حتى وقت قصير، كانت والدة الشهيد محمود طوالبة من مخيم جنين، تمضي كثيراً من وقتها إلى جانب ضريح نجلها في مقبرة "شهداء ملحمة نيسان"، في مكان غير بعيد عن ذلك الذي اعتادت فيه العديد من الأمهات ممن فقدن فلذات أكبادهن في المجزرة الرهيبة التي ارتكبها جيش الاحتلال في نيسان العام 2002، الجلوس فيه ليحدثن أبناءهن وهم تحت التراب، رغم مرور نحو 21 عاماً على رحيلهم الأبدي.
ويحيي أهالي مخيم جنين، هذه الأيام الذكرى السنوية لتلك الملحمة التي سطروها في مواجهة الغزو الإسرائيلي لمخيمهم، والذي خلف 58 شهيداً، و200 جريح بعضهم أصبحوا من ذوي الإعاقة، بينما كان الدمار الكامل من نصيب 470 منزلاً، إضافة إلى تدمير جزئي أصاب 419 منزلاً جعلها غير صالحة للسكن، علاوة على 1300 منزل على الأقل أصابتها أضرار جزئية.
وبسبب عدد الشهداء المرتفع، اضطر المنكوبون من أهالي المخيم في ذلك الوقت، إلى استحداث مقبرة للشهداء في الجزء الغربي منه، لتبقى شاهدة على المجزرة، ويجد فيها كثير من أبناء المخيم مكاناً للراحة، إلى جانب أضرحة الشهداء.
ولم تكن والدة الشهيد طوالبة، الذي يعتبر أحد أبرز قادة معركة الدفاع عن المخيم، تبرح ضريح نجلها، وهي تتذكر المرة الأخيرة التي شاهدته فيها، في اليوم الخامس من المعركة، حيث ودعها وأوصاها بابنته "دعاء" التي لم تكن تتجاوز العامين من عمرها، وابنه حديث الولادة عبد الله.
وحتى عدة شهور بعد المجزرة، لم تكن والدة الشهيد طوالبة تصدق أن ابنها قد استشهد، وظلت تردد: "قلبي يحدثني أن محمود حيّ"، حتى تلاشى ذلك الأمل مع مرور الوقت لتحتسب ابنها شهيداً، خاصة بعد أن عثر المنكوبون من أهالي المخيم، على جثتين مشوهتي المعالم وملتصقتين، وقد أجمع كثيرون ممن نجوا من المجزرة على أنهما للشهيدين طوالبة وشادي النوباني اللذين دفنا في قبر واحد، بسبب صعوبة الفصل بين جسديهما.
في مقبرة الشهداء، لا تمل أي من أمهات هؤلاء الشهداء من الحديث عن أبنائهن ممن هم تحت التراب وهن فوقه، وجميعهن يعبرن عن اعتزازهن بهم.
وأقيمت تلك المقبرة على بعد أمتار قليلة من مجمع المدارس التابعة لوكالة الغوث الدولية، حيث يرتادها التلاميذ بزيهم المدرسي، فيضعون حقائبهم جانباً على كومة من التراب، وهم يمارسون لعبتهم المفضلة وهي "لعبة الموت"، والتي أصبحت سلوكاً يومياً لهم، عندما ينتهون من يومهم الدراسي، وهم في طريق عودتهم إلى البيت.
وكان المخيم حاضنا رئيسا، إلى جانب بلدة قباطية، لظاهرة المطاردين خلال الانتفاضة الاولى، خاصة مجموعات "الفهد الأسود" الجناح العسكري لحركة فتح، ومجموعات "النسر الأحمر" الذراع العسكرية للجبهة الشعبية.
ومع اندلاع "انتفاضة الأقصى" الثانية، شكل مخيم جنين هدفاً لإسرائيل التي حاولت اقتحامه مرات عدة، وبلغت الاعتداءات الإسرائيلية على المخيم ذروتها فجر الثالث من نيسان 2002، حيث دفعت إسرائيل بالمئات من الدبابات وناقلات الجند المصفحة والآليات الثقيلة المعززة بالمروحيات القتالية إلى مشارف المخيم، وبدأت قصفه بالصواريخ والقذائف ورصاص الرشاشات الثقيلة. وشكلت المنازل التي كان اللاجئون يعتقدون أنها آمنة، هدفاً مباشراً للقوات الإسرائيلية التي تعمدت قصفها جميعا من دون استثناء، فدمرت المئات، وسوتها الجرافات والصواريخ بالأرض، إضافة إلى سقوط 58 شهيدا، و200 جريح، ومئات المعتقلين.
وعلى مدار أكثر من عام ونصف العام بعد المجزرة، أبقى الأهالي في ثلاجة الموتى في مستشفى جنين الحكومي، ثلاث جثث متفحمة لشهداء مجهولي الهوية ارتقوا خلال المجزرة، ولم يتمكن أحد من التعرف إليهم، ثم نقلت هذه الجثث للتشريح في المعهد الطبي العدلي في أبو ديس، وتبين أنها جثث تعود لثلاثة شبان من المخيم كانت اختفت آثارهم وهم الشهداء محمد البدوي ومحمود أبو حلوة والمقعد جمال الفايد والذي كانت طواقم الإنقاذ عثرت خلال عملية البحث بعد المجزرة على كرسيه المتحرك، دون أن يتبين له أي أثر.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف