هل تستجيب القوى اليسارية والديمقراطية الفلسطينية لإرادة الشارع وتتحمل مسؤولياتها التاريخية في تحويل الهبة إلى انتفاضة مسلحة ببرنامج سياسي كفاحي يقود إلى الاستقلال؟
خطوة إيجابية، كانت اللقاءات القيادية الفلسطينية في بيروت، وقد جمعت فصائل من داخل م.ت.ف وخارجها، بحثت في الأوضاع العامة، داخل القدس والضفة الفلسطينية الممثلين، والقطاع، وكذلك هموم الفلسطينيين في الشتات، وبشكل خاص، لبنان وسوريا، فالحالة الفلسطينية تعيش تحولات مهمة في ضوء اندلاع الهبة الشعبية، وما أحدثته من ردود فعل على المستويات العربية والإقليمية والدولية، وما فعلته في الواقع السياسي الفلسطيني، وقد نقلت الحالة الفلسطينية من مربع الانتظار إلى مربع الفاعل والمؤثر في المسارات السياسية. فضلاً عن أن الأوضاع الفلسطينية في لبنان وسوريا، تحتاج إلى مراجعات وقراءات متأنية ودقيقة واهتماماً قيادياً، تنتج عنه سياسات تساعد الفلسطينيين على تجاوز محنتهم ومأساتهم، كما هو حال من هم في سوريا، أو توفير عناصر أمنهم واستقرارهم ونزع فتائل التفجير لبعض مخيماتهم، كما هو حال من هم في عين الحلوة، وكذلك توفير عناصر القوة والصمود، والدعم المعنوي والسياسي والمادي، وإدراج القضايا الاجتماعية المحقة على جدول الأعمال في الحوار مع السلطات اللبنانية المعنية.
* * *
هذه الإيجابية، ستكون ناقصة على الدوام، ومعرضة للتلاشي إذا لم يتم استكمال خطوة الحوارات في رام الله، حيث القيادة السياسية الرسمية، التي بيدها القرار، وحيث المروحة الواسعة من القوى السياسية والفعاليات المستقلة، وحيث الحدث الميداني، متمثلاً في الهبة الشعبية، وحيث القضية الأساسية: الاحتلال والاستيطان. هناك تدور المعركة ضد العدو الإسرائيلي، وهناك تحسم هذه المعركة ومن هناك يفترض أن يبزغ فجر الاستقلال والحرية، وعلى الأرض هناك يفترض أن تقوم الدولة كاملة السيادة. لذلك سيبدو غريباً أن تدار الحوارات في بيروت، وأن يشارك بها وفد من فتح، بصلته المعروفة مع الرئيس محمود عباس، ولا تدار هذه الحوارات في الضفة لبحث الوضع الفلسطيني العام.
ها قد مرّ أكثر من شهر على اندلاع الهبة الشعبية، ولا تزال تستند إلى فئة معينة من الفلسطينيين هم فئة الشباب بشكل رئيسي، ولم تتوفر لها، حتى الآن، عناصر تمكنها من التمدد جغرافياً، لتغطي كل شبر من الأرض الفلسطينية المحتلة، ولتمتد زمنياً، بحيث لا تكون مجرد حدث عابر، ولتتوسع اجتماعياً، بحيث تشارك فيها فئات اجتماعية أخرى، كالفلاحين في الريف، حيث الأرض مهددة بالمصادرة لتوسيع مشاريع الاستيطان، والعمال الذين يشكون من البطالة، أو من الإذلال في العمل في مشاريع المستوطنات، وفي المشاريع الإسرائيلية، أو عائلات الأسرى والمعتقلين التي تعاني ما يعانيه أبناؤها خلف قضبان الزنازين، أو الصف العريض من المعلمين والمحامين والأطباء والممرضين، وباقي الموظفين في السلطة الفلسطينية، وفي مؤسسات م.ت.ف، وفي القطاع الخاص.
من الخطورة بمكان أن تستند الهبة الشعبية إلى العفوية والمبادرة الفردية، وأن تفتقد إلى غرفة عمليات سياسية تشكل عنواناً للإجماع السياسي على ضرورة تحويل هذه الهبة إلى انتفاضة شعبية شاملة، تعيد ترتيب البيت الفلسطيني، على أسس استراتيجية وكفاحية جديدة وبديلة. ومن الخطورة بمكان أن يبقى الحديث عن ضرورة تنظيم الهبة وتطويرها في دائرة النداء والبيان، ولا يتحول إلى خطوات عملية، تفتح أفقاً لحركة شعبية فلسطينية مندفعة نحو أفق سياسي جديد.
من الطبيعي القول إنه ليس هناك إجماع سياسي حتى الآن على اعتماد الانتفاضة بديلاً لخيار المفاوضات العقيمة التي أدمنت عليها السلطة الفلسطينية. ومن الطبيعي القول إن هناك فئات بيروقراطية في السلطة الفلسطينية، وفئات معينة من رجال المال والأعمال، خاصة التجار المرتبطين بمصالح اقتصادية مع الجانب الإسرائيلي، تخاف اندلاع الانتفاضة، وتدعو لإخمادها، لأن مصالحها باتت مرتبطة بحالة التعايش مع الاحتلال وممارسته، وتجد في «العنف»، و «الفوضى» ما يلحق الضرر بمصالحها، لذلك تراها تضغط على الطوابق العليا في السلطة وفي الأجهزة الأمنية، لوضع حد لما هو قائم في الضفة والقدس، وإعادة الشباب إلى بيوتهم، وقطع الطريق على ولادة انتفاضة جديدة.
ومن الطبيعي في السياق نفسه، أن يتم النظر إلى هذه الشرائح والفئات بعين القلق والحذر الشديد، مع الادراك أن السبيل الوحيد لهزيمة هذه السياسات، هو في تطوير الهبة وتحويلها إلى انتفاضة شاملة [جغرافياً ومجتمعياً]، والسبيل الوحيد لإلحاق الهزيمة بهذه الفئات هو في خطوات عملية تقع على عاتق القوى الوطنية والديمقراطية، بما في ذلك قواعد فتح وقياداتها الوطنية، رسمها، والتخطيط لها، وتنفيذها.
* * *
المطلوب أن تجري في الضفة الفلسطينية حوارات تضم الجميع، من هم داخل م.ت.ف، ومن هم خارجها. وكما أدارت القوى السياسية حوارات في الخارج، تجاوزت عبرها خلافات تاريخية [كاللقاء بين فتح ووفد فتح الانتفاضة مثلاً]، يفترض أن تعقد لقاءات مماثلة في الأرض المحتلة، في إطار شامل، يشكل تمهيداً لعلاقات نضالية وكفاحية جديدة، تتجاوز الانقسامات السياسية ومنطق الثأر التاريخي، بما يخدم الحراك الشعبي والقضية الوطنية. وبحيث تتبلور الإرادة الوطنية للإجماع السياسي على الانتفاضة عبر قيادة وطنية موحدة، تضم في صفوفها تمثيلاً وازناً للشباب، عبر تمثيل المجالس الطلابية في الجامعات، والنقابات المهنية والاتحادات الشعبية، والمؤسسات الأهلية الناشطة في أطر المجتمع المدني. مثل هذه اللقاءات من شانها أن تنضج الظروف السياسية، وأن تفرض نفسها على القيادة السياسية، وأن تضعها في دائرة الضوء، لصالح أن تزيح ترددها جانباً، وأن تحسم مسألة الذهاب إلى الخيارات السياسية البديلة كما صاغتها اللجنة التنفيذية، وكما صاغها المجلس المركزي الفلسطيني في دورة آذار (مارس) 2015.
وللمزيد من الصراحة، من حقنا أن نقول، إن الشارع الفلسطيني، بفئاته الشعبية المختلفة، يتساءل ـــ عن حق ـــ لماذا لم تبادر القوى اليسارية الفلسطينية، حتى الآن، إلى خطوة عملية تخترق الجمود لصالح الهبة الشعبية، خاصة وأن هذه القوى هي التي بشرت بالانتفاضة ودعت لها في بياناتها وبلاغاتها، وعملت لها في تعبئة الرأي العام، والشارع بضرورتها كحل للقضية الوطنية. وخاصة أن هذه القوى هي الأقدر على رسم البرنامج السياسي الذي به تتسلح الانتفاضة لأنها قوى تمتلك رؤية سياسية صائبة أولاً، ولأنها، ثانياً، متحررة من قيود أوسلو، وبروتوكولات باريس، ولا تربطها بأي من تداعيات السلطة أية ارتباطات، فهي حرة سياسياً، وهي الأقدر على تقديم الجديد، وتقدم الصفوف.
فهل تستجيب هذه القوى لإرادة الشارع ورغباته، وهل ستعمل، مستفيدة من الجديد في الحالة الفلسطينية، لتؤكد جدارتها على رأس الحراك الشعبي في القدس وفي الضفة؟

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف