ادلى أطباء اردنيون زاروا غزة بشهادات مروعة عن الأوضاع في القطاع في ظل الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ نحو ثمانية أشهر، والتي أوقعت حتى الآن أكثر من 36 ألف شهيد وأكثر من 81 ألف جريح، إضافة إلى آلاف المفقودين الذين ما زالوا تحت الأنقاض، فيما عم الدمار كافة أرجاء القطاع.
"أهل غزة ينتظرون مَن يربت على أكتافهم"، تلك الكلمات الثقيلة ترددت في ذهن الأطباء الأردنيين الذين زاروا قطاع غزة في نيسان الماضي.
وقال الطبيب عمر طه بصوتٍ يملؤه البكاء عند تعرضه لأحد المواقف في مستشفى غزة الأوروبي جنوب قطاع غزة "من أكثر القصص التي نقشت في قلبي ندوباً لا تُمحى، كانت قصة الطفل الصغير الذي بترت أطرافه الأربعة، وأُتي به إلى المستشفى لتنظيف جراحه بعد البتر، حينما قال الطفل بكلمات بريئة تمزق القلب واللهِ يا دكتور، ماما قالتلي إن الأطراف الأربعة ممكن تنمو مرة أخرى".
وقال: "في ذلك اليوم، كانت كلمات الطفل أكبر من أن أتحملها، وأشد من أن أواصل عملي بعد سماعها، كانت المرة الأولى والأخيرة التي تركت فيها عملي وعدت إلى مكان سكني، أحاول جاهداً أن أستجمع شتات نفسي، وأسترد قوتي لأعود مجدداً إلى ساحة العمليات، حيث ينتظرني الكثير ممن يحتاجون إلى عون وإلى بصيص أمل، مهما كان صغيراً".
وتابع: "عندما واجهتني حالة المريض الذي أصيب بقذيفة، وفقد كل شيء في لحظة واحدة، كلماته لم تغادرني أبداً عندما أمسك بيدي بقوة وقال بصوت ثابت، مَن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".
وبيّن أنه "غالباً ما نسمع من سكان غزة عن سعادتهم بشهدائهم أكثر من المصابين، يرون في الشهادة راحة وسلاماً، بينما ينتظر المصابون معاناة طويلة مع إصاباتهم، سواء بترت أطرافهم أو حروقهم، وقد يظلون يعيشون مع آلامهم حتى يشاء الله".
وذكر "تجربتنا كأطباء في زيارتنا إلى غزة كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر والتحديات، فالوضع الذي واجهناه لم يكن سهلاً بأي حال من الأحوال، زيارتنا لمستشفى غزة الأوروبي كانت بمثابة تحديات شاقة، حيث كانت الظروف غير مواتية والمخاطر تهددنا من كل جانب".
وحول أبرز التعقيدات والتحديات في تقديم الرعاية في غزة خلال الحرب، قال: "كان وجود عدد كبير من العائلات النازحة في المستشفى يزيد من تعقيد الأمور، وتفاقم الوضع بسبب عدم وجود صرف صحي ونقص الأدوات الأساسية التي تسهم في النظافة والتعقيم، وعدم توفر الأدوات الضرورية لمتابعة المرضى وضمان سلامتهم".
وأوضح طه، أنه رغم الجهود في تأجيل العمليات غير الضرورية وتقديم الرعاية للحالات الطارئة، إلا أن الحقيقة المرة كانت مؤلمة، حيث كانت معظم الحالات تتطلب تدخلاً عاجلاً نظراً للوضع القاتم الذي كان يعصف بالمنطقة بفعل القصف المستمر والإصابات الخطيرة التي نتجت عنه.
ولفت إلى أن كافة المستشفيات في قطاع غزة تعتمد بشكل كبير على الوفود لتلبية احتياجاتها الأساسية، سواء في توفير الأدوية الضرورية أو أي مستلزمات تتعلق بسير المستشفيات وإجراء العمليات الطبية.
ومن بين كل هذه الاحتياجات، يُشكل إغلاق معبر رفح تحدياً كبيراً يثير القلق الشديد، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى توقف الخدمات الطبية وإغلاق المستشفيات بشكل كامل.
أمّا عثمان الصمادي، دكتور في الهندسة الطبية بالجامعة الأردنية الهاشمية، فقال: "من القصص التي أثرت في قلبي، هي قصة الغزّي الصامد، هذا البطل الذي يحمل في داخله مبادئه الراسخة وروحه النبيلة، وجذوره العميقة في تراب الأرض، رغم الحصار القاسي، والقهر الذي يعيشه، إلا أنه ما زال ينبض بالمحبة، والعطاء، ويستقبل ضيوفه بتواضع مدهش".
وأضاف الصمادي: من القصص المؤلمة قصص النازحين الذين يضطرون للنزوح مرات عدة، ومنهم العاملون في القطاع الصحي الذين يتعرضون للنزوح رغم كونهم من أصحاب المنازل في الشمال. هؤلاء النازحون، الذين يعيشون في خيام بعيدة عن مناطقهم، يجدون أنفسهم يتجهون نحو أقرب مستشفى لمواصلة رسالتهم الإنسانية.
وتابع: "من الزملاء في الطب، هناك العديد الذين فقدوا أحباءهم وأسرهم وبقوا وحيدين، يأتون للعمل في المستشفيات بعد أن يعودوا، ولا يجدون مكاناً للإقامة، ومع ذلك، يظلون يعملون بجهد وتفانٍ، يعملون لساعات طويلة تتجاوز 12 ساعة في اليوم، وأحياناً حتى يواصلوا الليل بالنهار".
ونوّه إلى أن الأجهزة الطبية في غزة توقفت عن التحديث منذ أكثر من 20 عاماً، وهذا يعني أن الحالة الحالية ليست مجرد تحدٍ، بل هي أزمة تطال كل جانب من جوانب الحياة الطبية. ومنع دخول أي معدات جديدة، وحتى قبل الحظر الأخير الذي فرض في تشرين الأول الماضي، كان الوضع مأساوياً بالفعل.
أمّا الطبيب محمد جاموس، استشاري جراحة العظام والمفاصل، الذي زار قطاع غزة نهاية شباط الماضي، فقال: "التحديات التي واجهتها كانت بسبب نقص الكوادر الطبية وتدهور الوضع الصحي المحلي، إضافة إلى نقص الأدوات والمعدات الضرورية".
وأكد جاموس أن الحالات الأكثر صعوبة وتأثيراً كانت هي تلك التي تعاني من التهابات شديدة في الجروح، نتيجة لتأخر تقديم العلاج اللازم لفترات طويلة.
وأشار إلى أن الحالات التي تم التعامل معها في مجال الجراحة كانت غالباً متعددة الإصابات، وكانت تتطلب علاجات جسدية وعلاجات فيزيائية ونفسية لفترات طويلة.
وقال الطبيب النفسي الأردني عمار العطار، إن تأثير الحرب النفسي على الأفراد مستمر ولا يتوقف، بصرف النظر عن الظروف، طبيعة البشر تجعلهم يتأثرون بالعوامل المحيطة بهم، وهذا مثبت علمياً وطبياً على مستوى عالمي، فالحرب واحدة من هذه العوامل التي تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية، فما بالك إذا كانت الحرب تتسبب بإصابات، وفقدان أحباء، ونزوح، وتغيير الأماكن. كل هذه الأمور تؤثر بشدة على النفسية".
وأضاف: "عند دخولي إلى غزة، لاحظت تأثير الحرب بشكل واضح. مناظر الدمار، البيوت المقصوفة، والخيام، إضافة إلى عدم وجود الكهرباء ليلاً، كل هذا يخلق جواً من الكآبة تحت وطأة الحرب، تستطيع رؤية تأثير الحرب على وجوه السكان وملامحهم، رغم استقبالهم الحار لنا كوفد. النظرة الأولى قد تبدو إيجابية، لكن هناك الكثير من الألم المخفي تحت السطح".

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف