كتب محرر الشؤون الدولية
أقدمت موسكو على اتخاذ المزيد من الخطوات التصعيدية ضد أنقرة، على خلفية اسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية، ورفض أنقرة الاعتذار لها عن الحادث. فإلى جانب رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاجتماع به على هامش مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ الذي عقد قرب باريس (1/12)، وإقرار موسكو عقوبات اقتصادية طويلة الأمد ضد أنقرة، وإعلانها تسليح طائراتها الحربية في أجواء سورية بصواريخ جو- جو، إلى جانب ذلك كله، عاد الرئيس بوتين وجدّد اتهام بلاده لتركيا بالتغطية على تهريب النفط الذي يقوم به تنظيم «الدولة الاسلامية» في سوريا. وقال خلال مؤتمر صحافي على هامش قمة المناخ «لدينا كل الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأن قرار اسقاط طائرتنا اتخذ لحماية الطرق التي ينقل عبرها النفط إلى الأراضي التركية».
وقد رفض الرئيس التركي، الذي كان حاضراً أيضا في باريس، هذه الاتهامات وأعلن من هناك بأنه إذا ثبتت (اتهامات بوتين) فإن سيترك منصبه، مشدّداً على أن «تركيا تستورد حاجاتها من النفط بطرق قانونية»، ولا تتوسل «هذا النوع من التجارة مع مجموعات إرهابية».
وكانت تركيا، العضو في حلف شمال الاطلسي، أسقطت المقاتلة الروسية (24/11) معتبرة أنها دخلت مجالها الجوي، فيما نفى بوتين ذلك بشدة وطلب اعتذاراً. والحادث هو الأول الذي يتم فيه إسقاط طائرة روسية من قبل عضو في حلف شمال الأطلسي منذ عام 1952، ووصفه بوتين بأنه «طعنة في الظهر» ارتكبها «متآمرون مع إرهابيين».
أما الرئيس التركي فقد أبدى مرونة واضحة في تعامله مع الحادث، وأكد مراراً على عدم رغبته في تصعيد الموقف، معتبراً أن «تطوّر الأحداث لا يصبّ في مصلحة البلدين». وبأن «روسيا مهمة لتركيا كما تركيا مهمة لروسيا. البلدان لا يمكنهما الاستغناء عن بعضهما، ويجب ألا ندع القضية تتفاقم إلى حد يقضي على علاقاتنا بالكامل». كما عبّر عن «حزنه» لإسقاط الطائرة، وأمل بألا يتكرر هذا الحادث «أبداً». كما أقدمت أنقرة على خطوة عملية للتهدئة تمثلت بتسليم جثة الطيار الروسي الذي أسقطت طائرته إلى موسكو، بيد أن ذلك لم يرض موسكو وشدّدت على طلب الاعتذار.
وبحسب الرئيس الروسي، فإن معظم محاوريه على هامش مؤتمر باريس اتفقوا على أنه «لم يكن من الضروري أن تقوم السلطات التركية بإسقاط المقاتلة الروسية التي لم تكن تهدد تركيا».
وكان الرئيس بوتين ونظيره الفرنسي فرانسوا هولاند اقترحا تشكيل «تحالف موحد» للقضاء على تنظيم الدولة الاسلامية في سوريا، لكن يبدو أن ذلك صعب التحقيق بسبب الخلاف حول العديد من القضايا العالقة، فضلاً عن الأزمة الخطيرة التي نشبت الآن بين موسكو وأنقرة، والتي «ستزيد من صعوبة ترجمة هذا المشروع بشكل ملموس على أرض الواقع».
العقوبات الروسية
وقبل ذلك، كان بوتين وقّع مرسوماً تضمّن إجراءات عقابية تنوي روسيا فرضها على تركيا، والتي ليست سوى «خطوة أولى» بحسب مسؤولين روس، وهي «تشمل حظر الرحلات التشارتر ومنع أرباب العمل الروس من توظيف أتراك وإعادة العمل بنظام تأشيرة الدخول بين البلدين بداية من العام المقبل». فضلاً عن حظر استيراد منتجات غذائية، مثل الخضار والفواكه، من تركيا.
وكانت موسكو طلبت من مواطنيها عدم السفر إلى تركيا، الوجهة المفضّلة للروس، متحدثة عن تهديدات إرهابية، ما يمكن أن يحرم تركيا من أكثر من ثلاثة ملايين زائر روسي سنوياً. وفي هذا السياق، أكد رئيس الوزراء ديمتري ميدفيدف أن على أنقرة أن تتوقع إلغاء بعض المشروعات المشتركة بين البلدين. وأضاف أن الشركات التركية التي تنشط في كل شيء من مشاريع البناء إلى البيع بالتجزئة قد ترى نصيبها في السوق الروسية يتقلص.
وكانت العلاقات التجارية بين البلدين شهدت ازدهاراً كبيـراً في السنـوات الماضية، وأصبحت روسيـا أبـرز مـزود لتركيا بالنفـط والغـاز، لكن المرسوم الروسي لم يتـطرق إليها. ويرى محللون أن امتداد العقوبات إلى قطاع الطاقة يمكن أن يسبب أضراراً كبيرة للجانبين، وبأن أية عقوبات روسية ضد تركيا ستكون سلاحاً ذا حدين، وأنها ستكون لها تبعات على الاقتصاد الروسي، الذي يعاني من العقوبات الغربية وتراجع العوائد النفطية.
وهناك جانب آخر لعلاقات البلدين الاقتصادية يتصل بصادرات الحبوب الروسية إلى السوق التركية، التي بلغت نحو 3,5 مليون طن منذ بداية العام الحالي، ما يشكل نحو 12 % من إجمالي صادرات الحبوب الروسية. وقد ألمحت وزارة الزراعة الروسية إلى أن تلك الصادرات قد تتأثر، حين قالت إنها قادرة على تعويض هذه الصادرات عبر توجيهها إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا إذا اقتضت الحاجة.
يذكر أنه منذ صيف عام 2014، تفرض روسيا حظراً على معظم المنتجات الغذائية من الدول الغربية، التي فرضت عليها عقوبات بسبب اتهامها بالتورط في الأزمة الأوكرانية، ما يؤثر بشدة على المزارعين الأوروبيين.
المشهد الميداني
أما على الصعيد الميداني ، فالطيران الروسي بات يضرب في الشريط الحدودي مع تركيا، قريباً جداً من المعابر التي جاهدت المجموعات المسلحة للسيطرة عليها، والتحكم من خلالها بالإمدادات، لتؤمن لها دخلاً مالياً إضافياً، لكن وصول الغارات الجوية إليها أخيراً بدأ يعطي إشارات عن تحول في الوضع الميداني.
وبدا لافتاً في الأيام الماضية وقوع غارات جوية قرب معبر باب الهوى وصولاً إلى سرمدا في إدلب، وكذلك عند باب السلامة قرب إعزاز في ريف حلب، حيث طالت بحسب مصادر روسية شحنات إمداد تتجه للمجموعات المسلحة، بالإضافة إلى استهداف قوافل نفطية متجهة نحو جرابلس، وهي بدورها محطة حدودية مع تركيا التي تغلق جميع البوابات منذ آذار/ مارس الماضي وتسمح بالمرور فقط باتجاه الأراضي السورية.
جهود للتهدئة
وفي وقت يلقى فيه هذا التوتر في العلاقة الروسية - التركية اهتماماً دولياً عالياً، نظراً للإجماع على أولوية سحق «داعش» في سورية، في إطار عملية سياسية انتقالية هشّة، لا تتحمل الصدام والمواجهة بين البلدين، سعت عواصم دولية وإقليمية عدة من أجل التهدئة بين الطرفين، داعية كلاً من موسكو وأنقرة لـ«نزع فتيل التوتر والتوجه نحو حل الأزمة عبر الحوار».
وفي هذا الصدد، قالت الخارجية الروسية، إن إسقاط الطائرة الروسية سيعقّد مباحثات فيينا لإيجاد حلّ سياسي للازمة السورية، موضحة أن موسكو مصرة على إيجاد لائحة متفق عليها بشأن الجماعات الإرهابية قبل الجلوس حول طاولة مفاوضات جديدة. وفي المقابل، أعلنت مسؤولة الشؤون الأمنية والخارجية الأوروبية فيديركا مونغريني أنها تعمل على ضمان ألا يؤثر التوتر بين روسيا وتركيا على «مسار فيينا»، مشدّدة على أنه سيكون من الخطأ الجسيم إلغاء أو خفض مستوى التعامل الديبلوماسي والسياسي بسبب التوترات القائمة على الأرض.
قمة المناخ تتحول إلى قمة القضاء على داعش
سيطرت المعركة الدولية ضد تنظيم «داعش» على اللقاءات والتصريحات التي أجراها المشاركون في قمة المناخ بباريس، ما عكس حالة من الاستنفار الدولي لمواجهة التنظيم المتشدد، وخاصة بعد تفجيرات باريس التي أودت بحياة 130 شخصاً.
وإلى ذلك، تعهد حوالى 150 رئيس دولة وحكومة في افتتاح القمة (30/11)، ببذل أقصى جهد ممكن للتوصل إلى أول اتفاق ملزم لمكافحة الاحتباس الحراري الذي يهدد البيئة. واعترف الرئيس باراك أوباما بمسؤولية بلاده عن اختلال المناخ وتعهد مكافحة الاحتباس الحراري مع الحفاظ على التطور الاقتصادي.
وشكلت القمة فرصة لـ«قمم مصغرة» ثنائية أبرزها بين الرئيس الأميركي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، بحثا خلالها في ملفي سورية وأوكرانيا. كما التقى الرئيس الأميركي نظيره الصيني شي جينبينغ وتعهدا العمل معاً على التوصل إلى اتفاق لوقف انبعاثات الكربون المضرة بالبيئة، (الصين والولايات المتحدة أكبر بلدين ملوثين للبيئة)، فيما شدد الرئيس الصيني على أهمية أن تأخذ مفاوضات المناخ في الاعتبار، الفوارق الاقتصادية بين الدول، وأن يُسمح لكل منها بتطوير حلولها الخاصة لمشكلة الاحتباس الحراري.
وشكل الحضور العالمي للقمة مصدر ارتياح لفرنسا، خصوصاً وأنه أتى بعد اعتداءات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وفي مستهل القمة، قارن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بين محاربة الإرهاب ومكافحة التغيّر المناخي، وأشار إلى «الحضور غير المسبوق» للقمة، و«الرهان غير المسبوق» عليها، للتوصل إلى التزام لصون «مستقبل الأرض والحياة».

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف