اتفاق سايكس بيكو لم يُعِرْ أدنى اهتمام للمكونات الاجتماعية والديموغرافية والثقافية داخل أطر الأشكال الهندسية التي رسمها كحدود لهذه الدولة أو تلك
يتفق معظم الباحثين والمهتمين على أن معاهدة (ويستفاليا) عام1648، التي أنهت الحروب الدينية الطاحنة في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، هي التي أسّست لفكرة الدولة القومية، أو الدولة / الأمة، بعيداً عن أي انتماء ديني أو طائفي أو عرقي، وما إلى ذلك.
وقد ترافق نشوء الدولة القومية الحديثة، كإطار سياسي- قانوني متميز عن الأطر التي سبقته، انفصال ما هو سياسي عن ما هو ديني، وذلك بعد أن أضعفت السلطة المطلقة للكنيسة، وبدء تحقّق نوع من الاستقلال النسبي للأنساق والسلطات التنفيذية والتشريعية والقانونية عن الدين، وعن بعضها البعض في الوقت عينه.
ومن الخطأ الاعتقاد، طبعاً، أن المجتمعات الأوروبية انتظمت في إطار الولاء الوطني لدولها الناشئة على نحو سهل وتلقائي، بل لقد وقعت صدامات وتجاذبات عنيفة داخل المجتمعات الجديدة، وبين تلك الدول بعضها مع البعض الآخر، قبل أن يتبلور شيئاً فشيئاً، وعلى نحو تدرّجي، ولاء الفرد للدولة الوطنية المشكلة حديثاً. وقد أفضى ذلك، في المحصلة، إلى تبلور مفهوم وفكرة المواطنة المحدِّدِة للحقوق والواجبات، والتي انطوت على تقنين أو قنونة «الولاء الوطني» وفق ضوابط والتزامات قانونية واجتماعية وسياسية. وقد ظلّت ثمة ولاءات فرعية، أو ما دون وطنية، قائمة في غير دولة أوروبية، لكنها تبقى الاستثناء وليس القاعدة، وهي لا تقوى، في أي حال من الأحوال، على تخريب صيغة الدولة الوطنية التي باتت راسخة ومستقرّة.
يُذكر أنّ حرب الثلاثين عاماً كانت بدأت عام 1618، كاستجابات متعارضة لنتائج حركات الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية كقوة سياسية عسكرية على أراضي الامبراطورية الرومانية المقدسة التي كان يحكمها الملك فيرديناند الثالث من آل هابسبورغ، ذو المذهب الكاثوليكي. وقد اشترك في هذه الحرب أكثر من 100 مقاطعة (أمارة) ألمانية، إضافة إلى الممالك الأوروبية في فرنسا واسبانيا والسويد والدنمارك.
وقد شهد مسار هذه الحرب تحولات جذرية، وصلت إلى حدّ أن يقوم الكاردينال ريشيلو (رئيس وزراء فرنسا بين 1624 -1642) بتمويل جيوش الأمراء الألمان البروتستانت ضد آل هابسبورغ الكاثوليك، ثم أرسل الجيوش الفرنسية (الكاثوليكية) لتقاتل إلى جانب البروتستانت، وبمباركة من لويس الثالث عشر عام 1635. وفي الواقع، فقد كان هدف ريشيلو هو إنهاء أي قوة كاثوليكية أقوى من فرنسا. وخلال هذه الحرب تم تدمير معظم ألمانيا الهابسبورغية، وشهدت أوروبا حركات نزوح جماعية وفقاً للهوية المذهبية، وحدثت فيها أكبر حركة تغيير للمِلْكيات الفردية والجماعية.
صيرورة طويلة ومعقدة
وعلى ذلك، فقد انبثقت الدولة الحديثة وفق صيرورة وآلية تطوّر داخلية متعرّجة ومعقّدة، وجاء ظهورها كمحصلة لعملية تاريخية طويلة ولدّتها سلسلة حروب دموية ضارية عانت منها المجتمعات الأوروبية، قبل أن تفضي إلى إبرام معاهدة السيادة والاستقلال المذكورة. في حين أن هذه الصيرورة، أو هذا التطور، الذي استغرق تحققه مئات السنين في أوروبا لم يحصل في بلادنا. وعلى الرغم من نشوء الدول المستقلة حديثاً، إلا أنها لم تصل بعد إلى مستوى الدولة الوطنية، لا من حيث الولاء الوطني، ولا من حيث سيادة القانون. إذ ثمة ولاءات، ما قبل وطنية، اثنية ودينية ومذهبية وعشائرية وإقليمية جهوية، طاغية. وعليه، يمكن القول إن الحداثة السياسية لم تدخل في صلب مجتمعاتنا السياسية، سواء في البنى الفوقية أم في البنى التحتية. وما نشهده من صراعات ونزاعات سياسية حادة، واقتتال أهلي، خير دليل على ذلك.
وبصرف النظر عما اعترى الثورة الفرنسية من شذوذات وانتكاسات وخيبات في الكثير من الفترات والمراحل المتعاقبة لها، فقدشكّل النموذج الفرنسي للدولة-الأمة، أساس التنميط النظري الغربي لهذه الدولة. وكانت «الجمهورية الفرنسية» التي انبثقت عن الثورة، النموذج الأتمّ في عملية الإندماج القومي، فضلاً عن تقديمها مثلاً أعلى يحتذى على صعيد المضامين والقيم التي أفرزتها الجمهورية الوليدة، وفي مقدّمها مفهوم المواطنة، والحقوق الأساسية للإنسان. وقد لعب عصر الأنوار أو التنوير الفرنسي دوره المؤكد في إثراء «علمنة الدولة» الفرنسية بمضامين أكثر جذريةً، أقلّه مقارنة مع تلك المضامين التي عرفتها الدول البروتستانتية.
معضلات الدولة الحديثة في العالم العربي
وعلى أية حال، يمكن إجمال عوامل أربعة رئيسة لعبت دورها في تعثر، أو تأخر نشوء الدولة الوطنية الحديثة في عالمنا العربي، وهي:
1ـ الدور الخارجي أو الفوقي في انشاء الدول أو الكيانات الوطنية أو القطرية التي شكلت وفق اتفاق سايكس ـ بيكو:
وعدا عن طابع هذا الاتفاق الاستعماري، لجهة المصالح والأهداف المتوخاة منه، أو المنوطة به، فهو لم يأت حصيلة تطور موضوعي اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي لشعوب هذه المنطقة، ولم يترافق مع عملية إصلاح ديني، على غرار ما حصل في المجتمعات الغربية، بل وعلى النقيض من ذلك، فقد اتصف بطابعه «الهندسي» المبسّط في صناعة «الدول والأوطان»، حيث لم يُعِرْ أدنى اهتمام للمكونات الاجتماعية والديموغرافية والثقافية داخل أطر الأشكال الهندسية التي رسمها كحدود لهذه الدولة أو تلك.
وعلى ذلك، فقد خلق هذا الاتفاق الكثير من المشاكل والأزمات المستعصية داخل الأطر المنبثقة عنه. وهكذا يمكننا أن نجد العديد من الكتب والدراسات التي وضعت بشأن «المعضلات البنيوية» التي رافقت تشكل الدولة العراقية أو السورية ...الخ.
2ـ عدم قيام حركة إصلاح ديني تعمل على مواءمة وتكييف النصّ الديني مع معطيات ومتطلبات العصر الحديث، ومن هنا فلا زال التعارض، بل التضاد، قائماً حتى لحظتنا هذه، بين المنطلق، أو المرجعية الدينية والفقهية، وبين أسس وركائز بناء الدولة القومية أو الوطنية، فضلاً عن محتوى وشكل هذه الدولة. وهنا يمكن الحديث عن الدور السلبي الذي لعبته على هذا الصعيد، أغلب قوى وحركات «الإسلام السياسي»، والتي تصاعد وجودها ونشاطها داخل الدول والكيانات «الوطنية أو القومية» المشكلة حديثاً، في وقت لم تخف فيه عداءها لمفهوم الدولة القومية من أساسه. فهي ظلت تحنّ إلى دولة الخلافة الآفلة، التي قامت وتقوم على أساس ديني، وليس على أساس قومي أو وطني.
ومع ظهور وتوسع المنظمات الإرهابية، أخذ هذا الدور يكبر ويشتد. فخطورة هذه المنظمات ليست في تحديها وحدة أراضي الدولة، ووحدة سكانها، وسيادتها وحدودها فقط، بل يضاف إلى ذلك انفصالها التام عن العصر، وعن كامل معطياته وتطوراته.
3ـ الرفض الشعبي والسياسي للدول والكيانات التي انبثقت عن اتفاقات «سايكس بيكو»، وظهور الأحزاب القومية التي تطلعت إلى بناء الدولة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج، وقد استولت بعض هذه الأحزاب على السلطة في غير بلد عربي، وأقامت مشاريع لوحدات ثنائية أو ثلاثية، أخفقت جميعهاولم يكتب لأي منها النجاح أو الاستمرار.
وبمعنى آخر، فإن التيارات القومية ذات التوجهات الوحدوية، فشلت في بناء دولة الوحدة المنشودة على مستوى الوطن العربي ككل، كما أخفقت أيضاً في بناء وترسيخ أسس ومرتكزات الدولة الوطنية أو القطرية، داخل الحدود التي رسمها لها سايكس وبيكو، حيث نشهد الآن اجتياح الولاءات ما قبل الوطنية، ونشوب صراعات حادّة تبعاً لهذه الولاءات في قلب المجتمعات التي تتشكل منها تلك الدول، على نحو بتنا نترحم فيه على الدول والكيانات أو الهياكل التي رسمها اتفاق سايكس بيكو.
4ـ قيام دولة إسرائيل والصراع العربي ـ الصهيوني المفتوح، الذي شكل عائقاً موضوعياً أمام تنمية ونهوض مجتمعاتنا العربية ودولها من جهة، كما شكّل مشجباً (فريداً) عُلّقت عليه كافة عناصر الفشل والإخفاق والهزائم التي تسبّبت بها الأنظمة العربية والهياكل الهشّة للدول التي أقامتها، سواء الملكية أم الجمهورية منها، والتي لم تهدأ الصراعات البينية فيما بينها أبداً، على نحو أعاق عملياً أي نهوض داخلي فيها، وكذلك أي مستوى للتعاون والتنسيق فيما بينها.
والحال، فإن ما نشهده الآن من حروب وصراعات محلية وإقليمية ودولية في بعض دولنا العربية، وعليها، يبدو في أحد جوانبه وكأنه تكرار للحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر، قبل أن تفضي إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة.
تُرى هل سيتوجب على مجتمعاتنا أن تعيد الكرّة والصيرورة ذاتها التي مرّت بها الشعوب الأوروبية قبل أن تصحو وتتفق على أن هذا «النهج والمنوال المدمّر» لا يجدي ولا ينفع، ولا بد من الاهتداء، عاجلاً أم آجلاً، إلى صوغ عقد اجتماعي جديد، يقوم على بناء دولة تكون لكل مكونات المجتمع التي تعيش داخلها، وباختصار، دولة لكل مواطنيها دون أي تفريق على أساس ديني أو اثني أو مذهبي؟.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف