عايش جمال الغيطاني (1945- 2015) صخباً شديداً، وخاض معارك فكرية وثقافية عدة، ولكن في جوهر النقد والحقيقة أنجز مشروعاً سردياً خلاقاً، يخصّه وحده، يعتمد في جوهر بنائه على جدل التاريخي والجمالي، فكانت رحلته مع النص ارتحالاً في التاريخ المصري ذاته، قديمه، ووسيطه. وكانت بدايته اللافتة «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» التي مثّلت حالاً من الإرهاص بولع ما لدى الغيطاني يتشكل صوب أنسنة التاريخ والكشف عن المسكوت عنه داخله. هذا الولع صار أكثر وهجاً وإحكاماً في روايته الفاتنة «الزيني بركات»، التي رصدت مرحلة فارقة في مسيرة الأمة المصرية، وهي تنتقل من جلاد (الشهاب الأعظم زكريا بن راضي) إلى جلاد جديد (والي الحسبة الزيني بركات)، أو بالأحرى من الاستبداد المملوكي إلى الاستبداد العثماني. وفضلاً عن التحوّلات التاريخية التي ترصدها الرواية على مهل، مستكشفة تفاصيل المكان والزمان الروائيين بلغة تنحاز إلى المحكي عنهم، وعصرهم ووقائعهم، فإن عالماً تخييلياً يقيمه الكاتب ويشيده بروح شفيفة، فتلوح الحكايات الفرعية عن المخدوعين والبسطاء والثوار والمحبّين لتضاف إلى المتن السردي في مساءلته القمع عبر تحرير النص/ تحرير التاريخ.
قدّم الغيطاني نموجاً فريداً في جدل التسجيلي والتخييلي في روايته» الزيني بركات»، حيث القدرة على خلق مسارات سردية يتقاطع فيها التوثيق مع المخيال، ويتجادل فيها الواقع مع الحلم. إن الولع بالتاريخي لم ينشأ من الفراغ لدى الغيطاني، بل كان مصحوباً بوعي حاد بحركته، مرتبطاً على نحو آخر بسؤال المصير ذاته، أو ما يمكن أن يسمى «سؤال المآلات». هذا السؤال وسمَ نصوصه في ما بعد وبخاصة في «التجليّات» التي بدت مغامرة في الزمان، وضرباً في فضاءات المجهول، فاتّسمت بنزوع فلسفي غير منكور، والأهم استيحاء النص من التراث الصوفيّ، في تماسٍ ظاهري مع ابن عربي. وإن ظل لـ «التجليات» بأسفارها الثلاثة منطقها الجمالي الخاص، ونزوعها السردي الذي يتجادل فيه الذاتي مع الموضوعي، كما تتقاطع فيها الأزمنة، عبر لغة رهيفة تضع قدماً في التراث وأخرى في الواقع، فهي تتسم بالتنوع في التعبير عن المحكيات المتعددة في النص، كما تتسم بالبعد الإشاري الذي يسم الإرث الصوفي جميعه، مثل: (تجلّ وتجلّ، إن النائم يرى ما لا يراه اليقظان).
ومن المنحيين التاريخي والصوفي إلى المنحى الواقعي الذي يعيد صوغ العالم جمالياً، فيرصد الغيطاني واقعاً مسكوناً بالقمع والخوف والوحشة في «وقائع حارة الزعفراني»، وهي حوَت نزوعاً تحليلياً في السرد ساهم في تعميق الرؤية داخل نص شغوف بالحكي التقريري والخبري.
في «دفاتر التدوين» نصبح أمام مشروع سردي ممتد ( خلسات الكرى/ دنا فتدلى/ رشحات الحمراء/ نثار المحو/ نوافذ النوافذ/ رِن/ من دفتر الإقامة)، يسعى صوب استجلاء العالم عبر أدوات الحدس، والتأمل الذاتي، ووصل ما كان بما هو كائن، وربما بدت الدفاتر الثلاثة الأولى(خلسات الكرى/ دنا فتدلى/ رشحات الحمراء) حاوية نزوعاً جمالياً شفيفاً عن جعل الذات مرآة للعالم، فضلاً عن المراوحة بين الفنتازي والحقيقي، والتعاطي مع فكرة الزمن بوصفها فضاء وجودياً ودلالياً في آن. وما بين الاعتماد على المشهدية البصرية في توصيف الأمكنة والأشياء، في «دنا فتدلى»، حيث التوصيفات المدهشة للقطار، والاتكاء على تفعيل الذاكرة والغرق في نوستالجيا الولع بالحبيبة الأولى، وامتداداتها في الزمان والمكان عبر تفاصيل الحياة وحوادثها.
بدا الإرث الذي حمله جمال الغيطاني بوصفه مراسلاً عسكرياً شارك في معارك الاستنزاف وفي حرب أكتوبر المجيدة 1973، حافزاً مهماً صوب التعبير الجمالي عن لحظات مفصلية في عمر البشر والجنود، فكانت أعماله التي مثّلت نموذجاً دالاً على ما يعرف بـ «أدب الحرب»، على نحو ما نرى في عمله الأدبي «حكايات الغريب» والذي يعتمد على آلية التداخل بين الأزمنة ومن ثم نرى فيه رصداً للحظات التي تسبق الحرب واللحظات التي تليها مباشرة، وإن ظلّ النص مفتوحاً على أفق لافت يتعلق بمجرى التحوّلات المجتمعية التي حدثت في ما بعد في الواقع المصري.
إن التباينات المختلفة في المشروع الإبداعي لجمال الغيطاني تكشف وبجلاء عن كاتب حقيقي، يملك سرداً يخصّه، ومشروعاً دشّنه باقتدار في مسيرة السردية المصرية والعربية، وظلّ جمال الغيطاني مشغولاً بهويته المصرية والعربية، ولذا سنجد أن رؤية العالم في نصوصه المختلفة تتبلور حول سؤال الهوية، وكان ولعه بالعمارة الإسلامية، والتاريخ المصري القديم في الآن نفسه تعبيراً دالاً على كاتب يدرك غنى الموزاييك الحضاري المصري بتنويعاته المختلفة، وروافده الثقافية المتعددة.
وربما حملت علاقة الغيطاني بأستاذه نجيب محفوظ جانباً مهمّاً من تشكيل علاقته بالنص ذاته، فعلى رغم تباين المسارات الحكائية في ما بينهما، إلا أن الدأب والقدرة على النظر إلى العالم من زوايا مختلفة، والإخلاص للمشروع الأدبي بدا جامعاً بين الأستاذ والغيطاني.
وبعد... لقد ملأ جمال الغيطاني الدنيا وشغل الناس، وخاض حروباً مختلفة، واختلف حوله بعضهم، وهذا من بدهي الأمور، لكنه يبقى حاضراً في الوجدان المصري والعربي، بكتاباته الروائية المائزة، ومواقفه الفكرية ضد جماعات الإسلام السياسي والاستبداد باسم المقدس، وانتصاره لأجيال مختلفة تلته كان جمال الغيطاني أول من يقدمها، وهنا لا يمكنني سوى أن أستعيد طرفاً من الماضي القريب، حيث مثّل مؤسس جريدة «أخبار الأدب» المصرية وأهم من تولى رئاسة تحريرها في فترة ازدهارها داعماً كثيرين من الأجيال الجديدة في السرد والشعر والنقد المصري، وبما منح الغيطاني نفسه حضوراً ضافياً في متن الجماعة الثقافية المصرية.
عن الحياة

Smiley - rT5mwuPbVFzG
2016-05-18 08:02
I recokn you are quite dead on with that.

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف