لم تجد المواطنة المكلومة إيمان قنيطة مَن يساعدها في التعرف على مصير والدها وزوجها وابنها والعشرات من أقاربها، بعد أن سوت قوات الاحتلال منزلها وأكثر من سبعة مبان لأقاربها بالأرض.
وحال الدمار الشامل، الذي حل بمنزلها والمنازل الأخرى المجاورة لمستشفى الشفاء من الناحية الشمالية، دون تمكنها وعدد من أطفالها وأقاربها من إزالة أي حجر من ركام المنزل المكون من سبعة طوابق.
وخارت قوى قنيطة وباقي أفراد أسرتها بعد أكثر من ساعتين من محاولة البحث عن ابنها وزوجها ووالدها والمفقودين الآخرين، وسقطت في حضن أربع نساء من أقاربها وصلن الى المنطقة لتفقد أحوال منازلهن التي سوتها قوات الاحتلال، أيضاً، بالأرض.
وبعد أن استفاقت من غيبوبة دامت نحو ربع ساعة، سردت ايمان، في منتصف الثلاثينيات من عمرها، تفاصيل الليلة السوداء التي اقتحمت فيها قوات الاحتلال منزلها بالتزامن مع اقتحام مستشفى الشفاء.

عمليات إنزال وتنكيل
وقالت قنيطة والدموع تنهمر من عيونها: في تمام الساعة الواحدة والنصف من فجر اليوم الذي اجتاحت فيه قوات الاحتلال "الشفاء" قبل نحو 15 يوماً تفاجأت وباقي افراد اسرتي بانفجارات قوية وعنيفة تهز العمارة المكونة من سبعة طوابق، ما دفعني وباقي افراد الاسر الموجودة في البناية الى النزول للطابق الأرضي في محاولة للاحتماء من القصف والشظايا والركام الذي بدأ يتساقط من الأعلى، وخلال نزولنا من الطابق السابع تفاجأنا بعشرات الجنود يقتحمون المكان من أعلى العمارة بعد أن نفذوا عمليات إنزال بواسطة طائرات مروحية.
وأضافت: شرع الجنود بضرب كل الموجودين وإطلاق النار داخل المنزل والطلب منهم رفع أيديهم والجلوس، ومن ثم تكبيل أيديهم وعصب أعينهم ومنعهم من الحركة لأكثر من تسع ساعات قبل أن تقوم بفرزهم إلى مجموعتين؛ مجموعة تضم النساء والصغار، وأخرى تضم الشباب والرجال، حيث طلبت من المجموعة الاولى مغادرة المكان باتجاه المناطق الجنوبية فيما أبقت الشباب في المكان ولم يعرف مصيرهم حتى اللحظة.
وأشارت ايمان إلى أنها تمكنت وافراد اسرتها من سلوك طريق يؤدي الى حيّ الدرج لتجنب النزوح باتجاه محافظات الجنوب، مبينة انه ومنذ تلك اللحظة لم تعرف أي شيء عن مصير ابنها وزوجها ووالدها والعشرات من باقي افراد اسرتها، هل قامت قوات الاحتلال بتدمير المنازل فوقهم أم اقتادتهم الى سجونها؟
وتوقفت ناريمان للحظات بعد أن صرخ ابنها محمود الذي اعتلى ركام المنزل بعد أن رأى يداً لجثة شاب لم يتسن التعرف عليه بسبب عدم ظهور وجهه او أي ملامح اخرى من جسده.

احتجاز بظروف قاسية
وتابعت ايمان شهادتها عن ممارسات جنود الاحتلال خلال احتجازها واحتجاز باقي أفراد أسرتها طوال الساعات التسع، مشيرة الى أن الجنود رفضوا منحهم أي فرصة لشرب المياه او الاعتناء بالاطفال الرضع وكانوا يصرخون في وجه الأطفال الرضع عند بكائهم ويهددونهم بالقتل.
وأوضحت أن الجنود رفضوا السماح لأحد الاطفال بالتوجه لدورة المياه لقضاء حاجته، وطالبه أحد الجنود بارتداء الحفاضات كما يفعل هو. وبينت أن أحد الجنود وجّه كلامه للطفل قائلاً: ارتدي حفاضة كما افعل انا.
ولم يكن حال ام علي قنيطة افضل، حيث اخذت تصرخ وتطلب المساعدة من المواطنين والدفاع المدني وكل انسان، في رفع انقاض منزلها للتعرف على مصير باقي افراد أسرتها، الذين احتجزتهم قوات الاحتلال قبل إجبار النساء على الخروج من المنزل باتجاه المناطق الجنوبية.
وأوضحت ام علي في أواخر الاربعينيات من عمرها، أنها لا تعرف أي شيء عن مصير ابنائها وزوجها حتى الآن، مشيرة الى أن جنود الاحتلال لم يتأخروا في تدمير المنزل والمنازل المجاورة، بعد خروج النساء والأطفال منها.

تدمير منازل فوق رؤس الآمنين
ولفتت إلى أن أصوات انفجارات عنيفة هزت المنطقة بعد خروجهم من محيطها، معربة عن خشيتها من تدميرها فوق رؤس باقي افراد الأسرة الذين احتجزتهم في منطقة بين عدة منازل.
وفي صورة تعكس عمق المأساة، وقفت المواطنة سارة الهندي برفقة بناتها الثلاث وسط أكوام من الدمار، تنتظر زوجها الذي خرج من الصبح باكراً يبحث عن عربة "كارو" تنقلهم وبعض مقتنيات المنزل الى منطقة شرق غزة للسكن هناك، بعد أن دمرت قوات الاحتلال معظم أجزاء المنزل وجميع المنازل المجاورة.
وقالت الهندي لـ"الأيام" إن قوات الاحتلال حاصرت منزلها طوال فترة اجتياحها للمستشفى خلال 14 يوماً، ولم تسمح لهم بالخروج منه للتزود بالحاجيات ما دفعهم الى قضاء أيام طويلة دون تناول الطعام وفقط القليل من الماء، مبينة أن قوات الاحتلال لم تكتفِ بالحصار بل قامت بتدمير أجزاء واسعة من المنزل.
وأشارت إلى انها ربما تكون محظوظة كثيراً كونها نجت وأفراد أسرتها من الموت مقارنة مع جيرانها الذين استشهدوا تحت أنقاض منازلهم.

تفخيخ منازل
وأضافت وهي تشير الى منزل مجاور لمنزلها أن أكثر من ثلاثين شخصاً من أصحابه موجودون أسفل الركام بعد أن قام جنود الاحتلال بتفخيخه أمام أعينهم ومعرفتهم ومن ثم تفجيره.
وبدا الإعياء واضحاً على بناتها الثلاث اللواتي افترشن مساحة فارغة بين أكوام دمار عشرات المنازل في المنطقة المحاذية لمستشفى الشفاء.
أما المواطن محمود ابو القمصان فلم يستطع الوقوف من هول الدمار الذي أحدثته قوات الاحتلال في المنطقة، وعدم تعرفه بسهولة على منزله المدمر بسبب تداخل المنازل المدمرة وعمليات التجريف الواسعة التي نفذتها جرافات الاحتلال في المكان.
واستلقى ابو القمصان على ركام منزله يتأمله وسط فشله في العثور على أي من مقتنياته بسبب شدة الدمار. وقال إنه لا يعلم ماذا سيفعل خلال المرحلة القادمة بعد أن فقد منزله.

تدمير مستشفى الشفاء
وفي داخل مستشفى الشفاء غيّر العدوان ملامح المستشفى وأخرجه للابد عن الخدمة، بعد ان دمر كل مبانيه وأحرقها بالكامل وقضى على أي مقومات للعمل الطبي، وسط دمار وعمليات تجريف واسعة طالت جميع مرافقه.
وتحول أكثر من عشرة مباني في المستشفى الى خراب وسط تناثر لعشرات الجثث داخل تلك المباني او ساحات المستشفى، التي تحولت الى مجموعة من الحفر العميقة والمتوسطة.
ولم يسلم مبنى الجراحات التخصصي الأكبر، وكذلك قسم الاستقبال والمبيت والجراحات العامة من الدمار، وكذلك مبنى الحروق وعناية القلب والصدرية ومبنى العيادات الخارجية والولادة وثلاجة الموتى من الدمار والحرق.

عشرات الجثث المتناثرة
وانشغل المواطنون في البحث عن أقاربهم بين عشرات الجثث المتناثرة في فناء المستشفى والطرق الداخلية والتي تغيرت معالمها بسبب عمليات التجريف والهدم وسط خالات من الرعب والهلع.
وطال الدمار ثلاث مقابر وسط المستشفى، استحدثها المواطنون والطواقم الطبية منذ بدء العدوان لدفن الموتى والشهداء، لعدم قدرتهم على الخروج من المستشفى.
وأعاد مواطنون دفن عشرات الجثث التي ظهرت بسبب عمليات التجريف وسط حزن وبكاء لكثير من المواطنين الذين توافدوا من جميع مناطق القطاع لتفقد الدمار.
ولم ينجُ المرضى الذين بقوا في المستشفى من التنكيل والقتل، كما أفاد بعض شهود عيان الذين أكدوا لـ"الايام" أن جنود الاحتلال نفذوا عمليات إعدام بحق مئات المواطنين والمرضى.
وقال احد الشهود لـ"الايام" إن عمليات الاعدام تنوعت بين القتل المباشر عبر اطلاق النار وترك المرضى والجرحى ينزفون حتى الموت، وبين محاصرة العشرات في اماكن محدودة، وقطع المياه والطعام عنهم.
وأوضح ان قوات الاحتلال لم تترك لهم خياراً آخر غير الموت، والقليل من بقي على قيد الحياة ونجوا بعد أن اختبؤوا بظروف غاية في القسوة في أماكن محددة داخل المستشفى.
وذكرت مواطنة طلب منها جنود الاحتلال مغادرة المستشفى باتجاه الجنوب، أنها شاهدت دبابات الاحتلال تسحق عشرات الجثث بمحاذاة البوابة الجنوبية للمستشفى ومفترق العباس المجاور.
وأكدت مصادر طبية ان مستشفى الشفاء لا يصلح بعد الآن لممارسة أي مهام طبية بعد تدمير جميع مبانيه والأجهزة الطبية الموجودة بداخله.
وقال مصدر طبي لـ"الايام" ان تدمير المستشفى، وهو الاكبر في فلسطين، يمثل ضربة قاصمة للقطاع الطبي في فلسطين، وتحديداً في منطقة شمال غزة التي تعاني وضعاً كارثياً، بسبب تدمير جميع المستشفيات تقريباً.
وطال الدمار مئات المباني المحيطة بالمستشفى من جميع الجهات وبشكل خاص الجهة الشمالية، وصولاً الى أطراف مخيم الشاطئ، فيما طال الدمار من الناحية الغربية معظم المباني وصولاً الى شارع الرشيد المحاذي للبحر، فيما شهدت المنطقة الجنوبية للمستشفى دماراً هائلاً وتغييراً واضحاً في المعالم، كما هو الحال ايضاً بالمنطقة الشرقية التي تضم عشرات المحال التجارية والمرافق الصحية والطبية الخاصة والعيادات والمخابز والمباني السكنية ورياض اطفال.
ولم تعد المنطقة، التي كان يسكنها عشرات الاف المواطنين، صالحة للسكن او حتى للحركة، بعد أن تم تجريف وإغلاق جميع الطرق فيها والبنى التحتية.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف