ليس ندباً ولا سعياً إلى وخز الضمائر. لكن غياب الالتفات إلى فلسطين مؤشر إلى سمات ملتصقة بالواقع الراهن. لعل أولاها، وأكثرها بداهة، أن من يشتد عليه الضيق أو المرض ينشغل عادة بنفسه ويعجز عن الاهتمام بسواه، ولو كان مقرباً منه. وأن هناك ثانياً حالة من الفوضى العارمة التي تجتاح المنطقة، بل اضطراباً في العالم كله، وهو جديد فعلياً مقارنة بالنظام أو الانتظام الذي عناه سايكس بيكو في المنطقة منذ مطلع القرن العشرين، ثم بالنظام أو الانتظام الذي عنته الحرب الباردة ثنائية القطبية التي هندست العالم حتى وقت قريب. ولعله كذلك اليأس من تبين حلول ومخارج للمسألة الفلسطينية، مما ليس جديداً عليها منذ ولادتها، حيث تمر بدورات من الفعل والتبلور، يعقب كل واحدة ما يشبه الاختفاء.
وتميزت الدورتان الأخيرتان، أي ظهور العمل الفدائي المنظم في 1965 و «دولة» منظمة التحرير، ثم الإقدام على اتفاق أوسلو، بطول مدتهما وباتصالهما الزمني، وبالرابط العميق بينهما، بحيث استولد الأول الثاني، وذلك بغض النظر عن مقدار القصد، والأهم، عن الانزياح في النتائج أو «الانحـراف» فيـها، كما يـحدث في كل الأفعال السياسية التاريخية التي كثيراً ما تُنتج ما لم يكن محسوباً أو مقدّراً أو مرغوباً.
حينما زار جون كيري إسرائيل قبل أقل من شهر، تكلم عن «استعادة الهدوء» وليس عن السلام (المتوقفة عمليته رسمياً منذ آذار- مارس 2014). اعتُبر الانزلاق اللفظي كبير الدلالة، ويتجاوز مجرد سعي الإدارة الأميركية إلى تهدئة خاطر الإسرائيليين... ليس إمعاناً في الانحياز لهم على الأرجح، بل لإتاحة المجال أمام تلك الإدارة للانصراف إلى شؤون أخرى أكثر إلحاحاً. تصريحاته التي دانت العنف الفلسطيني واعتبرت أن «لا مبرر في الكون لقتل أبرياء»، بغض النظر عن «الهدف والايديولوجيا والمعاناة»، أثارت حنق جميع الفلسطينيين، حتى السلطة. فهي بالطبع... ظالمة! ولكن كم يسهل (في كل القصص، صغيرها وكبيرها) إنزال مزيد من الظلم بالمظلوم الضعيف حين تحتاج الأوضاع الى تدبّر المعربد القوي والمؤذي... ما لا ينفي العطب العميق في السياسة العالمية وليس فحسب الامبريالية تجاه فلسطين.
لم يكتفِ نتانياهو بتطييب الخاطر الأميركي، الذي دان انتشار عمليات المقاومة الفردية الفلسطينية بسكاكين المطبخ والمقصات والمفارك والدهس بالسيارات... وهي مستمرة منذ أكثر من شهرين، وتواجَه برد قمعي بالغ العنف: 113 قتيلاً فلسطينياً بينهم حوالى النصف من «المهاجمين» وفق الإسرائيليين أنفسهم، بعضهم «مفترض» ومقتول على الشبهة والنية، والنصف الثاني هو «أضرار جانبية».
كان هدم منازلهم ومنازل ذويهم وسحب أذون العمل منهم، في عقاب جماعي ليس له مثيل في العالم، بل حتى الدخول الى المستشفيات وتصفية جرحى في أسرّتهم، ومعهم أقارب من الشهود على الفعلة، كما حدث في مستشفى في الخليل من قبل وحدة من «المستعربين» (قوات خاصة نظامية تتنكر لارتكاب عملياتها). وأيضاً وأيضاً مما لا حصر له: نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي تزور وادي سيليكون الأميركي وتحاول دفع «غوغل» و «يوتيوب» إلى وقف بث أشرطة العمليات الفلسطينية، وذلك «بهدف السلام»، لأن الأشرطة «تحرض على العنف والكراهية»، وهو ما يندرج في «الحرب على التحريض» المستعرة في العالم، (وتدّعي أن «التعاون تحقق» فيما تنفي «غوغل» ذلك بشدة!)، وهي القائلة بين أشياء أخرى أنها تحلم بأن يرفرف علم إسرائيل فوق الأقصى.
ووزيرة العدل تلاحق الفلسطينيين على مشاعرهم التي يكتبونها على «فايسبوك» وتعتبرها قرائن لإدانتهم واعتقالهم، وتلاحق جمعيات الحقوق الإسرائيلية التي تعترض على تصرفات القمع تلك، باعتبار هذه الجمعيات تتلقى تمويلات من الخارج (أي من الاتحاد الأوروبي أو من جمعيات غير حكومية أوروبية)، وتغلق إذاعات فلسطينية وصحفاً بما في ذلك في أراضي 1948... الجحيم!
على رغم كل ذلك، حاول نتانياهو توظيف تلك الزيارة والأجواء التي أحاطتها للإعلان عن استعداده لاستئناف «السلام»، شرط: اعتراف الأميركيين بحق إسرائيل في بناء وتوسيع المستوطنات التي «ستُضم لاحقاً لها» (أي في الضفة الغربية)، وبإسرائيل كدولة يهودية، والطلب من الرئيس محمود عباس إدانة العمليات الفلسطينية الجارية! بل تبجح وزير إسرائيلي بأن دولته برهنت على حسن نيتها بأن أوصلت الماء إلى مدينة روابي الجديدة بالقرب من رام الله (وهو مشروع تخترقه التباسات شتى، عمرانية واجتماعية واقتصادية)، وأجازت بكل سماحة، وبعد أشهر من المماطلة، بناء اللاقط الذي سيتيح للفلسطينيين الاستمتاع بالـ 3G... فماذا يريدون أكثر من هذا الازدهار؟
وأخيراً أكد نتانياهو قريباً من مستوطنة غوش عتصيون جنوب القدس، أن القوات الإسرائيليـة تدخل حيث تشاء وتفتش وتعتقل بمطلق الصلاحيات (لا أراضي «أ» ولا «ب» إذاً ولا من يحزنون، وهو ما نعرفه منذ زمن طويل، ولكنه هنا تحــوّل إلى إقــرار علني وامتــلك «الشــرعية» الكاملة). كما أوقفت محاكمة قتلة عائلة الدوابشة (الرضيع ووالديه) حرقاً من قبل مستوطنين، «لعدم كفاية الأدلة»، ولو أن هناك اعترافاً من المسؤولين الإسرائيليين بأن العمل «إرهاب يهودي»، كأنه استثناء، فيما تمارس إسرائيل إرهاباً دائماً ومنهجياً في كل المجالات ولا تطيق أية نأمة.
ومن المضحك مثلاً أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها ضد قرار الاتحاد الأوروبي منتصف الشهر الفائت، ليس بمنع منتجات المستوطنات من الدخول إلى أسواقه، وهو أضعف الإيمان، بل بتسجيلها بوصفها كذلك ووضع علامة عليها، ما يحرمها من التخفيضات الضريبية التي تتمتع بها سائر منتجات إسرائيل في الأسواق الأوروبية.
العالم إذاً منشغل عن فلسطين. وهو على أية حال حين كان «مــهتماً» بها فإما لم يُفلِح وإما قارب الأمــر مــن زوايــا مملوءة بالعوج. لكن المعضلة في مكان آخر. فإذا كان هناك اليوم استعصاء فلسطيني في تعريف المسألة الوطنية (ليس كشعارات وليس كنــيـة مقـــاومة، وهذه متــوافــرة، بل كتصور للأفق والمهمات والأدوات)، فتوأمه هو المأزق الإسرائيلي، على رغم كل الغطرسة والعربدة، بل ربما باعتبار الغطرسة والعربدة علامات على المأزق نفسه، وتجسيداً للحلقة المفرغة التي يزداد انغلاقها كلما أمعن فيهما. وكمثال هو غيض من فيض: ماذا تريد إسرائيل؟ ضم الضفة أم طرد فلسطينيي 1948؟
عن الحياة اللندنية

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف