النكبة التي حلت بمخيم اليرموك في 17/12/2012، شكلت منعطفاً تاريخياً في حياة الوجود الفلسطيني في سوريا، فقد كان اليرموك أكثر من مخيم، فهو إلى جانب كونه التجمع الفلسطيني الأكبر في سوريا، كان يشكل نقطة مركزية في منطقة جغرافية واسعة تمتد من الحجر الأسود، إلى القدم، إلى بلدات ببيلا ويلدا، إلى منطقة التضامن، والزاهرتين القديمة والجديدة.
كان في الوقت نفسه مركزاً تجارياً مزدهراً، والحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية. فيه المقرات المركزية للفصائل، وفيه مراكزها الثقافية والاجتماعية، وأنشطتها النسائية والشبابية، ومقرات اتحاداتها الشعبية، ضم في أرجائه نازحين سوريين من الجولان، ووافدين عراقيين، ازدهر في فترته الأخيرة بحيث تحول إلى المركز التجاري الأول في المنطقة، استقطب فروع الشركات المختلفة، بما فيها فروع المصارف الوطنية والخاصة. اجتياح المسلحين له في 17/12/2012، غيّر وجه المخيم حين تحول من منطقة تعج بالحياة إلى ساحة للقتال، ما ألحق به أضراراً واسعة، أدت إلى تدمير عشرات المباني، والبنية التحتية، حتى بات الكثير من أحيائه غير قابلة للحياة. غادره سكانه وانتشروا في أنحاء مختلفة من دمشق وضواحيها، والأخطر من هذا كله أن الفئات الوسطى، التي كانت تمنحه الحيوية السياسية والاقتصادية، من تجار، وأطباء، وصيادلة، ومحامين، ورجال أعمال ومثقفين، كانوا في مقدمة من غادروا سوريا، في ضوء النكبة التي حلت بالمخيم، تبع ذلك هجرة واسعة للشباب، بعد أن لحقت النكبة بباقي المخيمات، كسبينة في دمشق، وحندارات في الشمال ودرعا في الجنوب، ما ألحق تشوها في النسيج الاجتماعي للوجود الفلسطيني في سوريا، ومازال مفتوحاً على المزيد من الهجرة، خاصة في ظل البطالة، وفقدان مصادر الرزق، وعجز وكالة الغوث (الأونروا) عن حمل الأعباء كافة المتولدة عن النكبات التي حلت بمخيم اليرموك وغيره من المخيمات، وتقاعس م.ت.ف، عن مجمل واجباتها الوطنية نحو شعبها، ما ألحق الضرر بسمعة الفصائل الفلسطينية دون استثناء، وقدمها إلى الرأي العام الفلسطيني في سوريا عاجزة عن حل العديد من المعضلات التي تولدت عن انفجار الوضع في سوريا وتداعياته على الوجود الفلسطيني.
يعيش اليرموك الآن تحت وطأة الوجود المسلح لجماعة «النصرة» بشكل خاص، ومجموعات أخرى صغيرة تعيش على ضفاف «النصرة»، بعد أن غادرته عناصر «داعش»، في ظل الاتفاق الأخير مع الدولة السورية على مغادرة مسلحيه من الحجر الأسود، جنوب اليرموك إلى منطقة الرقة. وقد تعطل تنفيذ الاتفاق بعد مقتل زهران علوش، متزعم جيش الإسلام في الغوطة الشرقية. واستعادت المشاورات والوساطات دورها، لإقناع جيش الإسلام بالسماح لعناصر «داعش» بالمرور بمناطقه، في طريقه إلى الرقة شرق البلاد. وأفادت المعلومات أن مكتب الإعلام لدى «داعش» في الحجر، بدأ بتحضير دفعات من مقاتليه لمغادرة الحجر الأسود في الأيام القليلة الماضية.
يعيش في اليرموك حوالي 8 آلاف فلسطيني، معظمهم من كبار السن. يتواجدون بشكل رئيسي في المناطق الجنوبية من المخيم بعيداً عن خطوط التماس، وهو يفتقد إلى الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية، كالماء، والكهرباء، ووسائل الاتصال، ومراكز الرعاية الصحية والمدارس وغيرها. واجهته موجات من الجوع أودت بحياة العشرات من أبنائه، كذلك أودت الحرب والاشتباكات بعشرات آخرين. ولولا انفتاحه جنوباً على بلدتي يلدا وببيلا، ولولا المساعدات الغذائية التي توفرها وكالة الغوث لسكانه، بين فترة وأخرى، يبقى اليرموك ضحية الجوع والمرض. تتواجد في اليرموك مجموعات ناشطة من ممثلي الفصائل، كمنظمتي فتح والجبهة الديمقراطية بشكل خاص، تقتصر أنشطتها على معالجة القضايا الاجتماعية والحياتية اليومية للمخيم بالتعاون مع وكالة الغوث، وممثلي الفصائل الفلسطينية خارجه.
يشكل اليرموك ساحة اشتباكات شبه دائمة بين عناصر «التحالف» الفلسطيني خارجه [القيادة العامة والانتفاضة بشكل خاص]، وعناصر «النصرة» داخله، خاصة في خاصرته الوسطى المطلة على تقاطعات شارعي لوبية وصفد، وهي اشتباكات لا تغير من الخريطة العسكرية شيئاً يذكر، بقدر ما تشكل عنواناً دائماً للحالة العسكرية المتوترة التي يعيشها المخيم، المحاط من جوانبه كافة، [ماعدا جهات ببيلا ويلدا والحجر الأسود حيث العناصر المسلحة للقوى المعارضة] بالسواتر الترابية، التي تجعل منه محاصراً من جهة دمشق. مثل هذا الواقع جعل من الحياة في اليرموك جحيماً لا يطاق، خاصة في ظل الارتفاع الجنوني للمواد الغذائية والحاجات الإنسانية، والبطالة التي تجتاح الوجود كله.
في الفترة الأخيرة تحركت الوساطات على خط اليرموك، خاصة بعد أن اتفقت الدولة السورية مع عناصر «داعش» المتواجدين في «الحجر الأسود»، وأجزاء من اليرموك على المغادرة إلى الرقة.
الوساطات تحدثت عن إمكانية الوصول إلى «مصالحة» مع عناصر «النصرة»، في حال انسحب عناصر «داعش»، حيث ستجد «النصرة» نفسها مطوقة من أكثر من جهة، وستفقد عمقها الاستراتيجي المتمثل في الحجر الأسود. أما يلدا وببيلا فلا تشكلان هذا العمق كونهما تابعتين لقوى مسلحة أخرى على خلاف مع «النصرة» وترتبط بشكل معين «بجيش الإسلام» في الغوطة الشرقية.
الاتفاق المبدئي، ينص على إجراء تسويات لعناصر «النصرة» مقابل أن يسلموا أسلحتهم للدولة. بعدها تتولى فرق فنية الكشف على المخيم، لتنظيفه من آثار الحرب، والألغام والقذائف غير المتفجرة، والأماكن المفخخة وغيرها، ثم تتولى قوة من فصائل المقاومة الفلسطينية ــــ وليس من الدولة ـــ تمشيط المخيم، خوفاً من أية مفاجآت. هذه القوة، والتي قدر عددها بحوالي 300 عنصر ستتولى الإمساك بأمن محيط المخيم [من شارع الثلاثين غرباً، إلى مداخل الحجر الأسود جنوباً، إلى شارع فلسطين على التماس مع منطقة التضامن شرقاً، إلى مداخله الشمالية. وإغلاق الثغرة المفتوحة على المسلحين في يلدا وببيلا من دوار فلسطين.] أما الأمن الداخلي للمخيم فتتولاه قوة أخرى من الفصائل تعدادها حوالي 150 عنصراً تتواجد في مخافر لها داخل المخيم. أي بعبارة أوضح استنكفت الدولة السورية عن الدخول إلى المخيم، وأحالت مسؤولياته الأمنية إلى الفصائل الفلسطينية [الفصائل الــ14 التي تضم فصائل م.ت.ف، والتحالف].
فتح باب العودة إلى المخيم، سيعني الفتح على ورشة إنمائية إنسانية بلا ضفاف. فإعادة الحياة إلى اليرموك ستكون قضية شديدة التعقيد، أهمها أن يعود سكانه إليه، وهذا يتطلب ورشة كبرى في إعادة الأعمار، لا تتوفر حتى الآن موازناتها الضخمة، فضلاً عن توفير فرص العمل للسكان، في وضع اقتصادي عام في سورية يشكو العطب بفعل الحرب الدائرة، حيث من المستبعد في القريب المنظور، وربما المتوسط، أن يستعيد اليرموك مركزيته التي كان يتمتع بها، خاصة في ظل الهجرة الواسعة التي طالت الفئات الفاعلة والنشطة والشابة من أبنائه.
مخيم اليرموك ما بعد 17/12/2012، لن يكون على شاكله ما كان عليه قبل هذا التاريخ. لكن تبقى عودة سكانه إليه، والخلاص من آلام التهجير والنزوح مكسباً مهماً، يفترض مواصلة الجهود لتحقيقه. فأياً كان الوضع في الأيام القادمة، بعد العودة، فإنه سيكون أفضل بكثير مما كان عليه، وسكان المخيم مشردون في المدارس والأبنية المدمرة، وخلف الحصار

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف