عندما ينطق الدم كل يوم في شوارعنا، ويرصف شهداء الوطن طريق المستقبل بحجارة فلسطين.. فإن الكلمات تصبح مجرد حروف صمّاء، ولا يملك الفرد فينا إلا أن يقف إجلالاً وإكباراً لينبوع الدم المتدفق.
وحينما تصبح الشهادة فرحاً، وتقدم التهاني بدل التعازي، لهؤلاء الذين قدموا دمهم على مذبح التضحية، وحينما تُقدّم الحلوى بدلاً من القهوة السادة، وعندما يسارع رياضيو الوطن، للتضحية بأغلى ما يملك الإنسان، في سبيل حرية وطنهم، عندها يقف الاحتلال برهة، ويراجع حساباته.
بالأمس، كان الشهيد أحمد كحلة، ابن رمون، النجم الذي سبق له أن توهج وتألق في ملاعب الكرة الطائرة الفلسطينية، لاعباً في صوف نادي رمون، كان يزداد توهجاً، وهو يسير على أكتاف المشيعين، مودعاً شوارع قريته التي لطالما قاد المواجهات فيها مع جنود الاحتلال، خلال الانتفاضة الثانية، إذ لم تسعفه سنوات عمره للمشاركة بفعاليات الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة" فحينها لم يكن يتجاوز العاشرة من العمر.
"أبو قصي" الذي يشهد له أهالي رمون، وكل من عرفه، بأنه إنسان مكافح في سبيل تأمين العيش الكريم لعائلته، كان قد أصيب برصاصتين خلال انتفاضة الأقصى، لكن ذلك لم يثنه عن مواصلة نضاله، فظل يقود شبان الانتفاضة، في مواجهة قوات الاحتلال، تارة يرمي هؤلاء الجبناء بالحجارة، وهم يختبئون في آلياتهم، مذعورين من حجارته، وأخرى يوجه زملاءه في المواجهة، وكان دائم التواجد في التظاهرات التي تشهدها مدينة رام الله إبان تلك الانتفاضة.
أول من أمس، نال منه رصاص الحقد، مرة أخرى، وهو يواجه جنود الاحتلال الذين كانوا كالكلاب المسعورة وهم يعتدون على نجله قصي، الذي كان برفقته، في طريقهما إلى العمل، ليرتقي هذه المرة شهيداً، ويروي أرض فلسطين بدمائه الزكية الطاهرة، بعد أن أكمل عامه الـ(45) متربياً على حب الوطن، وفي حضن عائلة تنبض وطنية.
كأن الحنين إلى "الثورة" لا يخمد في نفوس من تذوقوا طعمها، ومنهم أحمد كحلة، الذي جبل على حب الوطن، والعمل الثوري المقاوم، فلدى إصابته في الانتفاضة الثانية، نصحه مقربون منه بأن يبتعد عن مناطق المواجهات، خصوصاً بعد زواجه، لكنه كان يردد دائماً: "يا مرحباً بالشهادة" وفقاً لأحد أقاربة.
كان خبر استشهاد أحمد، كالصاعقة على رؤوس من عرفوه وأحبوه، فكما فرّحهم في حياته، أحزنهم في رحيله.. كان خفيف الظل، رقيقاً ليّناً مع إخوانه وأصدقائه، صاحب روح مرحة، وابتسامة واسعة، قريباً إلى القلب، يتمتع بروح الدعابة بشكل متزن، نشيطاً في شتى مجالات التعاون، العمل التطوعي والخيري والاجتماعي، كان يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، لا يمكن أن ترى في ملامحه أثراً لتجاعيد الوجه، أو أياً من العلامات الدالة على حزن خفي أو متجذر، ورغم بساطته وخجله، كان لديه ملكة اختيار الوقت المناسب، لإلقاء المزاح على أصحابه.
بالأمس، كانت رمون محجاً للرياضيين، وغيرهم، جاؤوا من كل فج عميق، يودعون شهيداً للمجد، تجمّع أحبابه ومن رافقوه في مسيرته الرياضية، التي لم تنته باعتزاله، فظل وفياً لنادي رمون الذي تربى في كنفه.
في بيت عزاء الشهيد، كان الحديث عن مناقب أحمد وروحه الجميلة، الشغل الشاغل لأهالي رمون، يستذكرون حركاته ولعبه، دون إغفال دوره على الصعيد النضالي، فكان يقطر وفاءً والتزاماً لقضايا وهموم شعبه، وذا شخصية مرموقة في قيادة التظاهرات الشعبية والجماهيرية، ضد الاحتلال.
أودعناه الثرى، بعد أن طبعنا قبلة الوداع على جبينه، وتجولنا في شوارع رمون، التي تزينت بصوره، والعبارات الممجدة لنضاله وتضحياته.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف