- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-12-12
قد تعيد هذه الانتخابات رسم المشهد السياسي في فرنسا، بعد أن فرضت «الجبهة الوطنية»، العنصرية والشعبوية، نفسها طرفاً أساسياً في خريطة القوى السياسية
في ما لم تتعاف بعد من صدمة الهجمات الإرهابية الأخيرة، استفاقت باريس على وقع صدمة ثانية قد تكون أشدّ إيلاماً، وتمثلت هذه المرة بصعود اليمين المتطرف، بعد الفوز التاريخي لحزب «الجبهة الوطنية» في الدورة الأولى من انتخابات المناطق الفرنسية (6/12)، التي تسيطر المجالس المنتخبة فيها على وسائل النقل المحلية والتنمية الاقتصادية، إضافة إلى المدارس الثانوية والتدريب المهني. وجرى مؤخراً تقليص عددها من 22 إلى 13، علماً أن الدور الذي تلعبه هذه المجالس يبقى أقل بكثير من نظيراته في ألمانيا وإسبانيا على سبيل المثال، حيث تتمتع هناك بنفوذ واسع.
وتقدّم الحزب اليميني المتطرف في ست مناطق من أصل 13 بينها ثلاث مناطق أساسية. مسجلاً نتيجة قياسية جديدة بحصوله على أكثر من 28 % من الأصوات، ومتقدماً على الحزب «الجمهوري»، الذي حل ثانياً بأكثر من 27%. أما الحزب الاشتراكي بزعامة الرئيس فرنسوا هولاند، والذي كان يسيطر على كامل المناطق تقريباً، فتراجع إلى المرتبة الثالثة وحصل على 23,5 % فقط، وقد لا يستطيع الحفاظ على أكثر من ثلاث أو أربع مناطق في الدورة الثانية.
وتقدّمت «الجبهة الوطنية» بفارق كبير في ثلاث مناطق رئيسية، في الشمال في منطقة (نور با دوكاليه، وبيكاردي) حيث ترشحت رئيس الجبهة مارين لوبان وحصدت نحو 41% من الأصوات، وفي الجنوب الشرقي في منطقة (بروفانس الب كوت-دازور)، حيث تقدمت ابنة اختها ماريون ماريشال لوبان، وحصلت على أكثر من 41% من الأصوات أيضاً، وفي الشرق في منطقة (ألزاس شامباني أردان-لوران)، حيث تقدم فلوريان فيليبو أحد منظري الحزب.
وبعد أن كسبت الرهان في تحويل حزبها إلى الحزب الأول في البلاد، مستغلةً الرفض الشعبي للطبقة السياسية التقليدية في بلد يعاني من بطالة مزمنة تطال حوالي 3,6 ملايين شخص، إضافة إلى «الفوبيا» المنتشرة من الأجانب والإرهاب، أشادت لوبان بـ«النتيجة الرائعة» التي حققها حزبها، معتبرة أن الفرنسيين «يرغبون في إعطاء فرصة للجبهة الوطنية».
مشهد سياسي جديد
وفي وقت يجري فيه الاستعداد منذ الآن لانتخابات الرئاسة عام 2017، قد تعيد هذه الانتخابات رسم المشهد السياسي في فرنسا، الذي كان محكوماً لعقود من الزمن بمعادلة التناوب على الحكم بين قوتين تقليديتين، هما؛ اليسار الاشتراكي واليمين الديغولي التقليدي. أما الآن فقد فرضت «الجبهة الوطنية»، العنصرية والشعبوية، نفسها طرفاً أساسياً في خريطة القوى السياسية.
وفي الواقع، أكد اليمين المتطرف تقدمه الثابت في كل انتخابات منذ خمس سنوات، إذ حصل على 11,4 % في انتخابات المناطق عام 2010، و17,9 % في الانتخابات الرئاسية من العام نفسه، و24,8 % في الانتخابات الأوروبية العام الماضي، و25 % في انتخابات المقاطعات، آذار/ مارس الماضي.
ورأى محللون أنّ ما عبّر عنه الناخبون في استحقاقات انتخابية سابقة، شكّل مجرد «إنذار ضائع» لم تتعامل معه الطبقة السياسية التقليدية كما ينبغي. وما كان مجرد إنذار، قد يكون بصدد التحول إلى واقع محقق الآن.
وقد بدأت الإنذارات منذ انتخابات الرئاسة عام 2005، حين اضطر الرئيس السابق جاك شيراك الى مواجهة الرئيس السابق لـ «الجبهة الوطنية» جان ماري لوبان، في دورة ثانية. ثم توالت الإنذارات واكتست طابعاً أكثر جدية، مع انتقال زعامة الجبهة إلى مارين لوبن التي رسمت لها صورة أكثر مرونة، من دون أن تتخلى عن طروحاتها المتطرفة والمعادية لكل ما هو مختلف.
وعلى رغم ذلك، فشل مسؤولو اليسار واليمين على حد سواء في استخلاص العبر، وهم مستمرون في الحديث عن ضرورة محاربة «الجبهة الوطنية» بعد كل استحقاق انتخابي، ولكن مع إهمال أية معالجة جدية للمشكلات التي تغذّي شعبية الحزب اليميني المتطرف، علماً أنهم لو فعلوا ذلك لما وصلت الأمور إلى هذا الحد من الاهتراء، في بلد يعدّ من أعرق الديموقراطيات في العالم.
ومن الواضح الآن أن هجمات باريس، التي أوقعت 130 قتيلاً في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، قد أثرت في خيارات الناخبين، سواء في ميلهم نحو اليمين القومي المتطرف وخطابه المعادي للجوء وللمهاجرين، أم في ارتفاع نسبة التصويت، التي بلغت 49,5 %، بزيادة 4 نقاط عن الانتخابات الاقليمية السابقة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، قد تكون الهجمات نفسها وأسلوب الحكم (الاشتراكي) في التعامل معها (حيث لقيت إجراءات الرئيس فرنسوا هولاند الأمنية تأييداً واسعاً من الرأي العام)، ساهما في الحدّ من خسارة «الاشتراكيين» المتوقعة، وذلك بالنظر إلى الاستياء الشعبي الذي كان مسيطراً بسبب الوضع الاقتصادي والضائقة الاجتماعية، واخفاق السلطة التنفيذية في الحد من البطالة التي ارتفعت أخيراً إلى 10,2 %، وهو أعلى معدّل لها منذ العام 1997. وعلاوة على الإرهاب، ركّزت الحملات الانتخابية على القضايا الحيوية مثل معدل البطالة القياسي والبيانات الاقتصادية السيئة والدين الحكومي المرتفع وبطء الإصلاحات.
لكن وعلى رغم ذلك، فمن المرجّح أن تصل خسارة الاشتراكيين إلى حدّ فقدانهم أحد معاقلهم التاريخية، وهو المجلس الاقليمي لباريس، بعد أن تقدّمت مرشحة «الجمهوريين» الوزيرة السابقة فاليري بيكريس على المرشح الاشتراكي كلود بارتولون، الذي يرأس البرلمان الفرنسي. يذكر هنا أن الحزب الاشتراكي لن يتمكن من الاعتماد على أصوات باقي أطراف اليسار، من الشيوعيين وأنصار البيئة، بعد تقهقر هؤلاء الذين اقتصرت نسبة الأصوات التي نالوها على أقل من 5%.
أما الحزب «الجمهوري» فقد تلقى ضربة قوية في هذه الانتخابات أيضاً، بعد أن كان يأمل بتحقيق نتائج كبيرة فيها. وقد حالت انقساماته الداخلية والحملة الانتخابية غير المجدية التي خاضها زعيمه، الرئيس السابق نيكولا ساركوزي (الذي كان يعتزم البناء على انتصاره في هذا الاستحقاق، لتعزيز موقعه للفوز في السباق الرئاسي القادم)، دون جذب الناخبين إليه. وقد تكون اعتداءات باريس الأخيرة دفعت قسماً من ناخبي هذا الحزب إلى التوجه نحو اليمين المتطرف.
الدورة الثانية والتحالفات الممكنة
وتبقى النتيجة النهائية لهذه الانتخابات مرتبطة بموقف كل من الحزبين «الاشتراكي» و«الجمهوري» خلال الجولة الثانية، والتحالفات التي قد تعقد بينهما لقطع الطريق على «الجبهة الوطنية».
وقد وجد زعيم المعارضة اليمينية، ساركوزي، نفسه في موقف حرج بعد أن سارع وأعلن رفضه أي تحالف مع اليسار في الدورة الثانية من الانتخابات، معتبراً أنه يمثل «البديل الوحيد الممكن» في المناطق التي قد يفوز فيها حزب الجبهة. إلا أن الحزب الاشتراكي بادر وأعلن انسحابه من منطقتين رئيسيتين على الأقل في الدورة الثانية، بهدف تشكيل «سد جمهوري» لمنع اليمين المتطرف من الفوز بهما. والمعركة الانتخابية في هاتين المنطقتين تخوضهما زعيمة الحزب لوبان وابنة شقيقتها، وما حصلت عليه كلٌ منهما من أصوات في الدورة الاولى، يكفيهما للفوز بهاتين المنطقتين إذا ما تكررت النتيجة في الدورة الثانية.
قرار ساركوزي هذا عاد عليه بانتقادات كثيرة حتى في أوساط حزبه، من منطلق أنه، «سيزيد من فرص فوز الجبهة الوطنية». ورأت المسؤولة الثانية في الحزب ناتالي كوسوسكو موريزيه وجوب «فعل كل ما هو مفيد، لتفادي وصول اليمين المتطرف الى رئاسة أية منطقة». كما طالب حلفاء «الجمهوريين» بـ «سحب القوائم التي تحل في المرتبة الثالثة» في المنطقة التي يمكن أن تكسبها «الجبهة»، على غرار ما فعله الحزب الاشتراكي.
لوبان أوجزت الواقع الجديد في فرنسا بقولها: «أصبحنا الحزب الأول في فرنسا».
وهذا هو الواقع المؤسف الذي على الطبقة السياسية الفرنسية تكريس جهدها لمعالجة أسبابه؟!.
حزب «الجبهة الوطنية»
كغيره من الأحزاب الأخرى المناهضة للهجرة والوحدة الأوروبية في شتى أنحاء أوروبا، يسعى حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، الذي تأسس عام 1972، إلى استغلال حالة الهلع والذعر من المهاجرين والجهاديين للفوز في انتخابات المناطق المحلية.
وبعد اختراق كبير العام الماضي في كل من الانتخابات البلدية والأوروبية، يبدو حزب مارين لوبان، التي باتت زعيمة له منذ 2011، قادراً على الفوز في منطقتين على الأقل، إن لم يكن في ثلاث مناطق من أصل 13، وهو أمر، إن حصل، سيكون حادثاً غير مسبوق في البلاد، وسيكون انتصاراً كبيرا للجبهة الوطنية التي لم تسيطر مطلقاً على مثل هذه الدوائر منذ تأسيس الحزب.
ويتخوف كثير من الفرنسيين من هذا الصعود «الناري» لليمين المتطرف، إذ قال آلان ألبيرن من حزب الخضر (رئيس مجلس محلي سابق في منطقة كاليه): «هذا مؤشر سيء بالنسبة لفرنسا. الناس لا يدركون ما هو مخبأ لهم».