- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2015-12-27
تتجدد مشاريع الاستعمار معه، ولا تختلف في جوهرها كثيرا، وترصد ما يحيط بها او ما يوفر لها مجالاتها الحيوية وفرصها المستهدفة، ولا تتوانى عن تنفيذها والعمل بها. فإذا كانت بريطانيا وفرنسا في بداية القرن الماضي ومعهما روسيا القيصرية حينها هي الدول العظمى، ووقعت على اتفاقية سايكس بيكو التي فضحتها الثورة الروسية عام 1917 وكشفت النوايا المستترة وقتها، فان ما حصل وما جرى منذاك الى يومنا هذا هو من كوارث تلك السياسات الاستعمارية ومصالحها الستراتيجية. وإذا اضمحلت قوتها الان وصعدت قوى اخرى زرعت ركائز لها في المنطقة لمثل هذه الايام فان التهديد بما هو اشبه بمشاريع الاجداد، ليس جديدا او مفاجئا، حيث اثبت عمليا ان الاحفاد هم اسوأ في كل الحالات بالنسبة للوطن العربي خصوصا. ورغم كل التطورات والثورات في مختلف المجالات ظلت ستراتيجيات الدول "العظمى" هي ذاتها في الاستعمار والاستغلال والهيمنة واستعباد الشعوب. او هي هكذا تخطط وتضع المشاريع لها وبكل تأكيد لم تستفد من تجاربها السابقة ولا من دروس التاريخ، وتمارس السياسات ذاتها والقواعد التي اعتمدت عليها، ومنها استخدام المتخادمين معها في تمرير سياساتها وبرامجها.
تصريحات مديري الاستخبارات الفرنسية والأمريكية خلال مؤتمر حول الاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن (27/10/2015)، في العاصمة الأمريكية، مثال بارز ودليل كاف يقدم تلك السياسات ومخططاتها ومشاريعها العدوانية. ففي كلماتهما وما دار حولها من نقاشات يبرهن توجهات تلك الدول الاستعمارية وعملها الذي تجهز له كل وسائلها التدميرية والتخريبية وانتهاك القوانين والمواثيق الدولية. حيث تضع في مخططاتها تغيير الخرائط القائمة ورسم جديدة لأهداف اخرى، لا تحسب فيها اية مصالح للشعوب التي تعيش عليها او تقدر اراداتها وخياراتها الوطنية والقومية. وما حصل في المنطقة عند اجتماعات سايكس وبيكو وما بعدها يكشف ان ما جاء به احفادهما استمرارا لتلك المخططات والاتفاقيات، بل وبأشكال وأساليب اسوا منها وأكثر ضررا وابعد خطرا، لاسيما في الوطن العربي، وخصوصا بعد تفتيته وزرع الكيان الصهيوني لتقسيمه وتنصيب حماته والمدافعين عنه في المنطقة، سرا وعلنا. فما يطرح علنا من خطط تفتيت البلدان والشعوب العربية، وتدمير مكوناتها ومقوماتها ونهب ثرواتها وتكليف العدو الصهيوني عليها وابتزاز المتخادمين في توفير الحاضنات لها، والأرضية الملائمة، كما هو حاصل الان من ازمات مختلفة وحروب متعددة، في الوطن العربي، يفضح تلك الارتباطات ويدل عليها.
لماذا نشرت اقوال مديري الاستخبارات هذه في اغلب وسائل الاعلام وأجهزتها المعنية الان؟، وما الهدف منها، وهل هي بالونات اختبار؟ ام وقائع لمستقبل المنطقة العربية؟. ان الخطورة في كلامهما وتأكيداته في وسائل الاعلام الغربية خصوصا تكمن في وظيفتهما وطريقة الاعلان، اذ ان كلامهما ليس رأيا صحفيا او ردا في مؤتمر اعلامي. وأنهما لا يقولان اجتهادا بل كما يبدو او يتوضح، ما خططا له ورسماه في غرفهما السرية المغلقة وفي مشاريعهما المعبرة عن سياسات ستراتيجية غربية لسنوات قادمة. وما يحدث على الأرض في العديد من الدول العربية يوثق لهما او يصادق عليها ويفضح اعمالهما ورسائلهما المباشرة والواضحة. تصريح مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه، بأن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن دولا مثل العراق أو سوريا لن تستعيد أبدا حدودها السابقة".يضاف له تأكيد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون برينان، الذي أعرب عن ثقته في "أن المنطقة ستستقر مجددا في المستقبل وفق خطوط مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية". لا تصدر هذه التصريحات بهذا الشكل وهذا المضمون إلا إذا كانت هناك أهداف حقيقية يراد أن تصل لشعوب المنطقة، ورسائل وافية من احفاد سايكس بيكو وإضرابهما. حيث سبق وان سربت مثل هذه الاشارات والخطط ولكن لم تأخذ صدمتها مثل ما يجري الان في هذه التصريحات. ومن التجربة وما يحدث في المنطقة وقابلية التخادم والارتهان يخدم تلك المشاريع وتوجهاتها ويعيد للأذهان ما تم فعليا اثناء لقاءات واجتماع سايكس وبيكو حينها، وتبادل الادوار والمصالح والخدمات.
يثبت ذلك ما يحدث اليوم في العديد من الدول العربية والإصرار على اشغالها بالحروب الداخلية وصناعة ازمات مختلفة الابعاد والصعد لها ومحاصرتها بشتى الوسائل، الامر الذي يدخل في صلب هذه المخططات والمشاريع ويهيئ الارضية للنتائج التي عبر عنها المسؤولان الاستخباريان مؤخرا. علما بان اوساطا اخرى مثلهما او مشابهين لهما سبقتهما ايضا في تصريحات مشابهة او تهديدات مبطنة بتلك الخطط والمشاريع العدوانية.فسربت خرائط وبرامج عن تفكيك دول عربية وإقليمية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية. من بينها ما نقل عن مدير المخابرات الأمريكية السابق، مايكل هايدن، في تصريح لصحيفة "لو فيجارو" الفرنسية: أن هناك دولتين ستختفيان قريبا من منطقة الشرق ألأوسط مشيرا إلى أن اتفاقيات سايكس بيكو التي وضعت هذه الدول على الخارطة بمبادرة من القوى الأوربية عام 1916 لم تعكس قطّ الوقائع على الأرض. وقال هايدن: "لنواجه الحقيقة: العراق لم يعد موجودا ولا سوريا موجودة، ولبنان دولة فاشلة تقريبا، ومن المرجح أن تكون ليبيا هكذا أيضا"، مضيفا: لدينا الآن الدولة الإسلامية والقاعدة والأكراد والسنة والشيعة والعلويون فيما يسمى سابقا سوريا والعراق (!).
لخص البروفيسور إدوارد جاناثان، بجامعة جورج واشنطن، هذه الافكار بقوله "أن التقسيم أصبح الخطر الأكبر الذي يتربص بهذه المنطقة، وأن ما وصلت إليه دول العالم العربي من تشرذم وعجز عن أخذ زمام المبادرة بيدها، كان دافعا لمن يرى أن عناصر خطة تقسيم العالم العربي، طبقا لخارطة الشرق الأوسط الجديد، اكتملت، وأن مرحلة التنفيذ على أرض الواقع مسألة وقت فقط". فمن سيصدق قوله، ومن يرد عليه وعلى تصريحات غيره؟!.
رسائل احفاد سايكس بيكو واضحة وهنا السؤال عن الارادات والخيارات، لابد من الانتباه اليوم لها قبل الغد والتاريخ غني بالدروس والعبر والوقائع والصفحات بصددها، وقبل فوات الاوان.