- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-12-17
الاستقتتال الإسرائيلي لنهب الأرض الفلسطينية واستعمارها لا يقابل بالرد الفلسطيني المناسب لا في الميدان ولا في السياسة
مساران متكاملان اشتغلت بهما الحكومات الإسرائيلية بشأن الاستيطان. الثابت فيهما ما يتصل بتعزيز بنيته على الأرض وتوسيعها. والمتحرك بالاتجاه نفسه هو الخطاب الرسمي الإسرائيلي بهذا الخصوص.
والملاحظ أن وظيفة الخطاب في كل مرحلة يقطعها الاستيطان هي نقله إلى المرحلة التالية بأقل ما يمكن من الأصداء الدولية المعارضة. والملاحظ أيضا أن هذا الخطاب يزداد وضوحا، ووقاحة كلما رأت هذه الحكومات أن شبكة الاستيطان باتت مشهدا مفروضا في أي مبادرة دولية تبحث في التسوية وتناقش مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
على ذلك مرَّ الاستيطان بمراحل عدة بدأت بزراعته بصمت وتوسيعه بذرائع ومن ثم الدفاع عنه كحق، ومؤخرا نشهد الانتقال إلى محاولة تشريعه وإلغاء الأساس القانوني لأي اعتراض بشأنه.
وهذا ما تعبر عنه الوثيقة التي أعدتها مؤخرا وزارة الخارجية الإسرائيلية.
فقد تداولت وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا أن وزارة الخارجية الإسرائيلية وضعت وثيقة يتركز مضمونها على تأكيد شرعية الاستيطان وقانونيته. وتزيد بأنه لا يتعارض مع القانون الدولي!.
والوثيقة ـ التي شجع على بلورتها نتنياهو ـ هي بالأساس إعادة تبويب لـ «الفتاوى» الإسرائيلية التي أصدرتها لجان شكلتها الحكومة وأبرزها «لجنة ليفي» التي خرجت بفتوى تخلص إلى أن الضفة الفلسطينية ليست أراض محتلة. وبالتالي فإن ما تقوم به إسرائيل في هذه المناطق شأن يخصها وحدها.
وإذ كان الخطاب الصهيوني قال سابقا بأن فلسطين أرض بلا شعب، فإن الوثيقة المذكورة «تجتهد» بأن الضفة الفلسطينية «داشرة» لا يملك أي كان صك ملكيتها؛ وبالتالي فإن إسرائيل لم تنتزعها من يد أحد، ولا يوجد من يحق له المطالبة باستعادتها. وتستبق الوثيقة أية طعونات بصحتها كالسؤال مثلا إذا لم يكن قطاع غزة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، فلماذا سحبتم مستوطنيكم وجيشكم منها، تقول الوثيقة إن الانسحاب لم يكن تعبيرا عن التزام قانوني بل خطة سياسية لا أكثر.
وإذا أردنا أن نلاحظ التلون الواضح في الخطاب الإسرائيلي المعلن بشأن الاستيطان نستذكر تصنيفات الحكومات الإسرائيلية في الثمانينيات من القرن الماضي بشأن المستوطنات عندما وزعتها على خانتين: أمنية وسياسية. الأولى لا مجال للتفاوض حولها لأن وجودها مرتبط بالاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، والثانية تقبل النقاش. مع إدراكنا أن هذا التصنيف مجرد مناورة لإشغال الرأي العام الدولي بهذا الجدل وإزاحة بوصلة الحديث عن ضرورة إزالة البنية الاستيطانية برمتها. ومر الخطاب الإسرائيلي بمرحلة دافع فيها عن التوسع الاستيطاني ربطا بـ«النمو الطبيعي» لا أكثر. لينتقل بعدها نتنياهو في بداية ولاية حكومته الثانية (2009) إلى القول بأن البناء الاستيطاني في القدس كما هو في تل أبيب شأن إسرائيلي خالص.
يمكن القول إن ما تبنيه إسرائيل على الأرض تدعمه بخطاب يسعى من جهة لتثبيت هذا «الإنجاز» والتعامل معه كأمر واقع، ومن جهة أخرى يحاول شق الطريق أمام الحكومة للبناء على هذا «الإنجاز» وتسويق ضرورة الاعتراف به. وهذا ما حصل خلال زيارة كيري مؤخرا لإسرائيل عندما طالبه نتنياهو باعتراف أميركي بشرعية الاستيطان مقابل تقديم رزمة من الحوافز الإدارية والاقتصادية للفلسطينيين.
الأمر المهم هو قراءة الهدف الإسرائيلي من وضع الوثيقة وتعميمها على سفارات تل أبيب والدعوة إلى مؤتمر قانوني لمناقشتها، مع معرفة الحكومة الإسرائيلية أن هذا الاجتهاد «القانوني» غير قابل للتسويق.
والوثيقة بكل فتاويها وخلاصاتها تستدعي من حيث الجوهر التحذير من وضع جهات دولية وإقليمية ومحلية أمام جدل يعيد الاعتبار إلى مقولة «أراض متنازع عليها» بدلاً من المطالبة برحيل الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية المحتلة. مع أن القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية واضحة في هذا الخصوص. وإلا .. لماذا صوتت ولا تزال تصوت إسرائيل ضدها في المحافل الدولية؟!
يوجد قلق حقيقي لدى الحكومة الإسرائيلية من تداعيات مقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية ووسم منتجاتها في أوروبا، ومن اتساع الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل. وناقش المجلس الإسرائيلي المصغر كيفية الرد على هذه الخطوات واتخذ قرارات عدة. وأحال مشاريع قوانين بهذا الخصوص إلى الكنيست. ومن ضمن محاور الخطة تكليف وزارة الخارجية التي يرأسها نتنياهو نفسه إلى شن حملة مضادة. وعلى اعتبار أن المناورة عنوان أساسي من خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن هذه الوثيقة تسعى إلى صدم الرأي العام الدولي على ما تحتويه من قلب للحقائق لدرجة يبدو فيها أن بقاء الاستيطان وضمه إلى إسرائيل هو نجاح في «عقلنة» الخطاب الإسرائيلي المستجد بشأن هوية الأراضي الفلسطينية المحتلة برمتها والحق السيادي الإسرائيلي «الأصيل» على هذه الأراضي. وبالتالي فإن الموافقة الإسرائيلية على بقاء الفلسطينيين وسلطتهم فيها هي مكرمة تقدمها تل أبيب. والأهم في كل هذا، أن التجربة على الأرض وفي السياسة لا تزال تؤكد أن الاستقتتال الإسرائيلي من أجل نهب الأرض الفلسطينية واستعمارها وفرض ذلك أمراً واقعاً، لا يقابل بالرد الفلسطيني المناسب لا في الميدان ولا في السياسة.
فمن المعروف أن إسرائيل وقعت أوسلو لأنها لم تجد فيها التزاماً يقيدها حول الاستيطان؛ كما بشأن القضايا الأساسية التي شكلت عناوين التسوية في ذلك الوقت. والعشرون عاماً ويزيد التي خسرها الفلسطينيون تضحيات ودم، كسبتها إسرائيل عشرات المستوطنات ومئات الآلاف المستوطنين وقبل ذلك تلك المساحات الواسعة من الأراضي التي تمت مصادرتها.
وفيما تتكثف خبراء فقهاء «القانون» في إسرائيل وتجتمع لتصدر فتاويها بشأن هوية الأراضي الفلسطينية وتمجيد الحقوق الإسرائيلية في فلسطين كلها، لا نجد الحالة الفلسطينية قد استفزها ما جرى وما يجري لتتجاوز خلافاتها الذاتية وتجتمع حول القواسم المشتركة التي حافظت عليها للأسف سياسات الاحتلال التوسعية والعدوانية .. أكثر مما حافظ عليها التمسك المفترض بها.