوله: «لا يمكن التلاعب بالتقرير أو حذف أي فقرة منه أو اسم أي متهم وإذا حصل ذلك، وهو أمر مستبعد، فلدي الوثائق التي تثبت تورّطهم، إلى جانب عدد من النسخ الاحتياط ».
يذكر أن تقرير اللجنة هو أعظم خطوة تتخذها بغداد حتى الآن لمحاسبة المسؤولين عن خسارة نحو ثلث أراضي البلاد أمام تنظيم «داعش» التكفيري، وجاء فيه أن المالكي لم تكن لديه صورة دقيقة للخطر المحدق بالمدينة، لأنه اختار قادة منغمسين في الفساد، فضلاً عن أنه لم يحاسبهم.
ردّ المالكي
أما المالكي، الموجود حالياً في طهران، فقد نقلت عنه قناة «العالم» الايرانية قوله: إن «ما حصل في الموصل كان مؤامرة تم التخطيط لها في أنقرة، ثم انتقلت المؤامرة إلى أربيل»، مشيراً إلى أنه «لا قيمة للنتيجة التي خرجت بها لجنة التحقيق البرلمانية حول سقوط الموصل». وأضاف المالكي، أن «لجنة التحقيق البرلمانية سيطرت عليها الخلافات السياسية وخرجت عن موضوعيتها».
وقد نقل أحد المواقع الالكترونية المقربة من علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد علي خامنئي، أن ولايتي أجرى اتصالات هاتفية مع زعماء سياسيين شيعة، بينهم العبادي، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى عمار الحكيم، «حذرّهم فيها من السعي إلى تقديم نوري المالكي للمحاكمة».
وفي سياق متصل، وصفت وكالة أنباء «تسنيم»، المقرّبة من الحرس الثوري، نوري المالكي بأنه «قائد إسلامي عربي تجاوز حدود العراق». وقالت الوكالة في مقال تحليلي بعنوان «ما الذي يقرأه الإيرانيون الاستراتيجيون ولا يراه بعض العراقيين»؟ إنّ المالكي «أحد أبرز أقطاب جبهة المقاومة والممانعة في المنطقة»!!.
مراكز القوى والميليشيا المسلحة
وفي هذا السياق، حذر مراقبون من أنّ ثمة مراكز قوى متجذرة في مواقع عراقية كثيرة، وبأن لها «شارعها وميليشياتها المسلحة، ومرجعياتها في الداخل والخارج، وبأنها لن ترضخ بسهولة»، وقد لا ترغب مرجعية هذه القوى الخارجية في ضرب أدوات اعتمدت عليها سابقاً في إدارة العراق. وأضاف المراقبون أن الهجوم على المتظاهرين في ساحة التحرير بالسلاح الأبيض هو أحد مظاهر «دفاع» تلك المراكز عن نفسها. كما اعتبروا أن «التشكيك بالإجراءات التي اتخذها العبادي، والحديث عن دستوريتها»، هو أحد تلك المظاهر أيضاً. ذلك أن إلغاء مناصب نواب الرئيس يستدعي تعديلاً دستورياً، وهذا قد يتطلب استفتاء شعبياً، ومثل هذا الأمر يبدو مستحيلاً في ظل الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق.
وشدّد المراقبون على أن هذا يقتضي عدم التراخي أو التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات، بل التعجيل في تطبيقها، فـ«التظاهرات الشعبية فتحت باباً للتغيير الجدي، وينبغي استثمار زخم الشارع وضغوطه»، فهو قد وفّر لرئيس الوزراء سلاحاً لم توفره له المؤسسات، لا السياسية ولا العسكرية ولا الإدارية، هذا ناهيك عن أنّ «دعم المرجعية في النجف لموجة الاحتجاجات قدّم سلاحاً إضافياً حاسماً».
التركة الثقيلة وقضية الخدمات
وأكد المراقبون أنفسهم أنّ المحرك الأساس الذي دفع الناس إلى الشارع هو القضايا المطلبية الخاصة بالخدمات، وهي نفسها التي حركت الشارع مطلع عام 2011، قبل أن يقوم المالكي يومئذٍ بإخماد الحراك في مهده بذريعة أن «المتظاهرين من فلول البعث والنظام السابق». وعلى ذلك، فمن الضروري التعجيل في تلبية مطالب المحتجين والإسراع في «توفير الخدمات ومحاربة رموز الفساد من الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ عام 2003، وإصلاح القضاء والمؤسسات الأمنية وأجهزة الاستخبارات».
وفي وقت تعاني فيه الحكومة العراقية من التركة الثقيلة لحكومة المالكي السابقة، لفت البعض الانتباه إلى استبعاد أن تؤدي الإصلاحات المعلنة إلى نتائج ملموسة وفورية على الصعيد الاقتصادي والخدمات، بل قد تؤدي إلى نتائج معاكسة لرغبات المتظاهرين، الذين يعانون من البطالة ويطالبون بالوظائف. حيث يمكن أن يؤدي تقليص عدد الوزارات إلى تسريح أعداد كبيرة من الموظفين، وهو إجراء يمكن أن ينعكس إيجاباً على الاقتصاد العراقي في المدى البعيد، لكنه يمكن أن يزيد من حدة الاحتجاجات في المدى القريب بعد انضمام العاطلين الجدد إلى جيوش المحتجين.
يذكر في هذا الصدد، أن هناك عشرات الآلاف من العراقيين الذين يعملون في وظائف وهمية، فضلاً عن تضخّم الجهاز البيروقراطي حيث يقدّر عدد العراقيين الذين يعملون في وظائف حكومية حالياً بأكثر من 4 ملايين موظف، إضافة إلى مليوني متقاعد، وتعدّ هذه الأرقام الأعلى عالمياً قياساً إلى عدد السكان.
وفيما تعتمد الموازنة العراقية على إيرادات النفط بنسبة 99 % تقريباً، فقد أدى انخفاض أسعار النفط العالمية منذ منتصف العام الماضي، بالتزامن مع سقوط نحو ثلث مساحة العراق في قبضة تنظيم داعش، إلى أزمة مالية خانقة في ظلّ التزامات الموازنة التشغيلية الباهظة، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الحرب ضد داعش.
وثمة من يتحدث هنا بأن حكومتي المالكي في دورتين متتاليتين بدّدتا ما يصل إلى 800 بليون دولار من عوائد النفط، دون تقديم حسابات واضحة عن أوجه صرف هذه الأموال، التي يبدو أن الفساد قد ابتلع معظمها، دون انجاز أي تقدم على صعيد الخدمات مثل الماء والكهرباء التي كانت سبباً أساسياً في اندلاع الاحتجاجات.
النظام الديمقراطي والدولة المدنية
وإلى ذلك، فمن الأهمية بمكان أيضاً العمل على تأمين «الانتقال من نظام المحاصصة (الذي ثبت بالملموس أنه أحد آليات تكريس تسلّط مُكّون عراقي على باقي المكونات الأخرى)، إلى نظام ديموقراطي يأخذ بمعيار الكفاءة بدلاً من الولاء للطائفة أو المذهب أو القوة الحزبية والمحسوبيات، والارتهان لقوى خارجية تناصر فئة على أخرى»، وصولاً إلى «إقامة الدولة المدنية المستندة إلى مبدأ المواطنة بعدما فشلت الدولة الدينية بأحزابها وقواها المختلفة»، فمواجهة «الوحش الإرهابي» لا يمكنها أن تتكلّل بالنجاح إلا عبر بناء الدولة المدنية وترسيخ مبدأ المواطنة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف